العصر الأموي وخلفاؤه (١)
من قديم في العصر الجاهلي كان يتنازع الشرفَ فرعان من قريش من ولد عبد مناف، لا يدانيهما في ذلك بيت؛ وهما بيت هاشم وبيت أمية، وكان بنو أمية أكثر عددًا وأوفر رجالًا، وكثيرًا ما تنافر هاشم وابن أخيه أمية إلى حكم يحكم بينهما أيهما أشرف، على عادة العرب في الجاهلية، وكان هشام له الرِّفادة والسِّقاية في البيت الحرام، وكان رجلًا موسرًا، وكان كريمًا، وكان يوسع على العرب عند حجتهم، ويطلب من ذوي المقدرة أن يتبرعوا بما في استطاعتهم، ويخرج هو عن كثير من ماله، فينظِّم إطعام الطعام والترويةَ بالماء، ويعد الحجيج ضيف الله وضيفه؛ فمن أجل هذا كان يحكم له بالشرف، كما كان من الأمويين من نال السيادة وسوَّدته قريش كلها، كحرب بن أمية؛ فقد كان رئيس قريش في حرب الفجار، ورووا أن قريشًا تواقعوا ذات يوم؛ وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمة منهم ينادون: يا عم، أدرك قومك، فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الرُّبا، ولوح بطرَف ثوبه إليهم أن تعالوا، فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم.
إذًا؛ كان كل من البيتين الهاشمي والأموي عظيمًا في الجاهلية.
فلما جاء الإسلام زاد البيت الهاشمي شرفًا بمحمد رسول الله الهاشمي، ولكن الإسلام لم يعبأ بالعصبية القبلية الجاهلية، وجاء يزن الناس بميزان آخر غير الدم والجنس والقبيلة؛ هو ميزان العمل الصالح، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولما هاجر رسول الله إلى المدينة ساوى بين الناس، وآخى بينهم، وترك مكة للمشركين تعمل فيهم العصبية الجاهلية، وخلا الجو بمكة ممن ينازع الأمويين الشرفَ من عظماء بني هاشم؛ فقد مات أبو طالب الهاشمي وهاجر بنوه إلى المدينة، وهاجر حمزة الهاشمي والعباس وأكثر بني عبد المطلب، فتزعم أبو سفيان الأموي أمية كلها والمشركين كلهم من قريش، وكان رئيسهم في غزوة أحد، بل تزعم المشركين أيضًا من غير قريش فكان قائدهم كلهم في غزوة الأحزاب.
ولما فتح النبي ﷺ مكة قال له العباس: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرًا، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وأراد مشركو مكة وعلى رأسهم أبو سفيان بعد الإسلام أن يعوِّضوا ما فاتهم، ويكفِّروا عن سيئاتهم؛ فأبلوا في حروب الردة وفي الفتوح الإسلامية بلاءً حسنًا.
ولكن العصبية التي دعا الإسلام إلى إماتتها لم تمت، وظلت تعمل عملها وتشرئب بعنقها كلما دعا داع إليها.
ومما يلاحظ أن رسول الله ﷺ استعمل على البلدان كثيرًا من بني أمية؛ فقد مات ﷺ وعامله على مكة أموي؛ وهو عتَّاب بن أَسِيد بن أبي العِيص بن أمية، وقسم اليمن على خمسة رجال؛ أحدهم خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، واليًا على صنعاء، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية واليًا على البحرين، وعمر بن سعيد بن العاص بن أمية واليًا على تيماء وخيبر وتبوك وفدك، وأبو سفيان بن حرب واليًا على نجران؛ وهكذا، وليس من بينهم هاشمي.
وكذلك فعل أبو بكر وعمر، فلم يكن في أعمال رسول الله ولا في أعمال أبي بكر وعمر أحد من بني هاشم.
ومن الجلي أن هذا لم يحدث عفوًا، وهو أمر يلفت النظر، فهل كان رسول الله ﷺ يريد أن يفهم الناس أن أمر الولاية لا يرجع إلى بيت ولا إلى عصبية ولا إرث، وإنما الأمر للمسلمين يختارون من يرونه أحق بالولاية وأقدر على الصالح العام، وأكفأ للمهمة التي ينتدب لها، فإن كانت مهمة حربية اختير لها أكفأ الرجال في الحرب، وإن كانت سياسية اختير لها أسوس الناس وأصلحهم لتدبير الأمر، كما يريد أن يعلمهم درسًا راقيًا وهو أنه فوق أن يتحزب لبيته وأن يتعصب لقومه، وأنه عادل عدلًا مطلقًا، سواء عنده أهل بيته وغيرهم، إنما تهمه دعوته وتعاليمه وتطبيقها على أحسن وجه على أي يد كانت! لعله أراد ذلك كله.
