العصر الأموي وخلفاؤه (٢)
تحدثت عن البيت الأموي إلى أن بويع لمعاوية بالخلافة عام الجماعة سنة إحدى وأربعين.
وقد دامت الخلافة فيهم نحو تسعين عامًا.
لجأ البيت الأموي في تأسيس ملكه إلى استعمال الدهاء والقوة والعنف، وكان عنوان سياستهم المبدأ الذي وضعه رأسهم معاوية؛ إذ يقول: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، وأخطأوا في بعض الأحيان في عدم الموازنة بين مقدار الحق الذي يريدون الوصول إليه، ومقدار الباطل الذي يخوضونه، ولم يكتفوا أحيانًا بالوصول إلى الغرض من أقرب طرقه وألبقها، بل عمدوا إلى أعنف الطرق وأكثرها إثارة للنفوس وهز المشاعر، كحادثة مقتل الحسين، ورمي الكعبة بالمنجنيق.
وجعلوا نظام الحكم هو نظام البيعة بولاية العهد، بعد أن كان بانتخاب الأصلح من غير تقيد بأسرة، وجر هذا إلى أن الخليفة قد تحمله عاطفةُ الأبوة على أن يعهد بالأمر من بعده لابنه؛ وقد يكون أبعد الناس لصلاحيته للخلافة، كما أنه أدى إلى نوع من اليأس في البيوت الأخرى التي كانت تطمح إلى الخلافة؛ كالبيت الهاشمي، وبيت الزبير.
أضف إلى ذلك أن الحرب بين علي ومعاوية أوجدت معسكرين إقليميين؛ وهما: الشام، والعراق، بينهما تِرات كتِرات الشخصين المتقاتلين، كل منهما يريد أن يثأر لنفسه من أعمال خصمه، فإذا انتصرت الشام طوى العراق نفسه على الغل وانتهاز الفرص، وأحست الشام بذلك فكانت تبعث إلى العراق جبابرتها من أمثال: زياد بن أبيه، وابنه، والحجاج، فكان هؤلاء يحكمون حكم قمع وجبروت وانتقام وأخذ بالظنة، في غير هوادة، ولا رحمة.
ومن ناحية البيت الأموي نفسه كان نظام البيعة بولاية العهد يثير الخلاف بين الابن الذي يعهد إليه، وإخوته الذين قد يرون أنفسهم أحق بالأمر منه؛ لكفايتهم وعظم صلاحيتهم.
كل هذا وأمثاله جعل الدولة الأموية لم تهدأ من ثورات تكاد تكون مستمرة؛ فالبيت الهاشمي ينتهز كل فرصة للثورة؛ لاسترداد الموقف، وينظم دعوته السرية، ويسبب متاعب للبيت الأموي لا تنتهي، فالحسين يخرج ويقتل، والمختار يطالب بثأر الحسين، ويدعو لمحمد ابن الحنفية، وكلما قتل إمام دعا إمام هاشمي إلى نفسه سرًّا، ثم جهرًا، فيحبس أو يقتل طوال العهد الأموي.
وعبد الله بن الزبير يحل في خلافه مع البيت الأموي محل أبيه الزبير بن العوام في منازعته عليًّا حتى يقتل.
والخوارج لا ترضى عن هؤلاء جميعًا، وتريد خليفة ينتخب انتخابًا حرًّا، أو لا خليفة.
والعراقيون لا ينسون ما فعله الأمويون معهم؛ فيتربصون بهم الدوائر، ويشجعون الأحزاب المعارضة، وكان من أكبر ثوراتهم ثورتهم مع عبد الرحمن بن الأشعث؛ فقد أدركوا أن الأمويين قد اختطوا وسيلة من وسائل التنكيل بهم، وهي تسييرهم إلى البلدان البعيدة للفتح، حتى إذا نجحوا غنم الأمويون، وإذا انهزموا استراح منهم الأمويون، فأخرج الحجاج منهم نحو عشرين ألفًا لفتح تركستان وعلى رأسهم ابن الأشعث، فانتهز الجيش الفرصة ونادوا بالثورة، وخلعوا الحجاج أولًا، ثم عبد الملك بن مروان ثانيًا.
والبيت الأموي نفسه ينقسم على نفسه؛ فمروان يناهض خالد بن يزيد ويبعده عن الحكم، وينقل الدولة من فرع إلى فرع، وعبد الملك بن مروان يقتل عمرو بن سعيد بن العاص، وهو من أكبر زعماء البيت الأموي، ومن كانت له اليد الطولى في نقل الحكم إلى فرع مروان، وهكذا.
كل هذا كان جديرًا أن يعوق الدولة الإسلامية عن التقدم والرقي، ويمكِّن أعداءها الخارجين من استراد ملكهم، ولكن كانت الأمة مملوءة قوة وحيوية، فلم يكسر ذلك كله من قوتها، ووُجد من رجالها أمثال: معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك؛ فهؤلاء بسياستهم وقوة شخصيتهم وحسن اختيارهم لرجالهم وقوادهم؛ استطاعوا أن يزيدوا رقعة المملكة الإسلامية إلى مدى بعيد، وأن يرقوا بنظام الحكم وبالفنون، وأن يقطعوا في ذلك شوطًا بعيدًا.
