غاندي، ذلك الضعيف الجبار
غاندي هو أعظم رجل أنجبته الهند بعد بوذا، ولا يرتاب العارفون بنزعات الهنود في أن غاندي بعد موته سيبلغ ما بلغه بوذا من عبادة وتقديس، ولقد يزعم بعض الزاعمين أن غاندي قد ضؤل اسمه، وانكمشت سطوته، وانمحى كثير من مجده، ولكنه زعم باطل موهوم، فهو عظيم الهند غير مدافع، وحسبك أن ترى بني قومه يتسابقون ليظفروا بتقبيل موطئ قدمه!
ولعل أروع ما يأخذ العين من هذا الجبار العجيب مزجه السياسة بالدين مزجًا رفعه إلى منزلة القديسين الأطهار والساسة الأفذاذ في آن معًا؛ ولو أمعنت النظر إلى سيرته لألفيتها مجموعة من متناقضات ظاهرة، لا تلبث النظرة الفاحصة أن تتبين فيها اتساقًا وانسجامًا ووحدة … فهو مسالم وادع منذ الطفولة الأولى، ولكنه إبان إقامته بإفريقيا الجنوبية أخذ يحشد الجنود لتخدم في إسعاف المحاربين في حرب البوير؛ وهو الذي أخذ يصارع إنجلترا صراعًا متصلًا، ولكنه اليوم أكبر أصدقاء الإنجليز في ظل الدستور الجديد؛ لأنه ارتأى أن استقلال الهند في الظروف الحاضرة يحققه التعاون مع إنجلترا أكثر مما يحققه استئناف الكفاح؛ وهو ينظر إلى العلم الحديث نظرته إلى الكارثة الفادحة حلت بالبشر، ولكنه يسافر بالقطار والسيارة، ويستعين على ضعف بصره بالمنظار؛ وقد كان من المؤتمر الوطني الهندي بمثابة الروح من الجسد، ومع ذلك لم يكن عضوًا فيه؛ وهو يمس كل موضوع من ناحيته الدينية، ولكن أحدًا لا يدري من يعبد وبمن يدين … وهكذا؛ كلما أخذت في دراسة الرجل تبينت فيه مواضع تناقض تقتضيك البحث والتفكير.
وأهم ما يشغله اليوم مشكلة المنبوذين الذين آلى على نفسه أن يرفع من شأنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ ففي الهند أربع طبقات وراثية أنشأها الآريون الغزاة في عصر راسخ في القدم، أنشئوها لتكون لهم بمثابة الحصن المنيع يصون دماءهم أن تمتزج بدماء الأهلين … وأولى هذه الطبقات: طبقة البراهما؛ ومنهم القساوسة والعلماء، ثم: طبقة الكَشاتريا؛ وهي تؤلف فريق المحاربين، والثالثة: طبقة الفيسيا؛ ويشتغل أبناؤها بالتجارة — وهذه هي الطبقة التي خرج منها غاندي — والرابعة: طبقة السودرا؛ ومنهم يخرج العبيد والخدم.
ومما يلفت النظر أن طبقة البراهما وهي أرفعها ينشأ منها أغلب الطهاة في الهند، والأصل في ذلك أنها طبقة الأطهار؛ فلا خوف أن يدنس أبناؤها الطعام والشراب، ولذلك ترى الأسر من سائر الطبقات تؤثر أن يكون طهاتها من أولئك الأنقياء … أما المنبوذون فهم فريق لا يدخل في هذه الطبقات الأربع، وهم يبلغون واحدًا وخمسين مليونًا من سكان الهند؛ الذين يقرب عددهم من ٣٥٠ مليونًا.
ليس أمر المنبوذين مقتصرًا على فقرهم المدقع، بل هم إلى جانب هذا يقاسون الزراية والامتهان، فلا يجوز لأبناء المنبوذين في بعض جهات الهند أن يلتحقوا بالمدارس، ولا يسمح للمنبوذين أن يستمدوا ماء شرابهم من البئر التي يستمد منها سائر السكان ماءهم؛ وأقسى من ذلك وأمرُّ أن المنبوذ في جنوبي الهند لا يؤذن له أن يبدو أمام أنظار الناس؛ لأنهم يعتقدون أن دنسه يلوث أبناء الطبقات؛ حتى لو كان سائرًا على بعد فسيح، فإذا ما أبصر المنكود أحد السادة في أقصى الطريق وجب عليه أن يرجع ليستتر في عشب الحقول، والأغلب ألا يسمح للمنبوذين أن يغادروا أوكارهم إلا في ظلمة الليل؛ حتى لا يكشف عن دنسهم ضوء النهار!
