موسيقى الحياة
حياة كل فرد موسيقى تصدر من أوتار مختلفة وآلات متعددة، فإذا تناسقت وتناغمت أنتجت صوتًا جميلًا وكانت السعادة، وإن تنافرت وتخالفت أنتجت صوتًا قبيحًا وكان الشقاء.
في جسم الإنسان كثير من الأعضاء وعدد عديد من الغدد وما لا يحصى من الأعصاب، لكل منها وظيفة، وكل وظيفة لعضو أو غدة أو عصب يجب أن تتناغم وتتناسق مع وظائف الأعضاء والغدد والأعصاب الأخرى؛ حتى تتوافر الصحة في البدن، فإذا قصر أحدها في أداء وظيفته كان المرضُ، وليس المرض إلا «نشازًا» في النغم وتنافرًا في موسيقى الجسم.
كذلك هذا الجسم يحوي عناصرَ مختلفةً من جير وفوسفور وحديد وفحم وهيدروجين وأكسيجين ونتروجين ونحو ذلك، ويجب أن تكون هذه العناصر موزعة على الجسم بنسب معينة، إن زادت اختل، وإن نقصت اعتل، وكل خلية في الجسم وكل ذرة من ذراته يجب أن تؤدي واجبها وتأخذ — بقدر — غذاءها، وجميعها محكومة بقانون واحد لا تستطيع أن تثور عليه ولا أن تخرج عنه وإلا كان المرض وكان الهلاك.
وربما كان أعجب شيء في هذا الباب عمل القلب والرئة، فالقلب قوة كهربائية هائلة بل هو قوة فوق الكهربائية تعمل في استقبال الدم وتوزيعه، وتساعده الرئة بالتنفس في إصلاح الدم وتطهيره.
وفوق ما للقلب والرئة من عمل فيسيولوجي، لهما أيضًا قوة روحية عجيبة أعظم من قوة الكهرباء تكون بها الحياة، وإلا كان تحريك القلب والرئة بالوسائل الصناعية وسيلة من وسائل مد الحياة، مع أن الحياة لا يمكن أن تمد بهذا العمل المادي الصناعي؛ لفقدان القوة الروحية العجيبة. وأيًّا ما كان؛ فالنظر في أعضاء الجسم ومكوناته العديدة يشعرنا بأنه يقوم بحركة موسيقية معقدة أتم التعقيد، لا تنسجم ولا ينبعث عنها الصوت الجميل إلا بشروط كثيرة قلما تتحقق؛ لأنها لا تتحقق إلا بتأدية آلاف مؤلفة من الخلايا وظائفها، أو بعبارة أخرى بتوقيع نغماتها على أكمل وجه وأتم تناسق.
وكما يجب التناسق بين أجزاء الجسم بعضها وبعض يجب التناسق بينها وبين بيئتها الخارجية من حر وبرد، ورطوبة وجفاف، وغذاء وملبس، ونحو ذلك، فإذا اختل هذا التناسق والتناغم اعتلت الصحة، وكل علمنا بوظائف الأعضاء وتكوين الجسم وما يحيط به من بيئة ليس له غرض إلا إيجاد هذا التناسق والانسجام.
فإذا نحن انتقلنا إلى بيان ضرورة التناسق بين الجسم والعقل والنفس فالأمر أصعب وأدق، فكثير من شقاء الناس يرجع إلى أن عقلهم لا يتناسق وجسمهم، أو أن نفسهم لا تتناغم مع أجسامهم، فكل من العقل والنفس والجسم تتفاعل وتكون موسيقى؛ قليلها منسجم، وكثيرها نشاز، والخلق الفاضل والغرائز المحكومة والشهوات المعتدلة ليست إلا نتاجًا لتناسق القوى وتناغم الملكات، والرذائل والغرائز الجامحة والشهوات العارمة ليست إلا نشازًا في النغمات نشأ من فقدان التناسق؛ قد يعني الإنسان كل العناية بجسمه ويهمل عقله ونفسه، فتعلو نغمة الجسم وتهبط نغمة العقل والنفس فتفسد الموسيقى ويكون الشكل شكل إنسان والحقيقة حقيقة حيوان، وينعدم التناسق ويختل التوازن، وقد تعلو نغمة العقل وتضعف نغمة الجسم فيكون العكس، وفي كلتا الحالتين لا تناسق.