هذه ساحة الأناضول؛ ما يهدأ معاوية من الحروب الداخلية حتى يُغْزِيَها جيشه ويفتح «ملطية»، ويَشْحَنُها بالجند والسلاح، ويجعلها قاعدة يضرب منها المسلمون البيزنطيين أو الروم على حد تعبير العرب، وأنشأ أسطولًا هزم به الأسطول الروماني، واستولى على عدة جزر من جزر الأرخبيل وأسلم أهلها، وفتح خلفاؤه المنطقة الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس، وتقدم مسلمة بن عبد الملك إلى فناء القسطنطينية، وحاصرها نحو ثلاثين شهرًا.
وفي الساحة الشرقية وجه معاوية جيشًا لفتح طبرستان، وتم ذلك فيما بعد على يد يزيد بن المهلب؛ ففتح طبرستان وجرجان.
كما فتحوا ما وراء النهر؛ ويراد به المقاطعة الواقعة شرقي نهر جيحون، فوجه معاويةُ عبيدَ الله بن زياد لفتحه، وفي عهد عبد الملك تولى قيادة الجيوش المهلبُ بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم، وقتيبة بن مسلم الباهلي، فما زالوا في فتوحهم حتى وصلوا إلى الصين.
وفتح محمد بن القاسم الهند.
وفي عهد معاوية فتح عقبة بن نافع إفريقية، وفي عهد عبد الملك وجه أخوه عبدُ العزيز بن مروان موسى بن نصير لإتمام فتحها ونشر الإسلام بين ربوعها، ثم في عهد الوليد عبر البحر وفتح هو ومولاه طارق بن زياد إسبانيا والأندلس.
بهذا تضاعفت رقعة المملكة الإسلامية على يد هؤلاء الأمويين، بل إن المملكة الإسلامية لم تزد شيئًا يذكر فيما بعد الفتوح الأموية، وأخذت الحركة بعدهم تتجه نحو الجزْر لا المد، ولم تكن فتوحهم مجرد فتح حربي، بل هو إخضاع حربي، ودعوة إلى الدين، وتنظيم سياسي، ووضع قواعد للسير تتفق وما أمر به الدين من العدل، فإن حدثت أحداث جزئية لا تنطبق على قواعد العدل فهي الطبيعة البشرية التي لا تخلو من نزعاتها أمة؛ ومما يزيد في مقدار عظمتهم أن هذه المملكة كلها مع اتساع رقعتها وترامي أطرافها لم يخرج من يد الأمويين منها شيء، ولم يحدِّث قطر من أقطارها نفسه باستقلال، كما كان الشأن في العصر العباسي، بل كانت كلها دولة ملتئمة، تخضع لخليفة واحد، يتربع على عرشه في دمشق.
ثم هم جاروا الرومانيين في فنونهم وعمارتهم؛ فهذا الجامع الأموي الذي بناه الوليد قد بز به الكنائس الرومانية، بالقواعد الضخمة، وأساطينه الفخمة، ومحاريبه المزينة، وقبابه البديعة، وأروقته المرصعة بالفسيفساء الملونة، والنقوش المتنوعة، والفصوص المذهبة، والمرمر المصقول، وقد حشد لبنائه وتزيينه مهرة المهندسين والفنانين من الهند وفارس والمغرب وبيزنطة.
وعمَّر هشام رصافة الشام في غربي الرقة، واتخذها مصيفه، وبني فيها قصوره، وعمر سورها، وأنشأ فيها البساتين البديعة.
ومصَّر سليمان بن عبد الملك الرملة في فلسطين، وبنى فيها القصور والمساجد، وحفر فيها الآبار والأقنية.
وأنشأ الحجاج مدينة واسط بالعراق بين البصرة والكوفة، وأنشأ مسجدها وقصورها، وشحنها بالجند؛ يقمع بهم الثورات.
وأسس عبد الملك بن مروان جامع بيت المقدس، أو جامع الصخرة.
وعني الخلفاء الأمويون بالحرمين المكي والمدني وتوسيعهما وتزيينهما، يصرفون في ذلك الأموال الطائلة، ويجدُّون في استحضار التحف الفنية من جميع الأقطار.
وصبغوا الأعمال الرسمية بالصبغة العربية، فعمدوا إلى أهم مظهرين من مظاهر الدولة فعربوهما؛ وهما: النقود؛ وكانت أخلاطًا من نقود فارسية ورومانية ومصرية، فعربها عبد الملك بن مروان ووحد صبغتها وقيمتها، وأمر بإنشاء دار لضرب السكة، وكتب على أحد وجهيها بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى الآخر الله أحد الله الصمد، وكذلك الدواوين وهي الدفاتر الحكومية، فكانت تكتب باليونانية في الشام، والفارسية في العراق، والقبطية في مصر، فنقلت جميعها إلى العربية، وبذلك أمكن ضبطها والإشراف عليها إشرافًا صحيحًا من الدولة، واتسع المجال أمام متعلمي الكتابة العربية أن يتولوا هذه الأعمال ويشرفوا عليها.
