آفة الشرق التقاليد
لعل أهم سبب في تقدم الغرب وتخلف الشرق هو أن الأول يبني حياته على العلم، والثاني يبني حياته على التقاليد والأوضاع الموروثة وحيثما اتفق.
ويظهر هذا الفرق بين الأسلوبين في كل ناحية من نواحي الحياة.
فالزراعة في الشرق — وهي عماد حياته — تجري على التقاليد الموروثة عن آبائنا الأولين، سواء في ذلك الآلات الزراعية التي عرفت من عهد قدماء المصريين والبابليين والأشوريين، ومنهج الزراعة وأساليبها، وليس يستعمل في الشرق الآلات الحديثة والمناهج الزراعية الحديثة إلا أفراد قليلون لا يمثلون أممهم، والعلم الآن قد قلب كل هذه الأوضاع، وأصبح يستطيع بآلاته ومناهجه أن ينتج أضعاف أضعاف ما تنتجه الأساليب القديمة، ولو اتبع الشرق الوسائل العلمية الحديثة في زراعته لأنتج ما يغنيه عن الاستيراد من الخارج، بل لكان مصدرًا كبيرًا للتصدير بعد ما يستكفي حاجته.
إن العلم الحديث يستطيع أن يصلح الأراضي البور في أقرب زمن وبأقل تكاليف، ويستطيع أن يضاعف الإنتاج من الأراضي المزروعة، ويستطيع أن يدخل في الزراعة أصنافًا جديدة لا عهد للشرقيين بزراعتها، ونحو ذلك، وبهذا كله تنقلب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد؛ لأن الفقر ينهزم أمام هذا العلم، ويجد الناس حاجتهم من الطعام في سهولة ويسر، والفقر أساس الجهل والمرض، فإذا انهزم … انهزم معه الجهل والمرض.
ويتصل بالزراعة تربية الماشية، فكم من ألوف منها تنفق كل عام؛ لأننا لا نستخدم العلم في تغذيتها ووقايتها، ولو فعلنا لقل موتها، وقوي جسمها، فانتفعنا بلحومها ونتاجها وقوتها وألبانها انتفاعًا مضاعفًا؛ لا يمنعنا منه إلا أننا نربيها على أساليب العصور القديمة.
بل إن العلم كفيل بقلب الصحراء جنة يانعة، وكفيل بأن يحول الماء المتدفق من الأنهار في البحار سدى إلى ما يمكث في الأرض فيخرج حبًّا ونباتًا وجناتٍ ألفافًا.
•••
وما قلنا في الزراعة نقوله في الصناعة … فصناعتنا في الشرق إلى الآن صناعة بدائية وإن تقدمت قليلًا، وأكثرها جار على الأساليب العتيقة التي يسخر منها العلم الحديث، فكم في أرض الشرق من منابع ثروة تحتاج إلى صناعة في إخراجها كمناجم الصحراء والقوات الكهربائية من مساقط المياه، وكم فيها من مادة خامة لا ينقصها إلا العلم؛ ليعرف كيف يضع الخطط لاستخراجها واستغلالها، وليس يمكن هذا كله إلا بالمال، والمال كذلك يحتاج إلى علم عميق … فمعاملتنا المالية إلى الآن معاملة ساذجة، وتدبير المال وتوزيعه واستغلاله والإشراف عليه من أكبر ما ينقص الشرق.
وعلم الاقتصاد إلى الآن علم لم يتقنه الشرق، وليس يعرف أغنياؤنا من المال إلا أنه وسيلة لشراء العقارات، فإن فهموا قليلًا فشراء السندات، أما استغلاله في الشركات لكشف منابع الثروة وتقدم الصناعات فشيء لم نألفه إلا قليلًا.
•••
فإذا نحن جاوزنا الماديات إلى المعنويات، وجدنا المشكلة هي بعينها، والحل هو عينه، أي إننا نسير حيثما اتفق فنتعثر، وينقصنا العلم لنسير على الجادة.
