يوم عرفات
في هذا اليوم يقف المسلمون من جميع أقطار العالم على جبل عرفات، يؤدون شعيرة من أهم شعائر الإسلام، ولست أنسى ذلك اليوم وقد وقفت فيه هذا الموقف منذ ثلاث سنوات، فكان موقفًا رائعًا جليلًا لا تغيب ذكراه على مدى الأيام؛ ففي السابع والثامن من شهر ذي الحجة يخرج الناس من مكة قاصدين عرفة؛ وهم محرمون؛ قد لبسوا لباسًا ساذجًا بسيطًا، رداء أبيض، ونعلين بسيطين، قد عريت رءوسهم، وتجنبوا لبس المخيط، يرمزون بلبس البياض إلى طهارة القلب، وطهارة الأعمال، ونقاء السر والعلن، ويتجنبون المخيط؛ ليدلوا بعملهم على بساطتهم الأولى، وتجردهم من زخرف المدنية وتعقيد الحضارة، ويمثلون بفعلهم ولباسهم ما كان يفعله ويلبسه أبوهم إبراهيم — عليه السلام — وهو الذي أذن في الناس بالحج؛ فأتوه من كل فج؛ فهم بإحرامهم هذا قد ذكروا الإنسان في بساطته قبل أن تقيده المدنية بقيودها الثقيلة وتقاليدها المتعبة؛ حتى كأنهم يقولون: إننا رجعنا إلى الله كما خلقنا، متساوين في مظاهر العيش، متخلين عن الأبهة الكاذبة، والمعيشة المصطنعة، لقد أخرجنا الله إلى هذا الوجود متساوين في التجرد، فلبسنا في مهدنا أبسط اللباس، وسنموت فنكفن في أبسط لباس، فلنذكر ذلك كله الآن في ملبسنا البسيط المتساوي، ونكون أقرب إلى الله قرب المولود من خالقه، والميت من ربه، ونحن زاهدون في زخرف الحياة كما يزهد الراهب الصادق في ترهبه، أو كما يزهد المتصوف المخلص في تصوفه.
يخرج الناس من مكة على هذا الوضع، لا تتبين منهم غنيًّا ولا فقيرًا، ولا شريفًا ولا وضيعًا، فالغنى والفقر والشرف والضعة، أوضاع خلقها الناس، واصطنعوها وزيفوها، يخرجون على إبلهم ودوابهم، وحبذا لو استمر ذلك؛ فالمظهر كله منسجم، أبسط ثياب على أبسط دواب، ولكن في السنين الأخيرة زاحمت السيارات الإبل فغلبتها، وأضاعت انسجام الحياة، فتميز غني من فقير، ومكثر من مقل.
يتجه الخارجون من مكة إلى عرفة نحو الشرق، ثم يميلون ميلًا خفيفًا إلى الجنوب، وإذ ذاك يسيرون في واد بين جبلين، وبعد مسافة ليست بالطويلة تجد على يسارك جبلًا سمي جبل النور، بني على قمته العالية قبة يلمع بياضها.
هناك في هذه القمة غار يبلغ ثلاثة أمتار في مترين، كان يخرج إليه النبي ﷺ فيقضي فيه الأيام ذوات العدد؛ حتى قد تبلغ الشهر، كان يفر إليه من الناس وضوضائهم وباطلهم، كان يشرف من أعلى هذا الجبل على العالم من تحته؛ فينعم بالطبيعة وجمالها، والليل وهدوئه، والسماء ونجومها، ثم يفكر في الناس فيهزأ بسخافاتهم هزؤًا مشوبًا برحمة، واستخفافًا ممزوجًا بعطف.
كان يهرب إلى هذا الغار؛ لأنه عرف باطل الناس وأراد الحق، وعرف ما هم فيه من ظلام، وطلب النور؛ حتى إذا تهيأت نفسه للحق، واستعدت روحه لليقين، نزل عليه الوحي فلمع في قلبه النور الإلهي، فإذا الحق واضح، وإذا الله معه، ونزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه وأن يحيوا قلوبهم من حياة قلبه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره.