فماذا يرى غاندي في هذا المشكل الجسيم؟! إنه يؤمن إيمانًا راسخًا بنظام الطبقات ولا يحب أن يمحو منه شيئًا، ولكنه يعتقد كذلك أن النبذ زراية لا تليق بالبشر؛ حتى قال: «لأن يفنى الهنود على بكرة أبيهم خير من أن يحيا بينهم نظام المنبوذين»، وهو يسمى النبذ «زائدة فاسدة» يجب أن تبتر من جسم الهند في غير إبطاء، وخطته التي يسعى جاهدًا لتحقيقها هي أن تنشأ بالهند طبقة خامسة من هؤلاء البائسين، وبذلك يكون قد احتفظ بنظام الطبقات الذي يؤمن به، ويكون في الوقت نفسه قد أرضى هذه الفئة المبنوذة في جسم المجتمع.
ألا إن هذا الجهاد وحده لخليق أن يسلكه في عقد النوابغ الأبطال! وإنه لبطل بكل ما في الكلمة من معاني البطولة! أليس عجيبًا أن ينهض هذا الرجل الضئيل وهو يتلفع بثوب من غزله ونسجه، ليهاجم أعظم إمبراطورية شهدها التاريخ؟!
إن له في قلوب الهنود لمكانة دونها كل مكانة، فهو فيهم دكتاتور من نوع لم يعهده الإنسان، دكتاتور يحكم أتباعه بالحب! فترى صورته عالقة على جدر الأكواخ محفوفة بالإجلال والتكريم، يتشفع بها المرضى ليبرءوا! ويتيمن بها الصغار؛ ليبلغوا منشود الأمل! وما أروع الزراع حين يسلمون أقدامهم إلى الريح زرافات زرافات … إلى أين هذه الجموع الحاشدة؟! إلى مكان يبعد عشرين ميلًا؛ ليشهدوا قطارًا فيه زعيمهم غاندي! إنه في قومه نبي المعجزات، إن شاء أشار بخنصره إلى الناس أن شُقُّوا عصا الطاعة للحكومة، فما هو إلا أن ترى القوم من فورهم قد صدعوا بالأمر عن رضا وطواعية.
فمن عسى أن يكون هذا الرجل الذي يحرك خمسين وثلاثمائة مليون من البشر بلفظة واحدة تنحدر من بين شفيته، من هذا الجبار الذي يتحكم في خمس سكان الأرض بأسرها؟!
هو «مهانداس كرمشاند غاندي» الذي ولد في الثاني من شهر أكتوبر عام ١٨٦٩، أي إنه قد أوشك على السبعين … وهو سليل أسرة تولى أبناؤها أرفع المناصب، فأبوه وجده كانا رئيسي وزارة الإقليم؛ وقد تزوج أبوه أربع مرات، وكان غاندي أصغر أبناء الزوجة الرابعة؛ وهي امرأة اشتدت فيها النزعة الدينية فأثرت في ابنها أثرًا عميقًا.
نشأ غاندي قوي العقيدة راسخ الإيمان، لا يكاد ينحرف عن الجادة حتى يعود في توبة وعزم جديد … قال له أحد أصدقائه في صدر الشباب: إن ضعف الهنود يعزى إلى امتناعهم عن أكل اللحم، وإن الإنجليز لم يحكموا الهند إلا لأنهم من أكلة اللحوم، فاعتزم غاندي أن يذوق هذا الطعام الممنوع، ولم يكد يفعل ذلك حتى وخزه الضمير وخزًا أنزل به العلة، وانتابه في المساء حلم فظيع رأى فيه عنزة حية تتقيأ في جوفه … وأغراه صديق آخر واقتاده إلى بيت داعر، وفي ذلك يقول: «كاد يصعقني الخرس والعمى حين وطئت قدماي وكر الرذيلة، لقد زللت بين أنياب الخطيئة، ولكن الله عاجلني برحمته» … وحدثته النفس مرة أن يدخن لفيفة — وهي محرَّمة — فكاد بعدئذ يزهق نفسه من تأنيب الضمير … ويروى أنه لم يكذب في حياته قط!
