عالم كذاب
ظلم الناس أبريل؛ إذ أضافوا إليه الكذب، فقالوا: «كذبة أبريل»، كأنه الكاذب وحده، أو كأن الكذب يقال في يوم من أيامه وحده، وكأن ما عداه من الأيام مظنة الصدق وقول الحق، مع أن كل الأيام في الكذب سواء، فكل الأيام كاذبة، وكل الأشهر كاذبة، لا يختلف فيها يوم عن يوم ولا شهر عن شهر، بل إن العالم كله كذب في كذب، أسس على الكذب وبني على الكذب، وكيف لا يكون هذا العالم كذابًا، وقد خرج إلى الوجود بكذبة كذبها إبليس على آدم وحواء؛ إذ قال لآدم: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، ثم ظهر أنها لا هي شجرة الخلد، ولا هو ملك لا يبلى، إنما هي شجرة الكذب، وإنما هو الملك الفاني الزائل.
كل شيء في العالم كذاب، الدنيا نفسها خداعة كذابة، تتبهرج أمام الناس كما تتبهرج المرأة الخليعة، فتفتنهم عن مسلك الحق وعيشة الصدق، تغريهم بمفاتنها ومباهجها؛ حتى يركنوا إليها ويطمئنوا لها، كأنها خالدة وهم خالدون، وتصرفهم عن التفكير في المستقبل والمآل، فهؤلاء فتنوا بالمال ووجهوا كل حياتهم إليه، ينفقون في جمعه أعمارهم؛ يكسبونه ويدخرونه، أو يكسبونه وينفقونه، وهم يتحاربون من أجله، ويتخاصمون من أجله، ويتعادون من أجله، كأنه غاية الغايات في الحياة، وكأنهم خلقوا له، وعاشوا من أجله، هو تفكيرهم بالليل، وهمهم بالنهار، يبيعون من أجله الحق والشرف والخلق والصداقة، وكل هذا من خداع الدنيا لهم وكذبها عليهم، ثم ينتهي الأمر أخيرًا إلى عجز أو شيخوخة أو مرض أو موت؛ حيث تنكشف الخديعة بعد فوات الأوان.
وهؤلاء آخرون يُخدعون بالجاه، فيتكالبون عليه، ويتنازعون من أجله، ويضيعون مصالح الناس لكسبه، ويبذلون في سبيله الخلق والعزة والنبالة، ثم يستخدمونه في ذل الناس وإهانتهم واحتقارهم، وبعد ذلك كله ينجلي الأمر عن كذبة من كذب الدنيا، وخدعة من خدعها، فإذا كل ذلك هباء.
ومثل الذي قلنا في المال والجاه، نقول في مباهج المرأة وفتنتها، والخمر وشعشعتها، والميسر واستغوائه واستهوائه، فكل هذه لذائذ عارضة، تتزين بها الدنيا لتفتن بها العقول، وتخدع بها النفوس، ثم ينجلي الأمر بعد ذلك كله عن كذبة فادحة، أين منها كل أكاذيب أبريل؟!
•••
فإذا نحن انتقلنا من الدنيا إلى أبناء الدنيا، وجدناهم كأمهم؛ رضعوا الكذب، ونشأوا في الكذب، وعاشوا في الكذب، هم كاذبون حتى بما يتزينون من ملابس، وإلا فلماذا زر الطربوش؟ ولماذا رباط الرقبة؟ ولماذا ثنية البنطلون؟ ولماذا الأزرار في جانب اليدين؟! وهم كاذبون في مأكلهم، فلماذا مظهر الكرم، وهو فوق المستطاع؟! والتباهي بالموائد، تقدم للأغنياء وتمنع عن ذوي الحاجات؟! ولماذا الإفراط في تعدد الأصناف، وهي فوق حاجة الجسم؟!
ثم ما هذا الكذب في كل مجتمع صغر أو كبر؟ فالبيت مملوء كذبًا، يكذب الرجل على زوجته، والزوجة على زوجها، والأولاد على آبائهم في كل يوم وفي كل ساعة، إما كذبًا بالقول أو كذبًا بالفعل، ومصالح الحكومة مملوءة كذبًا، رئيس يكذب على مرءوسيه، ومرءوسون يكذبون على رئيسهم، ورئيس ومرءوسون يكذبون على من اتصل بهم من أصحاب الحاجات، فكل مصلحة كأنها مصنع كذب، والمتاجر والمصانع كلها كذب في كذب، فمن أساس التجارة الإعلان الكاذب، والعرض الكاذب، والإيهام الكاذب، والأيمان الكاذبة، ويتبادل سوءَ الظن في المصانع العمالُ وأصحاب رءوس الأموال، كل فيها خادع ومخدوع.