جعل عمرُ الخلافة بين ستة، وكان أظهر هؤلاء الستة علي الهاشمي وعثمان الأموي، فتحركت العصبيات القديمة، ولم يضع المسلمون أول أمرهم نظامًا محكمًا لمن يلي الخلافة، ولا وضعوا نظمًا للشورى، ولا أهل الحل والعقد، ولا غير ذلك من المسائل الهامة، فمني المسلمون بالخلاف على الخلافة طوال العصور، روي أن معاوية سأل من في مجلسه يومًا عما شتت أمر المسلمين وخالف بينهم، فأجيب إجابات لم تقنعه، فقال هو: لم يشتت أمر المسلمين إلا الشورى التي جعلها عمر في الستة، فلم يكن منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر؛ ما كان في ذلك اختلاف.
لما ولي عثمان الأموي الخلافة تغلب الحزب الأموي، وكان أكثر عمال الولايات منهم؛ فعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى البصرة عبد الله بن عامر الأموي، وعلى مصر عبد الله بن سعد الأموي؛ وهذه هي الولايات العظام، فإن كان كثير من الولاة من غير الأمويين فهي ولايات فرعية يرجع أمراؤها إلى هؤلاء الأمويين العظام؛ ففارس تابعة للبصرة، وإفريقيا تابعة لمصر، وأقسام الشام تتبع والي الشام؛ وهكذا.
فطابع عهد عثمان طابع حكم حزبي، وهذا يخالف الطابع الذي كان في عهد النبي ﷺ والخلفاء قبله، فإنه كان غير ملون بلون حزبي.
قتل عثمان الأموي فتشتت أمر المسلمين تشتتًا فظيعًا لم يعهدوه من قبل:
الحزب الأموي وهو يطالب بدم عثمان، ويضم الأمويين وأتباعهم وصنائعهم ومن استخدمهم ولاة الأمصار من الأمويين، وهؤلاء كانوا أول الأمر لا ينادون بخليفة معين، ولا باسم بالذات، إنما يطالبون بدم عثمان، ويناهضون عليًّا، ثم تطورت الأمور حسب الأحداث، وتركزت حول «معاوية» ونودي به في حزبه خليفة، وعماد هذا الحزب «الشام».
حزب طلحة والزبير، ويضم هذا الحزب أنصارهما وأتباعهما، وعائشة أم المؤمنين.
حزب علي، ويضم الهاشميين وكثيرًا من كبار الصحابة كأبي ذر الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري، وكان له أنصار كثيرون بالمدينة والعراق.
حزب أبناء عمر بن الخطاب، وكان له دعاة قليلون: من أظهرهم أبو موسى الأشعري؛ يدعو لعبد الله بن عمر بن الخطاب، وإن لم يكن هو يدعو لنفسه.
وأخيرًا حزب الخوارج، وهم لا ينادون بشخص معين، ولكنهم يرون أن الحق في الخلافة ليس مقصورًا على قريش، وإنما هي عامة في جميع المسلمين، وأن الأحق بالخلافة أصلح الناس ومن رآه المسلمون أحق بالخلافة ولو كان عبدًا حبشيًّا، فإذا اختير فهو أمير المؤمنين، ويجب عليه أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ومنهم فرقة كانت ترى أن ليس من حاجة إلى خلافة، وعلى الناس أن يسيروا على الحق من أنفسهم ونادوا: «لا حكم إلا لله».
تناحرت هذه الأحزاب وتقاتلت، وسفكت فيها الدماء أنهارًا مما لا محل لذكره، ولم ينجُ من هذا القتال إلا قوم غسلوا أيديهم من هذه الفتن كلها، وامتنعوا أن يدخلوا في نزاع بين المسلمين بعضهم وبعض، وكان من هؤلاء: أبو بَكْرة، وعِمران بن الحصين، وعبد الله بن عمر، وسميت هذه الفرقة بعدُ بالمرجئة.
بعض هذه الأحزاب انقضى سريعًا واختفى من ميدان القتال؛ كحزب طلحة والزبير، ولكن القتال العنيف كان بين علي الهاشمي، ومعاوية الأموي، وأخيرًا وأخيرًا جدًّا صفا الجو لمعاوية وأسس الدولة الأموية.
ولانتصاره أسباب لا بأس من الإشارة إليها:
فمن ذلك ما أشرنا إليه قبلُ من كثرة الأمراء الذين حكموا الأمصار من الأمويين وتسلطوا عليها وبثوا نفوذهم فيها، خذ مثلًا الشام؛ وهي أهم عنصر في نصرة الأمويين؛ فقد وليها يزيد بن أبي سفيان، ثم لما مات وليها معاوية عشرين عامًا قبل الخلافة، والأمويون على وجه العموم كانوا في سياستهم أكثر تمشيًا مع الزمن، يعرفون نفسية العرب وعصبيتها ومنازعاتها وخصومتها، وكيف يستجلبونها لناحيتهم بالمصاهرة أحيانًا، وبالمال أحيانًا، وبالمداراة أحيانًا، وبالحلم أحيانًا، وبالشدة أحيانًا، كما هو شأن السياسة دائمًا، وعنوان سياستهم ما قاله زعيمهم معاوية: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»؛ ولكن عليًّا وحزبه يريدون أن يسيروا على الخط المستقيم فقط من غير لف ولا دوران، والسياسة كثيرًا ما تحتاج إلى لف ودوران، ويعجبني ما قرأت من أن عليًّا سئل عن بني أمية وبني هاشم؛ فقال: بنو أمية أكثر وأنكر وأمكر، ونحن أفصح وأصبح وأسمح.
