صراع الماضي والحاضر
من طبيعة هذا العالم التغير المستمر، سواء في ذلك شئونه المادية والمعنوية، فمن حين إلى حين تَعْتَوِرُ الأرضَ الزلازلُ، والبراكين، والفيضان، والمد والجزر، والعواصف والأمطار، ونحو ذلك، فتكون عاملًا كبيرًا من عوامل التغير المستمر في سطح الأرض.
وكذلك حياة الناس على وجه الأرض في تغير مستمر كتغير سطحها، فكم من الفرق بين بيت الرجل البدوي في سذاجته وبساطة أدواته، وبيت الرجل المتمدن على أحدث طراز، المزود بالراديو، والتليفون، وتكييف الماء، وتكيف الهواء، المؤثث أثاثًا فخمًا فيه كل أسباب الترف والنعيم، وهكذا الشأن في كل مرفق من مرافق الحياة وكل نظام من نظم المعيشة، في وسائل النقل والبريد، وفي المعاملات الاقتصادية، وفي أساليب التسلية، وفي معاهد التربية، وفي نظم الحكومة، وفي كل شيء، ولو قارنت بين شأن الإنسان في أول عهده وشأنه اليوم لرأيت العجب فيما دخل عليه من تغير مطرد.
وقلما يستطيع الإنسان التدخل في أعمال الطبيعة، وإن تدخل فليس تدخله لمنعها، ولكن لاستخدامها في منفعته، فهو لا يستطيع أن يمنع زلزالًا أو ثوران بركان، ولكنه يستطيع أن ينظم الفيضان لخدمته، وأن ينتفع بالمطر في شئونه، أما التغيرات التي تحدث من أعمال الإنسان في تنظيم حياته، وتنسيق مرافقه، وما يلحقها من صلاح وفساد، فإن له دخلًا كبيرًا فيها، وأثر الإنسان فيها يختلف باختلاف الرجال قوة وضعفًا، فقادة الحروب العظام غيروا مجرى التاريخ، وكان العالم يسير غير سيرته لو لم يوجدوا، وحسبنا أن نضرب مثلًا في عصرنا الحديث بنابوليون وهتلر وكيف غيرا سير العالم، وأحدثا من الأحداث ما لم يكن يحدث لو لم يوجدا.
وكذك الشأن في كبار المصلحين الروحيين والاجتماعيين والاقتصاديين، فإنهم أسرعوا في تغيير العالم وتقدمه، ولولاهم لسار سيرًا بطيئًا، ولَمَا وصل إلى ما وصل إليه من رقي.
•••
وقد دلنا التاريخ على أن الجماعات والأمم تسير على أنماط متشابهة في تغيرها وتطورها وانتقالها من القديم إلى الجديد.
فكل جماعة سرعان ما تتكون لها تقاليد وعادات وأوضاع ومعتقدات، تقدسها وتلتزمها، وتجعل العمل على وفقها فرضًا محتومًا، وتكره الخارج عليها والعاصي لها، ولكن بمرور الزمان تنشأ عوامل مختلفة تجعل ما كان صالحًا من العادات والتقاليد والأوضاع غير صالح، ويبدأ الشعور بنقصها وعدم صلاحيتها ووجوب تغييرها، وتمر الجماعة أو الأمة في هذه الفترة بنوع من الشعور بالقلق والحيرة والغموض، وسبب هذه الحيرة وهذا الغموض يرجع إلى الإحساس بعدم صلاحية القديمة الموجود، مع عدم تحديد الجديد المطلوب وما يجب أن يكون.