صحتنا العامة في خطر؛ لأننا لا نستخدم العلم في طرق الوقاية وطرق العلاج، وقد تسلط العلم الطبي في الأمم الحية على الحالة الصحية فيها وأخضعها لنظامه ووقاها من كثير من الأوبئة والأمراض، ولا يزال الشرق في حاجة إلى استكثار منه وإحلاله محل طب الركة وطب التقاليد.
فإذا نحن نظرنا من هذه الزاوية إلى الحالة الاجتماعية والسياسية في الشرق، رأينا عجبًا أي عجب … حتى دعوات الإصلاح تبنى على العواطف والمشاعر لا على أساس العلم، فندعو إلى إصلاح المساكن، وإلى توفير الماء الصالح للفلاح، وإلى مكافحة الأمية، وإلى القضاء على الحفاء … ونحو ذلك، بمجرد العاطفة لا عن درس عميق، فإن الدرس العميق يتطلب تشخيص الداء والاعتماد على الإحصاء، ووجه العلاج، وما يتطلب من مال، وخطوات التنفيذ، وما قد يعترضها من صعوبات، وتهيئة الرأي العام لقبول الإصلاح ونحو ذلك، كل هذا هو الدرس العلمي للمرض الاجتماعي وعلاجه، أما الاكتفاء بالأمل ووضع خطط شعرية للموضوع يهزأ بها الواقع فلا تغني شيئًا، ولذلك فشلت كل ضروب الإصلاح المبنية على الخيال لا على العلم.
وكذلك الشأن في السياسة؛ فقد أصبحت السياسة علمًا بأصول وقوانين مستمدة من التاريخ والتجارب، وقد كشفت الأحداث القريبة في الشرق أن رجالنا ينقصهم علم السياسة، فهم يقابلون الآراء السياسية المبنية على العلم والدرس ووضع الخطط المحكمة، بالآراء المرتجَلة التي تعتمد على الآمال، لا على الدرس والتحليل والتعمق، فيخسرون قضاياهم.
وشأن السياسة الداخلية شأن السياسة الخارجية، كلتاهما علم وفن ما لم يحذقا فالفشل المحقق والاضطراب الدائم.
•••
وهكذا غزا العلم كل ميدان، وصار — في الغرب — الأساس لكل حياة … حياة الزراعة والتجارة والصناعة والاقتصاد والسياسة والتربية وكل شيء، ولا بد لنا ما دمنا قد اعتنقنا المدنية الغربية وسرنا على طريقها أن نسلك خطتها فنبني حياتنا على العلم.
•••
إن ما يحتاج إليه الشرق هو بث الروح العلمية في الأفراد والجماعات، فإذا تم ذلك رأينا انقلابًا خطيرًا في جميع مرافق الحياة … الأم تربي ابنها على أساس علمي، والزارع يزرع أرضه على أساس علمي، وكذلك المالي والسياسي والمصلح الاجتماعي وهكذا، ولم يعد هناك مجال للخرافات والأوهام والأوضاع العتيقة والتقاليد القديمة، بل إني أرى أن الفوضى في مجالسنا وطول جدلنا وعدم وصولنا — بعد الجدل الطويل — إلى نتيجة، سببها في الأعم الأغلب انعدام الروح العلمية؛ لأن هذه الروح من أهم صفاتها خضوعها للمنطق واستعدادها للتفاهم.
وليست تتم سيادة هذه الروح العلمية في أمة إلا إذا عممت المنهج العلمي في دراستها، ونال كل طالب قسطًا وافرًا من العلوم كالطبيعة والكيمياء، وأدخل العلم في المدارس الصناعية والزراعية والتجارية، ونشرت بين الجمهور الثقافة العلمية الشعبية، وأجريت أمامهم التجارب العلمية حتى يروا نتائجها بأعينهم ويؤمنوا بها، فتحل العقائد العلمية محل العقائد الوهمية، ثم يكون على رأس ذلك معهد قوي عظيم للأبحاث يكون مرجعًا لكل المشتغلين في الصناعة والزراعة والمهن، يستهدونه في أمورهم ويستفتونه في مشكلاتهم، وعلى كلٍّ؛ فلا أمل في أمم الشرق إلا إذا بنت حضارتها على هذا الأساس.