وكان من أساليب الأمويين؛ وعلى الأخص معاوية؛ أنه استطاع أن يضم إليه دهاة العرب وأمكرهم كعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن خالد، وحبيب مسلمة الفهري، وبسر بن أرطاة، والضحاك بن قيس، وشرحبيل بن السمط الكندي، وهؤلاء كانوا من كبار قواد العرب في الجيوش، ومن كبار الدهاة في السياسة والإدارة، وقد عرف معاوية أن يضمهم إليه بأساليبه، ويستخدمهم لتحقيق أغراضه، فأبلوا في ذلك بلاءً عظيمًا، وكون منهم ومن أمثالهم مجلس شورى يجمعهم ويعرض عليهم الأمر فيقلبونه على جميع وجوهه في تنظيم محكم وترتيب دقيق وسِرِّية منيعة.
أضف إلى ذلك الفرق الكبير بين جند معاوية وجند علي، فطالما شكا علي (رضي الله عنه) من جنده، وفخر معاوية بجنده، لقد كان جند علي تغلب عليهم البداوة، وكانوا في العراق تتوزعهم العصبية القبلية والأهواء المختلفة، يصعب جمعهم على كلمة، واتفاقهم على رأي، ولذلك لاقى منهم عليٌّ الأمرّين في الآراء المتناقضة: هؤلاء يقولون بالتحكيم، وهؤلاء يرفضونه، وهؤلاء يقولون بمداومة القتال، وهؤلاء يقولون بوقف القتال، وإذا جاء دور التحكيم اختلفوا اختلافًا شديدًا على من يمثلهم: الأشتر النخعي، أم أبو موسى الأشعري؟ أم لا هذا، ولا ذاك؟ إلى كثير مما رواه التاريخ من وجوه الخلاف التي لا حد لها، أما جند معاوية فنواتهم الشام، وأكثر عربهم وجندهم كان من اليمن، وقد ألفوا روح النظام قديمًا، واتصلوا بالرومان من عهد الغساسنة، فلم نسمعهم اختلفوا في الآراء اختلاف جند علي، ينادون بالتحكيم، فيقولون به جميعًا، ويسمعون بمن يمثلهم، فيقولون به جميعًا، والجندية عمادها النظام والطاعة.
ويعجبني ما روي عن معاوية أنه قال: «أُعِنْتُ على علي بثلاث: كان رجلًا ظهَرةً عُلَنَةً، وكنت كتومًا للسر، وكان في أخبث جند وأشده خلافًا، وكنت في أطوع جند وأقله خلافًا، وخلا علي بأصحاب الجمل، فقلت: إن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وهنًا، وإن ظفروا به كانوا أهون شوكة عليَّ منه».
على كل حال تم الأمر لمعاوية، واجتمع الناس عليه خليفة للمسلمين بعد أن تنازل الحسن بن علي، وبايع له سنة ٤١، وسمي هذا العامُ عامَ الجماعة، وظل معاوية بعد ذلك خليفة نحو تسعة عشر عامًا يؤسس الدولة ويضع دعائمها.
لقد كان منذ صغره تظهر عليه مخايل السيادة، نظر إليه أبوه فرأى عظم رأسه ومخايل سيادته، فقال: إنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند أمه: قومه فقط! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة! وتفرس فيه رسول الله ﷺ ذلك فقال له يومًا: يا معاوية إن وليت أمرًا فاتق الله واعدل. وكان عمر إذا دخل الشام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، وقال عبد الله بن عمر: ما رأيت أحدًا بعد رسول الله أسود من معاوية. فقيل له؟ فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال: كانوا والله خيرًا من معاوية، وكان معاويةُ أَسْوَدَ منهم. وذمه قوم عند عمر، فقال عمر: دعونا من ذم من يضحك عند الغضب، ولا ينال ما عنده إلا على الرضا، ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
بانتقال الخلافة إلى معاوية أخذت شكلًا جديدًا لا عهد به للمسلمين من قبل؛ أهمها: حصر الملك في أسرة واحدة، وهي أسرة الأمويين، وقد كانت قبلُ تعتمد على اختيار الخليفة، أو اختيار أولي الحل والعقد، بل جعلها معاوية كذلك وراثية، فعهد بالأمر من بعده لابنه يزيد، وكان لهذا الاتجاه أضرار كثيرة، ومنافع كثيرة لا مجال لشرحها، كما انطبعت الدولة الأموية من عهد معاوية بالطابع العربي، والأرستقراطية العربية، وتفضيل الدم العربي على غيره من الدماء، وتلا ذلك نظرهم إلى الموالي من الأمم الأخرى نظرة حاكم لمحكوم، وقاهر لمقهور، كما أن انتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق مسكن الرومانيين من قبل، مهَّد للعرب أن يقتبسوا من المدنيات القديمة في نظمهم وسياستهم؛ كل هذا كان مظهرًا من مظاهر انتقال الحكم إلى الأمويين.