في الحج (٢)
وصلنا في حديثنا الماضي عن الحج إلى المسجد الحرام بمكة.
والمسجد الحرام أو الحرم المكي في وسط مكة تقريبًا على شكل مربع تقريبًا طول ضلعه نحو مئة وأربعة وستين مترًا، له أبواب ثمانية، وست منارات، وأربعة أروقة، عليها قباب كثيرة، وصحن كبير غير مسقوف فرشت بعض أرضه بالبلاط وبعضها بالحصباء، وهو بسيط في بنائه، جميل في منظره، يشعر المؤمن بجلاله وعظمته ويهتز فرحًا بالوصول إليه.
وما يدخل الداخل باب الحرم حتى يقع نظره على بناء أسدل عليه ستار أسود موشى بطراز من ذهب.
هذه هي الكعبة، وما إن يراها الرائي حتى يشد إليها نظره ويخفق لها قلبه وتتحرك نحوها قدمه، وتمتلئ نفسه خشوعًا ورهبة وإعظامًا وإجلالًا، ويرى نفسه ذاهلًا مندفعًا مع الداعين والمبتهلين سابحًا في ذكريات ما قرأه من الدين والتاريخ.
هذه هي الكعبة التي أسسها إبراهيم — عليه السلام — وجعل الله موضعها وما حولها مثابة للناس وأمنًا.
هي بناء مربع تقريبًا يبلغ طول كل ضلع نحو عشرة أمتار، وارتفاعها نحو خمسة عشر مترًا، وفي زاوية من زواياها الحجر الأسود.
كان إبراهيمُ وقومُه يعبدون عندها اللهَ وحدَه، ثم خلفهم خلف لعب الشيطان في رءوسهم؛ فتحولوا من عبادة الله إلى عبادة الأصنام وأقاموا فيها التماثيل للات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى؛ حتى جاء الإسلام فرجع الدين إلى أصله وأحيا سنة إبراهيم، ولما فتح النبي ﷺ مكة في السنة الثامنة من الهجرة أزال ما بها من أصنام وجعلها الله قبلة للمسلمين يتجهون إليها من جميع أقطار الأرض في صلاتهم، يذكرها نحو ثلاثمائة مليون مسلم في بقاع الأرض المختلفة، كل يوم خمس مرات حين يتجهون إليها في صلاتهم، ويدعون الله بدعواتهم: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
هذه هي الكعبة التي يقصدها كل عام مئات الألوف من الحجاج؛ طوعًا لأمر ربهم، وتطهيرًا لنفوسهم، ورياضة لقلوبهم.
يطوفون حولها وقلوبهم تفيض توبة واستغفارًا وابتهالًا إلى الله أن يغفر ذنوبهم فيما مضى، ويوفقهم للعمل الصالح فيما يأتي: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
هنا تتساوى الرءوس، وهنا يقوِّم الإنسان قيمته الذاتية، فلا فضل لأحد على أحد بماله أو جاهه أو لونه أو أي عرض من أعراض الدنيا، إنما قيمة الإنسان ما كسب من خير، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وقد يكون أشعثَ أغبرَ، وهو عند الله خير من ملك متوَّج وغني مترف.
حول هذه الكعبة يلف الحاج سبع لفات يعبر عنها في لغة الدين بالطواف، سبعة أشواط؛ تقليدًا لإبراهيم — عليه السلام — في عمله، والنفس إذا امتلأت بحرارة الإيمان، وجدت لذتها في الحركة، وكلما مر بالحجر الأسود استلمه إن أمكنه، أو سلم عليه بيمينه إن لم يمكنه من الزحام حوله؛ وتعظيم الحجر لا لذاته فإن الإسلام تنزه عن عبادة الأحجار، وحارب الأصنام والأوثان على اختلاف أشكالها وألوانها، ولكن ينظر إليه الإسلام على أنه أثر من آثار أبينا إبراهيم، فنحبه ونحب ذكره وآثاره، كما يحب الإنسان أثر من كان عزيزًا عليه، ولهذا كان عمر بن الخطاب لما حج ووقف عند الحجر الأسود قال: «اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك».
وفي هذا الطواف كله يحلو للحاج أن يمعن في الدعاء، يجد فيه راحته وسعادته، ويشعر وهو يشترك مع الحجاج في الدعاء بلذة روحية ممتعة، وهناك أدعية مأثورة في هذا المقام؛ مثل: اللهم إن بيتك عظيم، ووجهك كريم، وأنت أرحم الراحمين، اللهم إني أعوذ بك من الشرك والشك والكفر والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، وهكذا من دعوات صالحات.
ويلي هذا من أعمال الحج السعي بين الصفا والمروة، وهو طريق طوله نحو أربعمائة وعشرين مترًا تقريبًا، ينتهي من ناحيتيه بربوة تسمى الصفا، وربوة تسمى المروة، وكانت الربوتان في الأصل تشرفان على الصحراء، ولكن الطريق اليوم أصبح وعلى جانبيه المباني والبيوت ودكاكين التجارة، وكل ربوة جعل عليها درجات يصعد عليها الحجاج، والسعي شعيرة من شعائر الحج، قال الله فيه: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ، وعدد أشواطه سبعة كالطواف.
وهذا المسعى تجده مزدحمًا بالحجاج في كل لحظة من اليوم ليلًا أو نهارًا، يعج بالساعين داعين مكبرين، وقد حث الإسلام على السعي في بعض أجزاء الطريق في إسراع؛ لإظهار المسلمين جلدهم وقوتهم أمام عدوهم، وبقيت هذه سنة الإسلام.
