في الحج (٣)
وصلنا في حديثنا الماضي عن الحج إلى الوقوف بعرفة؛ وقد احتشدت مئات الألوف من الناس في اليوم التاسع من ذي الحجة بملابسهم البيضاء، يعجون بالتلبية والدعاء والتسبيح والتهليل حتى يزلزلوا الجبل بدعائهم وابتهالهم، قد نسُوا دنياهم ونسوا أنفسهم وتعلقت أرواحهم بربهم، هذا يستغفر مما جنى، وهذا يندم على ما فات، وهذا يعاهد الله على الطهر الدائم، وكلهم يرجون افتتاح حياة جديدة عمادها التقوى والإخلاص.
وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ينهض خطيب عرفة ويصعد بناقته على الجبل ويقف على الصخرة التي وقف عليها رسول الله ﷺ فخطب خطبة الوداع، فيخطب الخطيب خطبة يعلم فيها مناسك الحج ويكثر فيها من التلبية والدعاء، ومن دونه قوم يبلغون قوله للناس ويلوحون بمناديل يشيرون بها إلى التلبية، فيتابعه كل الناس بتلبيتهم فتتحد نداءاتهم ويغمر الناس إذ ذاك شعور غريب.
وحبذا لو استخدمت في هذا الموقف المكبرات الصوتية، وحبذا لو أعدت فيه الخطب الرائعة باختلاف اللغات المشهورة متضمنة نصيحة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويوقظ أممهم، ويحيي آمالهم، ويوحد بين صفوفهم، ويوجههم أصلح وجهات الحياة ، وفي هذا الاجتماع فرصة كبيرة لتلاقي ذوي الرأي من المسلمين في الأقطار المختلفة، يتبادلون الرأي فيما يصلح أممهم وينير السبيل لمستقبلهم، حتى إذا غابت الشمس في الأفق أعلن تمام الموقف؛ فينفر الناس من عرفات هاتفين هتاف الفرح والسرور على ما وفقهم الله من أداء الفرض.
هذا هو الوقوف بعرفة؛ وهو أهم ركن من أركان الحج، من فاته فقد فاته الحج؛ لأنه أهم جزء في الحج يحقق حكمته؛ ففيه يجتمع المسلمون بعد الرياضة الروحية الطويلة والأسفار الشاقة، ويتجهون اتجاهًا واحدًا، ويتبادلون النصيحة، والشعور بالأخوة، ويرغبون زوال الشرور عنهم، وتوالي نعم الله عليهم، ولهذا جاء في الحديث: «ما رؤي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة».
والمسلمون في جميع أقطار الأرض ممن لم يقدروا على الحج يشتركون فيه بالذكرى؛ فيتخذون هذه الأيام أيام عيد ويصلون صلاة العيد ويهتفون هُتاف الحجاج: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فتتلاقى قلوب المسلمين وهتافاتهم على معنى واحد واتجاه واحد، وذلك أحرى أن يتعاونوا على الخير ويتواصوا بالحق والصبر.
بعد هذا ينفر الحجاج من عرفات إلى منى، وفي طريقهم يمرون على المزدلفة وينزلون بها ويقيمون بها إلى ما بعد صلاة الصبح، وفي هذه المزدلفة المشعر الحرام، فضاء من الأرض أحيط بجدار قصير، تتوسطه مئذنة تضاء أيام الحج، بجواره مجرى عين زبيدة، وسمي المَشْعر؛ لأن العرب كانت قد اعتادت أن تُشعر جمالها عنده، أي تضربها في سنامها؛ حتى يسيل منها الدم في التضحية.
والحجاج يجمعون من هذه الصحراء حول المشعر الحرام تسعًا وأربعين حصاة صغيرة في حجم الفولة؛ ليرموا بها الجمرات بعد وصولهم إلى منى.
يصل الحجاج إلى منى وينصبون خيامهم في فضائها الواسع، ومنى ليست مجرد صحراء كعرفات والمزدلفة، وإنما هي قرية بها مبان ومساكن يقيم بها بعض الناس طوال العام، وبعضهم في موسم الحج، وينزل بعض الحجاج في هذه المساكن بدل الخيام.
ويقيم بها الحجاج إلى عصر اليوم الثالث عشر من ذي الحجة فيذهبون إلى الجمرات يرجمونها، وكأنهم يرمزون برجمها إلى أنهم حاربوا الشيطان وانتصروا على نوازع الشر في نفوسهم، وكبحوا جماح شهواتهم ورجموها وتغلبوا عليها، فلم يعد في نفوسهم إلا الطهارة والطاعة وعبادة الله وحده.
والرجم عادة عربية، وطريقة من طرق إعلان السخط عندهم، فهم يرجمون قبر أبي رغال؛ لأنه كان يقود جيش أبرهة، ويرجمون قبر أبي لهب خارج مكة لِمَا فعل النبي، والإسلام أقر الرجم في الحج؛ لأنه مظهر لتجسيم الشر والتبرؤ منه.
والحجاج كذلك في أيام منى يضحون في صبيحة العيد وينحرون، ولقد أبطل الإسلام القرابين والنذور، ونهى عما اعتاده العرب من ترك الماشية في البادية لله كالسائبة والبحيرة والحامي، ولكنه أقر التضحية في العيد؛ ذكرى لإبراهيم، وعونًا للفقراء والمساكين، وتقريبًا بين القادرين وغير القادرين، ولذا أوجب ذكر اسم الله عليها؛ حتى لا تكون قربانًا لصنم ولا عبادة لوثن، وإنما هي لله وفي سبيل الله، للمحتاجين والمعوزين.