وبعد؛ فالعالم كله موسيقى ضخمة كبيرة هي أكثر تعقيدًا من حياة الفرد؛ لأنها أكثر آلات وأوتارًا … آلات تمثل البدن وآلات تمثل العقل والروح، نغمات اقتصادية، ونغمات اجتماعية وسياسية، ونغمات فلسفية، ونغمات روحية، وما لا يحصى من عوامل منبثة في جميع أنحاء العالم، وكلها تعمل في تكوين الموسيقى العالمية، وتؤلف نغمات مختلفة تتجاوب وتتفاعل.
ومع الأسف لم تكن هذه الموسيقى يومًا من الأيام متناسقة منسجمة، ولو حدث هذا يومًا لكان أسعد الأيام وأمتعها، لو حدث هذا ما كان جوع بجانب تخمة، ولا نعيم بجانب شقاء، ولا استعمار، ولا رق، ولا إجرام دولي، ولا أمم كبيرة تنتهك حرمة أمم صغيرة، ولا سلاح، ولا حرب، ولا دسائس دولية، ولا مؤامرات أممية؛ لأن هذه الأمور كلها وأمثالها «نشاز» في موسيقى العالم.
إن هذا «النشاز» نشأ من طغيان بعض عناصر الحياة على البعض الآخر، كما يطغى في الموسيقى صوت الرق على صوت العود أو القانون.
إن عناصر الحياة ثلاثة: عنصر مادي يخدم الأبدان، وعنصر عقلي يخدم التفكير، وعنصر روحي يحيي النفس، وجمال الموسيقى في تعادلها وتناسقها، فلما طغى عنصر المادة في المدنية الحديثة على العنصرين الآخرين أفسد الحياة.
إن موسيقى المدنية الحديثة طنانة رنانة مقلقة للراحة مفسدة للذوق، ترتفع بعض آلاتها حتى تكاد تصم، وتخفت بعض آلاتها حتى لا تكاد تسمع، ومن أجل هذا فقدت تناغمها، فضاع جمالها.
تقدمت في الصناعة، ولكن صناعاتها ومخترعاتها كانت لخدمة البدن وما إليه فحسب.
والتعليم في أساسه موجه إلى النجاح المادي في الحياة، ومناهجه في الجغرافيا والتاريخ والرياضة واللغات وسائر مناهج الدراسة تهدف إلى النجاح في الوظيفة أو النجاح في العمل، والعقل ارتقى كثيرًا عما كان عليه في القرون السابقة، ولكنه وضع لخدمة الحياة المادية أيضًا لا لخدمة التعاون ولا لخدمة الإنسانية.
والأخلاق وجهت هذه الوجهة نفسها؛ فالصدق، والمحافظة على المواعيد، وتقويم الزمن، والثقة بالنفس، ونحو ذلك — وضعت في أعلى قائمة الأخلاق؛ لأنها أخلاق تجارية، أعني أنها تنفع في عالم التجارة وعالم الأعمال، أما الرحمة، والإنسانية، والعطف، والتعاون — فوضعت في أسفل القائمة بعد أن فسرت تفسيرًا ماديًّا، وحسبك أن المدنية الحديثة إذا ربت طيارًا مثلًا علمته الشجاعة والإقدام والاستعداد لتضحية النفس في الحرب، ولكنها لا تعلمه تقدير حالة من يطلق عليهم القنابل ومن تصيبهم من غير المحاربين، ولا تعلمه أن يرعى الإنسانية كما يرعى القومية.
وهكذا اتجه العلم فنظر إلى المادة ولم ينظر إلى روحها، واستُخْدِمَ فيما يفيد جسم الإنسان لا ما يفيد قلبه.
أصبح العالم في وضعه الحاضر كجسم اختل توازنه وانعدم تناسقه، فاتسعت إحدى عينيه وضاقت الأخرى، وطالت إحدى يديه وقصرت الأخرى، واستقامت إحدى رجليه وعرجت الأخرى، فكان مشوهًا يستخرج من الناظر النفور والاشمئزاز، وهذا هو سر ما يعانيه العالم من شقاء: خوف شامل، واستعداد لقتال هائل، واضطراب في نظم الحكم ليس له من قرار، وانقسام العالم إلى معسكرين أو معسكرات، تتهاجى وتتراشق بالتهم ويفر كل من تحمَّلَ المسئولية ليلقيها على غيره، وهكذا وهكذا من أنواع الشرور التي تهدد بالفناء، وتكاد تجعل موسيقى العالم كلها «نشازًا».
ولا أمل — مطلقًا — في صلاحه إلا إذا أصلحت من جديد آلاته، ونظمت أصواته، ونسقت نغماته.