في هذا المسعى ترى جميع أصناف العالم الإسلامي، من تركي، وهندي، وشامي، ومصري، ومغربي، ويمني، وفارسي، وياباني، وتسمع اللهجات المختلفة والألسنة المتباينة، وكلها تذكر الله، وتلجأ إليه، وتتجاوب الأصداء بالدعاء إلى الله بالتوبة والغفران.
وفي هذا الفيض من الشعور ينسى المرء نفسه، وينسى تعبه، ويرى الشيخ المسن وقد دفعته حرارة الإيمان للسعي الطويل مع الجلد والصبر الجميل، وفي هذا المسعى ذكرى إبراهيم وما صنع، فمن المأثور أن المروة هي المكان الذي أمر إبراهيم بتضحية ابنه فيه، والصفا هو المكان الذي بحثت فيه أم إسماعيل عن الماء يوم كان الوادي قَفْرًا، فالمكان مليء بالذكريات؛ من التضحية، والطاعة لله، وشفقة الآباء والأمهات، ورحمة الله بالناس.
وبعد هذا السعي يقضي الحاج فترة من الزمن يتذوق ما أنعم الله به عليه، ويشعر بنوع من الغبطة كأنه كان يحمل حملًا ثقيلًا من الأوزار والخطايا رفعت عنه، وكأنه خلق خلقًا جديدًا في صفاء نفسه وطهارته.
حتى إذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية، يخرج الحجاج إلى جبل عرفات، فيتجهون إلى الشرق في وادٍ بين جبلين ويزدحم الناس في الطريق، هذا يسير بجمله، وهذا يسير على قدميه؛ احتمالًا للمشقة في سبيل الله، وهذا يسير بسيارته، فترى الإبل تسير قوافل، والسيارات كذلك، والسائرون على أقدامهم في وسط ذلك، أو على جانبي الطريق، والناس يسيرون بالنهار وبالليل في ضوء القمر، والوادي يسيل بالناس سيلًا، وتسير هكذا حتى تصل إلى منى، فترى قبيل دخولك جمرة العقبة، وهي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في عرض مترين، أقيم على قطعة من صخرة مرتفعة؛ ليرجمها الناس بالحجارة إذا رجعوا من عرفات؛ تمثيلًا لقوة نفوسهم وتجسيمهم الشيطان ورميه بالحجارة، وبعد الخروج من منى والمرور بواد ضيق؛ يتسع الوادي وتنفتح أرجاؤه إلى الشمال والجنوب.
وترى عَلَمين وهما عمودان بعيدان عن بعضهما قد أقيما في فضاء الوادي الواسع للدلالة على حدود عرفة.
هذا وادٍ فسيح لا حد لسعته، وهنالك جبل حلَّق على الوادي، وأقفله أمامك من الشرق على شكل قوس كبيرة، هو جبل عرفات، وهناك من ناحية الشمال لسان يمتد إلى الغرب هو جبل الرحمة، فيه صخرة عالية كان يقف عليها النبي ﷺ عندما يخطب.
كل هذا جبل عرفات ووقفة عرفات، في هذا الوادي المتسع تنصب الخيام التي لا عداد لها للناس من جميع أقطار الأرض، وفي سفح الجبل وأعلاه يقف الحجيج، في هذه الأمكنة الفسيحة يزدحم الناس حتى لا تكاد ترى مكانًا خاليًا.
هنالك يرى الحاج مجرى عين زبيدة وحاجة الحجاج إليه، فيشعر بالعمل العظيم الذي قامت به هذه السيدة زوج الرشيد من تيسير على الناس في أهم ضرورات الحياة.
يجتمع الناس في هذا المكان في اليوم التاسع من ذي الحجة مع قليل من ليلة العاشر، فترى منظرًا عجبًا، لا أذكر في حياتي أني رأيت منظرًا أرهب منه ولا أجل منه، عصبة أمم لا عصبة حكومات، يجمعهم غرض واحد ولا تشتتهم الأغراض، يرجون التخفف من الدنيا ويندمون على التفاني في أعراضها، يحتقرون أصنام الناس من مال وجاه وشهوات، ويسمون إلى طلب رضا الله بطاعته، ويشعرون بالسعادة الحقيقية وهي السعادة الروحية الباقية، لا السعادة المادية الفانية، ويؤمنون بإله واحد فوق المادة وفوق البشر وفوق كل القوى، له وحده يخضعون، وبه وحده يستعينون؛ أما الخضوع لغيره فضرب من الإشراك، وأما التذلل في سبيل المال والجاه وأعراض الحياة فضرب من العبودية لا يرضاه دين الإسلام، كلهم ينادي: لبيك اللهم لبيك، فتتجاوب بهذه الكلمة الأرجاء وتدوي بها الأصداء، فتتغلب روحانيات الناس على مادياتهم، هنالك يتطلع الناس إلى رحمة ربهم، ويطلبون منه العون على صفاء نفوسهم، ويحتقرون أنفسهم الماضية التي خضعت للشهوات وأفسدتها اللذات، ويسمُون إلى مثل أعلى فيه حب الخير وبغض الشر، والرجاء إلى الله أن يوفقهم إلى حياة من نوع آخر؛ فيها الطاعة والإخلاص وعمل الخير للخير ولله.