في هذه الفترة يظهر أفراد في المجتمع من طبيعتهم أنهم أكثر شعورًا بالألم من النظام الموجود، وأكثر علمًا بعيوبه وما يجلب من مضار، وأوسع خيالًا في تصور الأوضاع المستقبلة الجديدة التي يجب أن تحل محل القديم، وعندهم من الشجاعة ما يدفعهم للجهر بهذه الدعوة الجديدة وتصويرها وتلوينها باللون الجذاب، ولكنهم لا يلبثون أن يدعوا دعوتهم حتى يهب في وجوههم المحافظون وأنصار القديم، وهؤلاء أصناف؛ منهم من حمله على الانتصار للقديم غلظُ شعوره وتبلده، فهو لا يألم من النظام المألوف وعيوبه؛ لأنه ألفه كما يألف الإنسان المكيفات فلا يشعر بضررها، ومنهم من أصيب بالخمول والكسل العقلي، فليس له من النشاط ما يحمله على النظر في الدعوة الجديدة وحججها — وكل دعوة جديدة تحتاج إلى نشاط جديد في التفكير وبحث في البراهين — وهو ليس قادرًا على ذلك، والقديم مألوف معتاد مريح لا يكلف اعتناقه عناء البحث فيركن إليه ويطمئن به، ومنهم من يحمله على الانتصار للقديم منفعته المادية إذا كانت الدعوة الجديدة تضيعها كرجال العقيدة القديمة وموظفي النظام القديم، وهكذا.
إذ ذاك تنشأ معارك بين أنصار القديم وأنصار الجديد، قد تقتصر على الحرب الكلامية، وقد تشتد حتى تكون ثورة دموية كالثورة الفرنسية والروسية والأمريكية في العصور الحديثة، وكالثورة النصرانية على الوثنية، وثورة الإسلام على عبادة الأصنام.
ثم تنجلي هذه المعارك إما عن نصرة القديم وقمع دعوة الإصلاح والتجديد، وعند ذلك يتأجل الإصلاح والتجديد حتى تتهيأ له ظروف أنسب وجو أصلح، وإما أن ينتصر الجديد ويهزم القديم ويتحول المحافظون إلى أحرار ينصرون الجديد بعد أن تتجلى فائدته، ولكن حتى في هذه الحالة لا يمكن انتصار الجديد الصرف، بل لا بد أن يكون مشوبًا بشيء من القديم حتى يستطيع أفراد الشعب أن يتذوقوه؛ إذ ليس في استطاعة سواد الناس أن يتذوقوا الجديد الصرف، وقد يتجاهل دعاة التجديد هذه الحقيقة فتصاب دعوتهم بالنكسة، وهكذا يتحرك «بندول» الأمة بين حركة إلى الأمام، وحركة إلى الخلف؛ تبعًا لنشاط المجددين وطبيعة المحافظين.
•••
ونحن لو نظرنا إلى تاريخ العالم وجدنا أنه لم يسر نحو التقدم والتجدد بخطى ثابتة مستمرة، بل كان أحيانًا يرجع إلى الوراء، وأحيانًا يتقدم تقدمًا بطيئًا، وأحيانًا يقفز إلى الأمام قفزًا، ولعل ما أدركه من التقدم في القرنين الأخيرين يعادل تقدمه في الأجيال القديمة كلها، ولذلك التقدم أسباب كثيرة؛ أهمها: أن الإنسان في القرون الوسطى كانت تسوده عقيدة أن عصره الذهبي إنما كان في ماضيه لا في حاضره ولا في مستقبله، وإذا أمل شيئًا في المستقبل ففي الحياة بعد الموت لا في الحياة الحاضرة، وأن ما يشقى به في حاضره من ظلم حكام، واستبداد أغنياء بفقراء ونحو ذلك، شيء مقدور فرضه القدر عليه فرضًا لا يستطيع أن يدفعه ولا أن يرفعه، وإذًا؛ فليرض بالحاضر وليؤمل في الحياة الأخرى ليس إلا.