ووفد على دمشق المغنون والمغنيات من الحجاز، وبهم ارتقى فن الموسيقى والغناء، ونظمت لهم المجالس، وتربى في الناس ذوق السماع، وبجانبهما الشعر يمدهما بالأبيات الرقيقة المختلفة التفاعيل، المنسجمة مع الأصوات.
وأنشأ هشام حلبة سباق للعناية بالخيل وتوليدها.
ولكن — مع الأسف — تخلل عظمة هذه الدولة الفتية أسباب فنائها، فلم تعمر إلا نحو تسعين عامًا.
ونحن إذا أجملنا أسباب سقوطها أمكننا أن نقول:
إن الأحزاب التي أشرنا إليها قبل، وخصوصًا الحزب الهاشمي الذي يجمع العلويين والعباسيين، ظل يعمل في قلب الدولة الأموية في صبر وجلد، وكلما قتل منهم إمام حل محله آخر، والعذاب والعنف والقسوة لا تزيدهم إلا رغبة في الانتقام وأخذًا بالثأر، وهم يُحكمون دعوتهم، ويبثونها سرًّا في الأقطار، ويقولون بالتقية أي السرية وإخفار الأمور وإظهار غير ما يخفون؛ وكان الخلفاء الأمويون أحيانًا يقسون عليهم قسوة تستوجب عطف بعض الناس عليهم والميل إليهم، وقد كان الخلفاء الأمويون الأولون يقظين يتتبعون كل حركة ولو صغيرة ويقضون عليها في حينها، فلما أخلد متأخروهم إلى اللهو والترف عميت عليهم هذه الحركات حتى استشرى شرها؛ وقد اختار الدعاة أخيرًا خراسان؛ لتكون عش الدعوة، وقد قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: «عليكم بأهل خراسان؛ فإن هناك العدد الكثير، والجلَد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات … وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أصوات منكرة».
فلما أحسنوا قيادتهم وبذروا فيهم أفكارهم وتولى زعامتهم دهاة من أمثال أبي مسلم الخراساني اكتسحوا الدولة.
وساعد على نمو الثورة أن الأمويين أفرطوا في العصبية العربية، فكانوا يشعرون المفتوحين بأنهم أقل منهم شرفًا ونسبًا وحسبًا ودمًا، عكس الدعوة الإسلامية التي تتطلب الدعوة إلى المساواة؛ وقد أضرت هذه العصبية من ناحية أخرى، فالعرب لم ينسوا الخصومة بين يمنيهم ومضريهم، فكان إذا ولي يمنى تعصب لقومه من اليمن، وتعصب على غيرهم من مضر، وهي حال لا تبشر بخير.
ثم إن الدولة الأموية اتسعت اتساعًا عظيمًا فجائيًّا؛ فما بين النهرين وما وراء النهر وجزء من الأفغان والهند وشبه جزيرة العرب والشام ومصر وفارس والمغرب والأندلس ، كل هذه بلاد كانت تحكمها الدولة الأموية الفتية في عصر تُقطع المسافات فيه على الخيل والإبل، ونظم الحكم لم تحدد، ولم تثبت تقاليدها، وهذا الملك الواسع يحتاج إلى رجال أقوياء مخلصين لأمتهم ولعرشهم، وقد كان في الدولة الأموية رجال عظام أخلصوا هذا الإخلاص في صدر الدولة ووسطها كزياد بن أبيه، وعبيد الله بن زياد والحجاج، وكان الخلفاء يكافئونهم على إخلاصهم بمؤازرتهم والإغداق عليهم وعدم سماع وشاية فيهم ونحو ذلك، ثم رأينا آخر الأمر أن الأمة ينبغ منها العظماء ويأتون بالأعمال العظيمة ثم يكون جزاؤهم من الخلفاء قتلهم أو تعذيبهم؛ فهؤلاء الفاتحون العظام أمثال قتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب يقتلون لوشايات يسعى بها الساعون، وموسى بن نصير فاتح الأندلس العظيم يزج به في السجن، وخالد بن عبد الله القسري الرجل الإداري الحازم يقتل، فإذا كانت هذه نهاية العظماء ومن يخدمون الدولة أكبر خدمة، فمن أين يأتي الإخلاص للدولة، والحرص عليها، والغيرة على مصالحها؟!
تجمعت هذه الأسباب كلها وتضخمت في آخر الدولة الأموية، وكان تفشيها يتطلب حزمًا شديدًا وقوة بالغة، ولكن اقترنت هذه الأدواء بضعف الخلفاء الأخيرين؛ أمثال: الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، فجاء مروان بن محمد وكان حازمًا قويًّا، ولكن لم ينفع حزمه وقوته أمام عوامل الثورة التي فاقت كل قوة، فسقطت، وكان في سقوطها عبرةٌ لقوم يعقلون.