وتزوج غاندي في سن الثالثة عشرة من فتاة في العاشرة من عمرها، وفي ذلك يقول: «لم يدر بخلدي يوم الزفاف أن سيأتي يوم أوجه فيه إلى أبي مر النقد على تزويجه إياي في سن الطفولة؛ فقد كان كل شيء يبدو في ذلك اليوم سارًّا جميلًا، وكنت شديد الرغبة في الزواج» … وكانت زوجته أمية فأراد أن يعلمها، ولكنه وقف في ذلك عند الكتابة والقراءة.
وكأنما أراد غاندي أن ينتقم لنفسه من هذا الزواج الباكر، فلم يكد يبلغ سنته الأولى بعد الثلاثين حتى اعتزم كبت شهوته، وفرض على نفسه عزوبة امتدت إلى يومه هذا، وإنما فعل ذلك ليكون خطوة نحو تملكه زمام نفسه، وسيطرة إرادته على جموح شهوته، ويقول مؤرخو حياته إن ذلك هو المبدأ الأول الذي انتهى به آخر الأمر إلى إعلان المقاومة السلبية السلمية.
ولما أكمل دراسته في جامعة «أحمد أباد» قصد إلى لندن؛ ليتمم دراسة القانون، ولم يكن ذلك أمرًا يسيرًا؛ لأن عبور البحر، عند الهنود المستمسكين بتقاليدهم، مجلبة للدنس؛ ولذا قضى عليه أولو الأمر في طبقته بالطرد من عشيرتهم، والحرمان من كل حقوقه، ولكن ذلك لم يَحُلْ دونَ سفرِه، فنذر أمام أمه ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، وألا يقرب النساء، وانطلق في سبيل العلم إلى كعبته المنشودة.
وعاد إلى أرض الوطن بعد أعوام ثلاثة، واشتغل بالمحاماة في بومباي، ويروى أنه حين نهض في أولى قضاياه ليسأل شاهدًا، اعتراه خجل عقل لسانه، واضطر إلى الجلوس دون أن يلقي سؤالًا واحدًا … ومضت أعوام لم يزدهر فيها الأمل، فشد رحاله إلى أفريقيا الجنوبية لعله يصادف فيها ما لم يستطعه في الهند، وهكذا كان، فإنه لم يلبث أن استقر في تلك البلاد حتى علا صوته فيها، فقضى هنالك عشرين عامًا راضيًا سعيدًا؛ وهذه الأعوام العشرون كانت بمثابة فترة يتأهب فيها لما ألقي على عاتقه فيما بعد … ففي جنوبي أفريقيا أخذ التياران الأساسيان اللذان يكونانه يظهران ويشتد مجراهما من نفسه: الأول: اتجاهه إلى مذهب المسالمة؛ فقد طالع رَسْكِن وتولستوي، وأخذ بمثلهما العليا، والثاني: عنايته بالقومية الهندية، وأخذ منذ ذلك الحين يدافع عن حقوق الهند، فأسس صحيفة «الرأي الهندي» وأصدر أول كتبه «استقلال الهند»، وأصبح زعيمًا غير مدافع للجالية الهندية في جنوبي إفريقيا، وهي كثيرة العدد، وقد أودع السجن هنالك ثلاث مرات.
وقد أخذ غاندي يروض نفسه ويغذي روحه ويكتسب الدربة العملية؛ ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد أنه اعتزم أن يزداد دراسة للكتب المقدسة الهندية؛ ليشتد قربه من روح الهند، ولكنه لم يجد في وقته من الفراغ ما يحقق له أمنيته، أوتدري ماذا فعل؟ إنه علق بعض آيات الكتاب التي يريد حفظها في أعلى الحوض الذي يقف أمامه عند غسل أسنانه؛ ليتلوها في الدقائق التي خصصها لذلك من كل صباح!