وكان على هذه العقيدة اليهود والنصارى والمسلمون في عصورهم المظلمة، ثم زاد الظلم وزادت الحال سوءًا، ووجد في العصور الحديثة أفراد أدركوا سوء الحال أكثر مما أدركه سواد الشعوب، وجربوا تجارب زادتهم إيمانًا بأن الحاضر السيئ يمكن تغييره، وأن الظلم يمكن دفعه، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالثورة على النظام الحاضر والنظرة القديمة إلى الحياة، وإحلال النظام الصالح الجديد محل النظام الفاسد القديم، ودعوا إلى أن النظام القائم والفساد الحاضر ليس قدرًا مقدورًا، ولكنه نسيج من صنع الإنسان يستطيع أن ينقض غزله ويغزل بدله غزلًا قويًّا متينًا صالحًا، وأن الحكومة الفاسدة، وظلم الأغنياء، والعادات السيئة والتقاليد الرثة، في إمكان الإنسان أن يثور عليها ويغيره ويحل محلها خيرًا منها، فعمل المصلحون على ذلك، وتحملوا العذاب في سبيل دعوتهم، وألحوا فيها، فإذا قتلوا أو شردوا خلفهم من يدعو دعوتهم، إلى أن نجحوا فتحقق أملهم، ودلت التجربة على أن الحاضر من صنع أيديهم، وأنهم يستطيعون تغييره، وأنهم غيروه فعلًا، فتبعهم المصلحون وتشجعوا على الإصلاح، وغيروا وجه العالم سواء في الماديات أو في المعنويات: في الصناعات، في أسس المعيشة الاقتصادية، في نظام الحكم، في الشئون الاجتماعية، إلى غير ذلك، وكان رائدهم الأعلى الإيمان بقدرتهم، وأن الفساد من صنع أيديهم، وأن الناس قادرون على الإصلاح كما هم قادرون على الإفساد، وأن السلطات التي تكبلهم وتقيد حريتهم وتسومهم سوء العذاب ليست إلا أوهامًا يستطيعون التغلب عليها.
وزادهم نجاحًا فهمهم للقوى الطبيعية في العالم، وإدراكهم كثيرًا من أسرارها، واتخاذهم منها صديقًا من الأصدقاء يمكن استغلاله في مصلحتهم بعد أن كان ينظر إليها على أنها عدو مخيف مرعب.
ثم زادهم نجاحًا أنهم أسسوا إصلاحهم على العلم لا على الخيال: العلم بالطبيعة التي حولهم، والعلم بالبيئة التي تحيط بهم، والعلم بالناس وطبائعهم، فكانوا إذا دعوا إلى نوع من الإصلاح درسوا واكتشفوا الحقائق، وجربوا وبنوا إصلاحهم على الدرس والإحصاء والتجربة، فكان النجاح مكفولًا، ودلهم البحث في مجتمعهم على إدراك نقط الضعف في حياتهم ونقط القوة، ثم وجهوا هممهم نحو نقط الضعف فقووها، ونقط القوة فزادوها قوة؛ حتى سادت الروح العلمية في كل مناحي الحياة الاجتماعية وأنظمتها ومحاولة إصلاحها.
وقد علمتنا الحياة أن النجاح يبعث على النجاح، والفشل يبعث على الفشل، فلما نجحوا في تجاربهم الأولى دعاهم النجاح إلى متابعة النجاح بل مضاعفته، فانتقل العالم في هذين القرنين إلى ما كان يعد حلمًا من الأحلام أو ضربًا من الأوهام.
والشرق لا يزال في حاجة إلى هذه الخطوة الأخيرة التي خطاها العالم الغربي، فيتجه نحو حاضره كما هو متجه نحو ماضيه، ويتجه إلى إصلاح دنياه كما هو متجه إلى أخراه، ويعتقد أن في مقدوره أن يصلح ما فسد، ويجدد ما بلى، ويدرك مواضع قوته ومواضع ضعفه، ثم يعالج ضعفه بالعلم، وإذ ذاك يسير في ركب الحياة مع السائرين ويبني مع البانين.