في الحج١ (١)
في هذا الموسم — موسم الحج — أحدثكم ثلاثة أحاديث عن الحج.
والحج رياضة روحية ورحلة دينية، طالبت به الأديان على اختلاف أشكالها وأزمانها؛ فالمصريون القدماء كانوا يحجون، واليونان كانوا يحجون، والصينيون، والهنود، والنصارى، واليهود، كل أولئك يحجون؛ لما في الحج من مزايا روحية لا تنال بغير الحج.
وكان العرب قبل الإسلام بقرون يحجون إلى الكعبة، ويأتون بأعماله من طواف وسعي ووقوف بعرفة وغير ذلك من شعائر الحج، فجاء الإسلام وأقر بعض الشعائر مما يتفق مع تعاليمه، وأنكر بعضها، ولكنه — على العموم — غيَّر النية وهي أساس العبادات، فبعد أن كانوا يتقربون للأصنام المنصوبة في الكعبة كسر هذه الأصنام، وجعل العبادة لله وحده، وليس الحج إلى الكعبة إلا تعظيمًا لبيت من بيوت الله، ورمزًا إلى الأمكنة المقدسة التي عبد اللهَ فيها إبراهيمُ وإسماعيلُ وغيرُهما من الأنبياء والصديقين.
طهره الإسلام من الأوثان وجعله رمزًا لعبادة الله، وجعل ما فيه من الشعائر ذكرى لأبينا إبراهيم — عليه السلام — في سعيه وطوافه، ومجتمعًا للنفوس الطاهرة؛ تدعو ربها، وتطلب منه الرحمة والمغفرة، وتتقرب إليه بهيئات مأثورة عن أسلافهم، ويسعد به المسلمون بالهجرة من ديارهم في سبيل الله وتحمل المشاق لمرضاته، ومجاهدة النفس بتركها شهواتها، والتفرغ لعبادة الله وحده، وليجتمع الحجاج من أقطار الأرض في مكان فسيح واحد، يتبادلون فيه الرأي في خير المسلمين ومصالحهم ومشاكلهم، ويتجاوبون فيه الإيمان بالله والصدق في عبادته والدعوات لتوفيقه، إلى غير ذلك من مزايا للحج لا تحصى.
ولقد كان النبي ﷺ يحرص على الحج من مبدأ الإسلام، حج وهو في مكة وحج لما هاجر إلى المدينة، وكان يحج ومكة في يد المشركين فإذا منعوه رجع وترك حسابهم لربهم، وفي السنة العاشرة من الهجرة حج ﷺ بالمسلمين حجة الوداع وخطب فيها خطبته المشهورة، ونزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
وعد الحج ركنًا من أركان الإسلام الخمسة؛ وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا.
وليس ذكر الحج في آخر الأركان إلا لأنه عبادة العمر، وختام الأمر، وتمام الإسلام، وكمال الدين.
وفي الحق؛ إن في الحج فوائدَ دينيةً عديدةً؛ فالحاج إذا نوى السفر من وطنه استحضر أعماله واستذكر سيئاته وندم عليها وتهيأت نفسه لقبول الخير، فكان في ذلك طهارة من ذنوبه وحسن استعداد لطهارة نفسه وقربها من الخير وبعدها عن الشر، والتجأ إلى الله أن يحفظه في أهله وماله وولده، وأن يوفقه للبر والتقوى، وأن يرزقه في سفره سلامة البدن والدين والمال، ويبلغه حجه على أحسن وجه وأكمله؛ وفي هذا كله طهارة لنفسه وقوة لروحانيته.