ويجدر بنا أن نذكر عنه نبأ آخر يلقي ضوءًا على جانب الإيمان منه؛ فقد روى عن نفسه في كتاب سيرته أنه خاطب نفسه ذات يوم قائلًا: «إنه لو أدركني القضاء المحتوم لوقع عبء زوجي وأبنائي على أخي المسكين» وأمن من فوره على حياته بمبلغ جسيم؛ ليضمن لأهله رغد العيش من بعده، ولكنه ما لبث أن قال: «لماذا أفرض أن الموت سيدركني قبل سواي؟ إن الله وحده هو الذي يرعى زوجي وأبنائي، وليس أخي براعيهم، إنني إذا أَمَّنْتُ على حياتي من أجل زوجي؛ فقد أحرمها بذلك كما أحرم أبنائي من نعمة الاعتماد على النفس، ولماذا لا أتوقع منهم أن يعنوا بأنفسهم؟ ماذا جرى للأسر التي لا يحدها الحصر؛ والتي لا تملك من حطام الدنيا شيئًا؟ ولم لا أعد نفسي واحدًا من هؤلاء؟»
وأما طعامه فقد اختار لنفسه بعد سلسلة طويلة من التجارب، لبن الأغنام؛ لما رآه فيه من صفات تمكنه من ضبط نفسه، وقرر أن يصمت عن الحديث يوم الاثنين من كل أسبوع؛ ليكون وسيلة أخرى لضبط النفس؛ وهكذا مضى وهو في جنوبي أفريقيا حتى اشتد مراسه، وازداد صلابة فيما يمس مبادئه، ولينًا وهوادة في توافه الأمور.
هذا هو غاندي في سن الخامسة والأربعين، حين عاد إلى الهند عام ١٩١٤؛ حيث بدأ جهاده الأكبر.
عاد غاندي إلى أرض الوطن، وقضى عامه الأول متنقلًا بين ربوع الهند؛ ليساهم في بعض الخدمات الاجتماعية؛ لكي يمس شئون بلاده عن كثب، ولم يكد يسلخ بعد عودته عامًا حتى أنشأ لنفسه صومعة أطلق عليها اسمًا معناه بلغة بلاده «قوة الروح» ولكن اللفظة أسيء استخدامها فيما بعد، وأصبحت تعني «العصيان»، وحج إليه الأتباع ومن بينهم نفر من المنبوذين، وأخذوا على عواتقهم بين يديه ألا يقولوا إلا الصدق، وأن يسلكوا في الحياة طريق المسالمة، وأن يأخذوا بالمبدأ النباتي في الطعام، وأن يرفضوا الملك، وألا يتزوجوا، وأخذ اسم غاندي يرن في جوانب الهند من أقصاها إلى أقصاها؛ حتى أطلق عليه اسم «المهاتما» ومعناها «الروح العظيم».
وما كادت تضع الحرب الكبرى أوزارها حتى أخذ الهنود يطالبون الإنجليز الحاكمين بحصر نفوذهم، فأجاب الإنجليز ولكن في كز وتقتير، فلم يرضَ الهنود بما مُنحوه من حكومة ذاتية مغلولة الأيدي، فنهضت إنجلترا من فورها تشكم هذه الحركة النامية بيد من حديد، فأثار هذا العنف نفوس الهنود، وهبوا جادين عازمين؛ وعلى رأسهم غاندي.
وأصدرت إنجلترا قانونًا فيه روح القسوة، فقابله الهنود بإضراب عام، وما جاءت سنة ١٩١٩ حتى نزلت النازلة ووقعت المأساة الفادحة؛ إذ أمر قائد إنجليزي أن يُطلق الرصاص على حشد من الهنود العزل، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وكانوا بحيث لا يستطيعون الهروب، فقتل منهم مئات وجرح مئات، فقامت الهند، ولكنها قومة هادئة صامتة لا يصحبها الصخب والزئير؛ إذ أعلنت على الحاكم عصيانًا مدنيًّا، وما هو إلا أن ذاع العصيان في ربوع الهند ذيوعًا قويًّا سريعًا، وقد اتخذ منه غاندي أداة سياسية وقوة روحية في آن معًا … هكذا دعا المهاتما قومه إلى المسالمة وضبط النفس وإنكار الذات، فكانت دعوة صائبة من زعيم يفهم شعبه، دعوة يفهمها الهنود الذين مرنت نفوسهم على الرياضة العنيفة، فمست منهم حبات القلوب؛ لأنها جاءت من طبيعة دينهم في الصميم، وخلقت من الهنود أُسُودًا.