فإذا تمت هذه الأعمال، نزل الحجاج إلى مكة فطافوا بالكعبة طواف الإفاضة، وسعوا وتحللوا، وبذلك يتم الحج.
بعد هذا يقصد أكثر الحجاج إلى زيارة رسول الله ﷺ في المدينة.
وهم الآن يقصدون المدينة عن طريق جُدة، فيمرون على آثار مشهورة في تاريخ الإسلام كمسجد الشجرة التي قال الله فيها: لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وقد خشي عمر تقديس المسلمين للشجرة فقطعها حتى لا يتجه المسلمون في شيء إلا إلى الله وحده، ثم يصل السائر إلى جدة، ومنها يتجه إلى المدينة فيقرب من شاطئ البحر حينًا، ثم يمعن في الصحراء، ويضرب في الرمال فيسهل السير حينًا ويصعب حينًا.
في بعض هذا الطريق مر النبي ﷺ وهو صغير مع أمه حين خرجت به لزيارة قبر أبيه بالمدينة، ومر به مع عمه وهو فتى حين خرج إلى الشام، ومر به وهو شاب في تجارة لخديجة، ومر به مهاجرًا من مكة، ومر به عام فتح مكة، ومر به عائدًا بعد الفتح.
وأخيرًا تظهر القبة الخضراء، قبة الحرم النبوي فيخفق القلب فرحًا، ويود أن يطير شوقًا.
هذه هي المدينة بأسوارها وأبوابها، وهذه هي القبة الخضراء تدلنا على مكان الحرم منها، هذه هي المدينة التي كان يقيم فيها الأوس والخزرج، وهم أول من قبلوا الدعوة الإسلامية من القبائل العربية، وبايعوا رسول الله على أن يؤمنوا بدعوته ويحموه ويحموا دعوته مما يحمون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وسموا من أجل ذلك بالأنصار، وهذه هي المدينة التي استقبلت النبي حين هاجر إليها استقبالًا رائعًا، واستقبلت من أتى معه، ومن أتى بعده من المهاجرين، وأشركوهم في ديارهم وأموالهم وعقدوا الأخوة بينهم وبينهم، وهذه هي المدينة التي تسلحت حربيًّا لما لم تفد دعوة السلم، فكسرت قريشًا في غزوة بدر، ثم تتابع انتصارها حتى دخل العرب في دين الله أفواجًا، وحتى فُتحت مكة نفسها، وهذه هي المدينة التي لبث فيها النبي ﷺ عشر سنين يدعو ويتلقى فيها الوحي وتنزل فيها كل السور المدنية؛ تشرِّع النظم، وتبين الأحكام، وتنظم الغزو، وتؤلف الأمة، وتقيم الحدود، وتسمو بالروح.
وهذه هي المدينة التي كان لها شرف وجود رسول الله بها حيًّا وميتًا، ثم كانت عاصمة الخلفاء الراشدين قبل دمشق وبغداد، وفيها رتبت الترتيبات لإخضاع أهل الردة، وفيها رتب عمر وعثمان نظمهما لفتح أكبر دولتين في عصرهما؛ وهما: فارس، والروم؛ حتى أخضعوها، واستولوا على بلادهما.
هذه هي المدينة التي لا تنتهي ذكرياتها وأحداثها التاريخية المجيدة.
في وسط المدينة تقريبًا يقع الحرم المدني بمنظره الجميل، وهيئته المستطيلة، وقبابه الكثيرة المستندة على أقواس قامت على عمد مكسوة بالمرمر، وفيه الروضة الشريفة بين قبر الرسول ﷺ والمنبر، وفي ركنه الجنوبي الشرقي المقصورة الشريفة؛ حيث توفي رسول الله ﷺ وحيث دفن أبو بكر وعمر (رضى الله عنهما) وبالقرب منه ضريح السيدة فاطمة (رضي الله عنها).
هنا يرقد صاحب الدعوة الإسلامية التي غيرت مجرى العالم، وأنزلت التاريخ على حكمها، ولا تزال إلى اليوم تنمو وتعمل في الحياة الإنسانية عملًا مجيدًا، هنا يرقد من علَّم الناسَ الحريةَ والمساواة والعدل وكسر الأصنام على اختلاف أشكالها وألوانها، ودعا الناس لعبادة إله واحد هو رب العالمين، هنا يرقد من لم يعبأ في حياته بمال ولا ولد، وإنما عبأ بدعوته؛ لم يعقه فيها عائق من تهديد ووعيد، ولم يلهه عنها وعد بمال أو سلطان.
في هذا المسجد كان يسكن رسول الله في حياته ويعيش عيشة بساطة لا تكلف فيها، ولكنه يدعو دعوة خالدة على الدهر، يحمل علَمَها أقوامٌ سادوا الدنيا حينًا في قوتهم وفي علمهم وفي روحانيتهم، فإن تقلب لهم وجه الدهر الآن فسيعودون إلى قوتهم، يبنون في العالم مع البانين، ويشيدون المجد مع المشيدين، ويصلحون مع المصلحين.
هذه كلها ذكريات مرت بذهني وأنا أدخل المدينة، وأزور الحرم، والقبر الشريف، وهذه الذكريات وأمثالها يذكرها الذاكرون من عباد الله المخلصين.
هذا ما اتسع له الوقت من الحديث في الحج في موسم الحج، أعاده الله على المسلمين، وعلى سكان العالم الإسلامي بالخير والسعادة والعزة، والسلام عليكم ورحمة الله.