فإذا تقدم في أعمال الحج فأول ما يواجهه الإحرام وهو أن يتجرد الرجل من كل ثوب مخيط ويلبس إزارًا ورداءً ويلبس في رجليه نعلين، وتلبس المرأة ثيابها وتكشف وجهها وكفيها، ويعجون إذ ذاك بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فترى الناس إذا أحرموا لبسوا ملابس إبراهيم — عليه السلام — فلباسنا يذكرنا به، وكان إبراهيم من الكلدانيين الذين اعتادوا لبس البسيط من الثياب؛ واختير اللون الأبيض؛ لأنه أدل على الطهارة والنظافة، والطهارة والنظافة في الثياب تشعران بالطهارة والنظافة في النفس، وحُرِّم المخيط من الثياب؛ رمزًا إلى أن الإنسان خرج إلى ربه من زخارف الدنيا وما فيها، ولأن لبس المخيط من الثياب وسيلة التفاوت بين اللابسين، فيكون الحج مظهرًا للأزياء المختلفة والصناعات المتفاوتة، والإسلام يريد في مثل هذا الموقف إشعار الناس بأنهم أمام الله سواء؛ لا فرق بين غنيهم وفقيرهم وملكهم وصعلوكهم، وهذا مظهر من مظاهر المساواة في الإسلام، وكثيرًا ما قصد الإسلام إلى المساواة في أكثر العبادات؛ تأكيدًا لمعنى أن الله لا يعبأ بالغني لغناه، ولا يصد عن الفقير لفقره، وأن القيمة الحقيقية للإنسان في نفسه وفضائله، لا في ماله ولا في ملبسه ولا في جاهه.
ومن أجل هذا كان منظرُ الإحرام للحجاج إذا وصلوا إلى نقطة معينة في السفر منظرًا آخذًا بالنفس، يشعر فيه المسلمون كلهم بالمساواة، ويدل بياض ثيابهم على بياض نفوسهم، ويشعرون بالأخوة التامة؛ لا فرق بينهم في الجنس ولا في اللغة، ولا في أي عرض من أعراض الدنيا، وشعارهم الدائم هو التلبية، ومعناها رجوع النفس لربها، وسؤال الله أن يوفقها للخير، ويمن عليها بالطاعة، ويطهرها مما علق بها من زخرف الدنيا وأباطيلها.
ومن أجل هذا عد الإحرام ركنًا أساسيًّا من أركان الحج؛ إذ به تتهيأ النفس لما يلي من أعمال.
وهو — إذا أحرم — نوى أنه يحرم للحج، والجملة المأثورة في هذه النية أن يقول: «اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، وأعني على أداء فرضه، وتقبله مني، اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج، فاجعلني من الذين استجابوا لك، وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك، اللهم قد أحرم لحمي ودمي وعصبي وعظامي، وحرمت على نفسي النساء والمخيط والطيب؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة».
وهو في هذه الحال كلما قابل أحدًا أو دخل مجتمعًا أو صعد أو هبط كرر: لبيك اللهم لبيك؛ ليذكر دائمًا موقفه أمام ربه، وليحفظ على النفس طهارتها وصفاءها وشوقها إلى خالقها.
ولا يزال الحاج على هذه الحالة النفسية، بين إحرام وتلبية، وتفكر في الله وتضرع إليه حتى يدخل مكة، ويصل إلى الحرم المكي وفيه الكعبة.
وهو في هذا كله يرتاض رياضة بدنية إلى جانب هذه الرياضة الروحية؛ فهذا العيش البسيط والملبس البسيط والحركة الدائمة والسفر ومتاعبه، تجعل من الإنسان رجلًا قادرًا على احتمال المشاق، غير منغمس في النعيم الذي يذهب بالرجولة، وتعده للقدرة على العمل الصالح إذا دعا داعي الوطن أو داعي الدين، وهو بمثابة التمرين العسكري الذي تفرضه الأمم الحية على أبنائها فترة من الزمن كل سنة فيتعودون خشونة العيش، ومواجهة الصعاب؛ وهذا الإحرام يفوق التجنيد في أن التجنيد رياضة جسمية، في أكثر حالاتها، وأما رياضة الإحرام فهي فوق ذلك تجنيد روحي، في تعود العمل لطاعة الله، ونصرة الحق وإعلاء كلمته، والتعهد الجازم بالائتمار بأمره، والانتهاء عما نهى عنه؛ فهو يخرج من ذلك قوي الجسم قوي الروح معًا.