ماذا يصنع الإنجليز أمام شعب صمم أن يقابل العنف باللين، والقسوة بالعصيان الصامت الذي لا يرفع إصبعًا لمقاومة؟ ماذا يصنع الإنجليز، وهم يشهدون ألوف الألوف من الشبان الهنود الذين تقاطروا زرافات إلى السجون؛ يطالبون الحكومة أن تودعهم بين أغلالها مختارين طائعين؟ إن العقل الأوربي لم يكد يفهم هذه الدعوة التي وجهها غاندي إلى أمته، أن يتخذوا موقف المقاومة السلمية السلبية! نعم؛ لم يفهمها العقل الأوربي حتى شخصت نتائجها أمام بصره وسمعه!
وأمعنت الحكومة في عنفها، فأعلن المؤتمر الهندي مقاطعته للبضائع الإنجليزية، وقرر الأعضاء أن تُمنع ناشئة الهند من مدارس الحكومة، وأن تُسحب القضايا من المحاكم، وأن يتخلى الموظفون عن وظائفهم الحكومية، وألا يدفع الأهلون الضرائب، وألا يلبس الهندي إلا قطنًا غزلته أيدي الهنود.
وقبض على غاندي في عام ١٩٢٢، فاستمع إلى هذا الجبار يخاطب الاتهام قائلًا: إن جريمتي أكبر جدًّا مما ذكرت في دعواك! ثم نظر إلى القاضي وتوسل إليه أن يقضي بأقصى عقوبة يبيحها القانون!! وحكم القاضي بسجنه ست سنوات، فأجابه غاندي بالشكر، وقد أتاح له السجن عزلة أحبها، ويقول في ذلك: «كنت في السجن سعيدًا كالطائر المرح»، ولكن الحكومة أطلقت سراحه بعد عامين اثنين.
وحدث بعد ذلك بسنة واحدة أن اشتبك الهندوس والمسلمون في خصومة وعراك، فقرر غاندي أن يصوم واحدًا وعشرين يومًا؛ ليحتج بصومه على نزاع ينشأ بين فريقين من أبناء الوطن، فلبثت البلاد كلها تنتظر هذه الأيام وهي مقطوعة الأنفاس من خشية الخطر، وانقضت أيام الكفارة بخير، وقطروا في فم الزعيم قطرات من عصير البرتقال، ولكنه لم يَقْوَ على الكلام والحركة إلا بعد حين.
وجاءت بعد ذلك سنوات خمس شداد؛ إذ أرسل الإنجليز بعثة سيمون إلى الهند؛ لتمهد الطريق لوضع دستور جديد، ولكن المؤتمر الهندي لم يعد يرضى القليل، وطالب للبلاد باستقلال تام، فاشتد الحاكمون، فبدأ العصيان المدني من جديد، وافتتح غاندي عصيانه هذه المرة بما يسمى «غزوة الملح»، فقد كان الملح ولا يزال محتكرًا في يد الحكومة تفرض عليه ضريبة باهظة يقع عبئها على الفقراء، فأخذ المهاتما يشق طريقه إلى البحر في جمع من أعوانه، واخترق البلاد من شرقيها إلى غربيها سيرًا على قدميه، وكانت نار الثورة تشتعل في إثره أينما سار، وهكذا مضى حتى بلغ شاطئ البحر، فركع وأخذ يستخرج من الماء ملحًا لا تثقله ضريبة الحكومة، واحتذاه قومه، فكانت ضربة قاسية على الحكومة، وضربًا نادرًا من الاحتجاج والعصيان!
وانتهت الموقعة آخر الأمر إلى اتفاق تسامح فيه الإنجليز بعض الشيء، وتنازل فيه الهنود بعض الشيء، وهو الموقف القائم اليوم.