ثم كل طائفة من الطوائف، وكل طبقة من طبقات الناس، لها كذبها في حرفتها ومهنتها، وسلوكها ومعاملاتها؛ حتى أصحاب الفضيلة ورجال الدين ووعاظ الأخلاق ومن نصبوا أنفسهم لمحاربة الرذيلة، إن أنت كشفت عن مظهرهم البراق، رأيت العجب العجاب، وما يحير الألباب؛ كالذي يقول المعري:
وإن أنت نظرت إلى رجال السياسة، فالطامة الكبرى والمصيبة العظمى، فاللغة كاذبة؛ لا بأس عندهم أن يسموا الاحتلال انتدابًا، بل لا بأس أن يسموه استقلالًا، وأن يسموا القوة القاهرة المتغلبة «معاهدة على قدم المساواة»، ويسموا التوجيه بالقوة والقهر مجرد نصح وإشارة، والمستبد المالك للسلطان مستشارًا، ولا بأس أن يضعوا المبادئ لتحكم القوي في الضعيف، ويسموها المبادئ العشرة أو ميثاق الأطلنطي، وأن يقولوا في الحرب ما ينقضونه في السلم، ولا بأس عندهم أن يضعوا المبادئ الجذابة والقوانين العادلة، فإذا هم طبقوها نسوا عدالتهم وذكروا ظلمهم، ولسنا ننسى في هذا المقام أفاعيل الأحزاب، وأكاذيب الزعماء والتكالب على الحكم، بدعوى إقامة العدل، وتضحية الجم الغفير من الناس لمصلحة زعيم من الزعماء، تحت ستار رفع الظلم ونصرة الحق، وتلوين الحق بلون الباطل، والباطل بلون الحق، والنظر إلى الأشياء نظرة ضيقة متعصبة؛ حتى إن الشيء الواحد حق كل الحق إذا صدر من الحزب، وباطل كل البطلان إذا صدر من خصومه، كما لا ننسى كذب التاريخ السياسي مثل ما تكذب السياسة، فمؤرخو الألمان ينسبون سبب الحرب إلى خصومهم، وخصومهم ينسبونه إليهم، ثم هؤلاء وهؤلاء لا يتورعون عن أي كذب في سبيل الدعاية، وهم قادرون على أن يلونوا كل ما يخدمهم باللون الزاهي الجميل وكل ما يضرهم باللون القاتم الأسود.
•••
وما بالنا نذهب بعيدًا؛ والإنسان لا يكتفي بأن يكذب على غيره، بل هو شر ما يكون حين يكذب على نفسه، وكثيرًا ما يكون ذلك، فهو يظلم الناس، ويظن أنه عادل، ويأتي بالشر، ويظن أنه يفعل الخير، ويفعل الفعل تدفعه إلى عمله مصلحة شخصية، ويظن أنه إنما يفعله للمصلحة العامة، وتصدر عنه أسوأ الأعمال فيلونها أمام نفسه بأنها خير الأعمال، فإن تنازل عن ذلك قليلًا، واعترف بفعلته أنها جريمة، خلق لنفسه المعاذير أشكالًا وألوانًا، وقلما ترى في هذا العالم شريرًا يعتقد أنه شرير، أو مجرمًا يرى أنه مجرم، وهو إلى ذلك يحاول أن يسمي الأشياء بغير أسمائها، فيسمي الرشوة هدية، ويسمي التحايل مهارة، ويسمي ظلم الناس لمصلحة أقاربه أو أصدقائه قدرة على النفع … حتى الأدباء سموا كذب الشعراء خيالًا، والمغالاة في التشبيه مبالغة، وهكذا مما لا يحصى ولا يعد.
•••
إن كانت الدنيا تكذب، وكل طائفة تكذب، وكل إنسان يكذب، والعالم كله يكذب، فأين الصدق؟! إن هذا العالم عالم كذاب، بني ما فيه على الكذب؛ حتى لو استطاع إنسان أن يصدق في كل شئونه مع الناس ومع نفسه لعاش غريبًا ومات غريبًا، ولو تصورنا عالمًا صادقًا كل الصدق لكان عالمًا مخالفًا لعالمنا كل المخالفة، لا يمت إلى عالمنا هذا بسبب، فليست المسألة مسألة كذبة أبريل، بل العالم كله أبريل.