وتنتهي هذه المرحلة بوصوله إلى مكة — عبر الصحراء — فإذا شاهدها ثارت في نفسه الذكريات؛ هذه مكة التي كانت واديًا غير ذي زرع، هبط إليه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل نحو سنة ١٨٩٢ قبل الميلاد، وأخذا يرفعان قواعد البيت كما يقول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وهذه هي مكة التي أخذت شهرتها تنمو وتتسع؛ حتى قصدها الناس من كل فج عميق، وهذه مكة التي سكنتها قريش واعتزت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة.
هي مكة التي ولد فيها النبي ﷺ في بيت من بيوتها، وشعب من شعابها، يمشي في شوارعها وأسواقها ويقضي فيها شبابه وكهولته، وهذا بالقرب منها غار حراء، وهو الغار الذي كان يتعبد فيه النبي، وفيه نزل الوحي عليه لأول مرة.
وهذه هي مكة التي تتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة، نزلت فيها كل السور المكية تدعو إلى ترك الأصنام وعبادة الله وحده.
وهذه هي مكة التي جرت فيها الأحداث الأولى للإسلام، فكان النبي يدعو قومه وهم عنه معرضون، يجاهد فيهم ويصبر على أذاهم ويلتف حوله أتباع قليلون يُؤْذَوْن في أموالهم وأنفسهم؛ فيحتسبون ذلك عند ربهم.
وهذه هي مكة التي كان فيها دار الأرقم المخزومي التي كان يختبئ فيها رسول الله في صدر بعثته هو ومن آمن معه، وكانوا يصلون بها سرًّا حتى أسلم عمر فجهر رسول الله بالدعوة وتعرض للأذى.
وهذه مكة التي هاجر منها رسول الله بعد أن ألح قومه في إيذائه، وأبوا نصرته، وجاهروه بالعداء، وأرادوا أن يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه، ثم هذه مكة يدخلها رسول الله فاتحًا وينزل عليه في ذلك: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
وأخيرًا هذه مكة التي ظلت مقصد الناس في حجهم من عهد إبراهيم إلى اليوم، أي ما يقرب من أربعة آلاف عام، وهذه هي مجتمع المسلمين اليوم من جميع أقطار الأرض يهتفون هتافًا واحدًا، ويلبون تلبية واحدة، وتدوي في أرجائها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
هذه مكة التي يقصدها الحجاج فيرونها واديًا منحصرًا بين سلاسل جبال متصلًا بعضها ببعض، قد عمرت سفوح هذه الجبال بالمساكن متدرجة عليها إلى الوادي، كل هذه ذكريات تملأ النفس وتأخذ بمجامع القلب، وتدخلها في موسم الحج فترى عجبًا أي عجب، مئات الألوف من الناس في ثوب الإحرام مغمورون بالشعور الديني، يعجون بالدعاء والتلبية، وترى معرضًا يفوق كل معرض من الأجناس البشرية، مختلفي الألوان، مختلفي الألسنة، مختلفي العادات، ولكنهم قد وحد بينهم الغرض الديني، ووحدت بينهم العقيدة، كلهم يعبد الله وحده، وكلهم يشعر نحو الآخرين بالأخوة الإسلامية.
هذا الجمع الحاشد يشيع فيه الحب والإخاء والمساواة والتعاطف ويغمرهم شعور ديني نبيل يهز القلب ويبعث الرحمة.
وفي وسط مكة تقريبًا تقع العين على المسجد الحرام بقبابه ومآذنه ونورانيته، وهو ما أحدِّثُكم عنه في الحديث القادم إن شاء الله.