ويقضي المهاتما الآن عامه في قرية منعزلة تسمى «سيجاون»، تقع في أكثر جهات الهند انحطاطًا وبعدًا عن المدنية، وقد اختار هذا المكان القصي الذي يطوقه الوحل أربعة أشهر من السنة، وليس فيه طبيب ولا بريد، اختاره عامدًا؛ لأن أغلب سكانه من المنبوذين، وقد أطلق عليهم اسم «أبناء الله»؛ ليدعو بذلك إلى دمجهم في جسم الأمة، وليقيم البرهان على أن المذهب الغاندي لا يصلح للطبقات المستنيرة وحدها، بل تنبت بذوره في أشد جهات الوطن تأخرًا وجهلًا.
يستيقظ غاندي كل يوم في الساعة الرابعة والنصف؛ ليؤدي صلاة الصبح، ثم يرتاض سيرًا على أقدامه سيرًا سريعًا، لا يحول دون ذلك انهمار المطر، وهذه عادة نشأ عليها منذ شبابه، ويُروى في ذلك نبأ ظريف؛ وهو أن غاندي كان يؤدي رياضته هذه وهو في لندن، وكان يسير كعادته سيرًا سريعًا قلما يلحقه أحد فيه، فشكا رجال الشرطة المكلفون بحراسته ما يكلفهم من جهد وإعياء حين يحاولون متابعته في سيره!
وإن له لإيمانًا قويًّا لا يفتر؛ فهو يؤدي شعائر صلاته إذا حل موعدها مهما تكن الظروف المحيطة به؛ فقد كان وهو في لندن لا يأبه بمكانة من يجالسهم، ولا بمنزلة المكان الذي يحل فيه إذا جاء وقت الصلاة، فتراه ينزل إلى أرض الغرفة؛ حيث يجلس مشبوك الساقين مطأطئ الرأس؛ حتى إذا ما فرغ من فريضته عاد إلى كسريه واستأنف الحديث، فعل ذلك حتى وهو في مجلس العموم البريطاني! وهو يصلي مرتين في كل يوم، عند الشروق مرة وعند الغروب أخرى.
وإن هذا الرجل الذي يأكل الحد الأدنى من الطعام، لا يفتأ في عمل متصل لا ينقطع؛ فهو يستقبل الزائرين، ويتحدث إلى مستشاريه، وينجز ما يعرض له من أمور كثيرة، وما أكثر ما يعرض له من الشئون؛ لأن عاصمة الهند القومية تكون حيث يكون؛ وقد اختار لنفسه من ألوان الراحة والاستجمام أن يجلس في حوض من الماء الساخن أربعين دقيقة قبل أن يأوي إلى مخدعه، وكثيرًا ما يطالع وهو مغمور في حوضه بالماء!
ويتلخص برنامجه الذي يوجه إليه مجهوده اليوم في خمسة أشياء: تشجيع الغزل والنسج، وجعل التعليم في القرى تعليمًا صناعيًّا، وتحسين الحالة الصحية، ودمج المنبوذين في جسم المجتمع، وتنشيط الصناعة القروية.
يقول غاندي: «إنني أرى كل شيء يتغير ويموت، ولكن وراء هذه الظواهر المتقلبة قوة حية لا تخضع للتغير، قوة تمسك بيدها كل شيء، تخلق وتميت، وتعيد الخلق؛ تلك القوة هي الله … إنه خير مطلق؛ لأنني أرى الحياة ظافرة رغم تتابع الموت، وأرى الصدق منتصرًا رغم ما يكتنفه من أكاذيب، وأرى النور ساطعًا رغم ما يحجبه من ظلام، ومن هذا أستنتج أن الله هو الحياة والصدق والنور، هو الحب، هو الإله الأعلى».
وعلى الرغم من أن غاندي هندوسي متدين، إلا أنه يعتقد أن الكتب المقدسة كلها على اختلاف دياناتها، هي كلمة الله؛ القرآن والإنجيل والتلمود والأفستا وكتاب بوذا؟!
هذه صورة لغاندي الجبار الذي نفخ في الهند روحًا، فأحياها بعد موت، وعلمها كيف تعرف حقها، وتزهى بنفسها، إنه رجل؛ والرجال قليل.