ذلك هو جبل النور الذي يمر عليه السالك من مكة إلى عرفة، وهذا هو غار حراء الذي في قمته.
ثم ينعطف السائر نحو الجنوب ويسير نحو خمسة كيلو مترات فيصل إلى منى، وعند دخولها يجد السائر على يساره جمرة العقبة، وهي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وعرضه نحو مترين، أقيم على قطعة من الصخر، وبني أسفل هذا الحائط حوض يسقط فيه الحصى الذي يرميه الحجاج، هذه هي جمرة العقبة التي يرميها الحجاج بما يجمعون من حصى بعد عودتهم من عرفة؛ رمزًا إلى أنهم قد قويت إرادتهم، وغزوا بواعث الشر في نفوسهم، ورجموا الشيطان؛ فلم يستمعوا لدعوته، ولم يقعوا في حبائله التي ينصبها عن طريق الشهوة.
ومنى مكان متسع يخيم فيه الحجاج قبل رحيلهم إلى عرفة وبعد عودتهم، وفيها سبيل يمجد ذكر مصر، وينتفع به الحجاج من سائر الأقطار، يتزودون من مائه الذي جلب إليه من عين زبيدة، فيوفر عليهم كثيرًا من العناء، ويسبغ عليهم الرخاء والهناء.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة — أي في مثل يومنا هذا — يخرج أكثر الحاج من منى قاصدين عرفة، فيسيرون في واد بين جبلين يتسع حينًا، ويضيق حينًا، يمرون فيما يمرون على المزدلفة بعد ساعتين من منى، وعلى مسجد نمرة، وبعد قليل من المسجد تجد العلمين؛ وهما عمودان من البناء يبعد أحدهما عن الآخر، يرتفع العمود نحو خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، وهما يدلان على حدود عرفة فيما وراءهما؛ وإذ ذاك تجد جبلًا قد حلق على الوادي وأقفله في شكل قوس كبير؛ هو جبل عرفة، وفي الجهة الشمالية منه لسان يبرز إلى الغرب يسمى جبل الرحمة، وفيه صخرة كان يقف عليها الرسول ﷺ وعليها يقف الخطيب اليوم.
في هذا المكان في جبل عرفة يقف الحجاج جميعًا على اختلاف مذاهبهم يوم التاسع، وجزءًا من ليلة العاشر، يعجون بالتلبية والدعاء، والتسبيح والتهليل، ومن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
عند ذاك ترى منظرًا عجبًا؛ قد تجمع آلاف الناس في هذا الجبل وحوله بملابسهم البيضاء، واتحدوا في التوجه إلى الله على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، قد ربطتهم وحدة الدين، وألفت بينهم وحدة القصد، اتجهوا كلهم إلى الله يزلزلون الجبل بدعائهم وتلبيتهم، قد نسوا دنياهم، ونسوا أنفسهم وتعلقت أرواحهم بربهم، يتجلى على وجوههم الوجد والهيام، وتغلبت روحانيتهم على ماديتهم، وانقلبوا ملائكة أطهارًا؛ هذا يستغفر مما جنى، وهذا يندم على ما فات، وهذا يعاهد الله على الطهر الدائم، وهذا يبكي ندمًا، وهذا يستبشر أملًا؛ وكلهم متعلقون بربهم، يرجون افتتاح حياة جديدة؛ عمادها التقوى والإخلاص، وهم يتنقلون من نوع من الهتاف إلى نوع آخر، هؤلاء يعجون: لبيك اللهم لبيك، وهؤلاء يتلون آيات من القرآن في عظمة الله ووحدانيته.
وعلى الجملة يغمر الناس نوع من الفيض، يعجز القلم عن وصفه.
وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ينهض خطيب عرفة، ويصعد بناقته على الجبل، ويقف على الصخرة التي وقف عليها رسول الله ﷺ، ويخطب خطبة يعلم فيها الناس مناسك الحج، ويكثر فيها من التلبية والدعاء، ومن دونه قوم يبلغون قوله للناس، ويلوحون بمناديل يشيرون بها إلى التلبية، فيتابعه كل الناس بتلبيتهم؛ فتتحد نداءاتهم، ويغمر الناس شعور غريب.
وهو موقف يمكن أن يستغله المسلمون أحسنَ استغلال، فيؤتى بالمكبرات الصوتية، وتعد فيه الخطب الرائعة باختلاف اللغات؛ متضمنة نصيحة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وما يوقظ هممهم، ويحيي آمالهم، ويوحد صفوفهم، ويوجههم أصلح وجهات الحياة؛ وفي هذا الاجتماع فرصة كبيرة لتلاقي ذوي الرأي من المسلمين في الأجناس المختلفة، يتبادلون الرأي فيما يصلح أممهم، وينير السبيل لمستقبلهم.
إذًا لأدى الحج خدمة كبرى اجتماعية، بجانب الشعائر الدينية.
حتى إذا غابت الشمس في الأفق أعلن تمام الموقف، فينفر الناس من عرفات هاتفين هتاف الفرح والسرور على ما وفقهم الله من أداء الفرض.
هذا ما يفعل الحجاج في هذه الليلة، وهم قد أتموا وقوفهم بعرفة، وسعدوا بهذا المنظر الجميل، وامتلأت نفوسهم؛ رغبة في الخير، وحبًّا في الله، وهم في مثل هذا الوقت يفيضون من عرفة عائدين إلى المزدلفة؛ ليتموا شعائر الحج.
هذا هو الوقوف بعرفة، وهو أهم ركن من أركان الحج، من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج؛ والعلة في ذلك أنه أهم جزء في الحج يحقق حكمته، ففيه يجتمع المسلمون من جهات العالم في وقت واحد، ومكان واحد، يتجهون اتجاهًا واحدًا ويهتفون هتافًا لغرض واحد؛ متضرعين إلى الله، راجين منه تكفير خطاياهم، راغبين توالي نعمه عليهم، والنفوس إذا تجمعت بهذه الكيفية لا يخليها الله من رحمته، ولا يحرمها من إجابة ما تطلبه؛ وقد رمز رسول الله ﷺ إلى ذلك بقوله: «ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة»؛ فقد تطهرت النفوس فيه بالندم على ما جنت، وعقدت فيه العزم على افتتاح صفحة جديدة في حياتها تتجنب الإثم، وتفعل ما أمرت به، وهذا المكان لم يصل إليه الحجاج إلا بكثير من المشقة، وكثير من الشوق، فتتفتح النفوس لتحقيق هذا الغرض، وتتوالى عليها رحمة الله ومغفرته.
وفي الحج كل عام رباط بين المسلمين وتوثيق لصلاتهم، وتعظيم لشعائر الدين التي توارثها الناس جيلًا عن جيل إلى إبراهيم وإسماعيل — عليهما السلام — واجتماع كلمة المسلمين، ومجال للتفكير في شئونهم، ومداولة الرأي فيما جد من أمورهم، ومداواة ما لحق بهم، والعمل على إنهاضهم.
وبينما يقف الحجاج بعرفة ويتمون مشاعرهم بالمزدلفة ومنى، يشترك من لم يقدروا على الحج بهذه الذكرى، فيتخذون هذه الأيام أيام عيد، ويصلون صلاة العيد، ويهتفون هتاف الحجاج: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، فتتجاوب هذه النداءات في جميع الأقطار، ويهتفون: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فتتلاقى قلوب المسلمين وهتافاتهم على معنى واحد، واتجاه واحد؛ وذلك أحرى أن يتعاونوا على الخير، ويتواصوا بالحق وبالصبر، يهتف القوم في أماكن الحج، فيردد المسلمون نداءهم في بقاع الأرض.