خاتمة

النقد الاجتماعي على الطريقة الليبرالية

لقد تفاقمت المسألة الاجتماعية — كما رأينا — في مصر في الحقبة ما بين الحربين العالميتين، وزادت تفاقمًا في السنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية، وأثبت النظام الليبرالي الذي أقامه دستور ١٩٢٣م عجزه عن أن يحقق الديمقراطية السياسية؛ نظرًا لغياب الديمقراطية الاجتماعية، وعدم توفر الوعي الاجتماعي لدى البورجوازية المصرية عامة، وشرائحها العليا خاصة، وأصبح الخلل الاجتماعي الناجم عن سوء توزيع الثروات وبروز حدة مشكلة الفقر مثلًا للعيان، ينذر بثورة اجتماعية بدت بوادرها في هبَّات الفلاحين من حين لآخر على مر الفترة، وفي حركة العمال المصريين، ما لم تُبذل جهود كبيرة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي عن طريق البحث عن حل للمسألة الاجتماعية.

وحفلت الفترة بالاجتهادات الفكرية التي تبحث عن حل للمسألة الاجتماعية سواء في إطار النظام الليبرالي القائم، أو خارجه عن طريق طرح بدائل له تضع الأولوية للديمقراطية الاجتماعية باعتبارها حجر الزاوية للديمقراطية السياسية.

وكانت الأفكار التي طرحتها «جماعة النهضة القومية» تسعى إلى حل المسألة الاجتماعية في إطار النظام الليبرالي القائم فقدَّمت نموذجًا للنقد الاجتماعي من داخل النظام. وبحكم التكوين النخبوي للجماعة ركزت على الترويج لأفكارها بين البورجوازية المصرية، بل بين صفوف الشريحة العليا للبورجوازية المصرية من بين كبار الملاك الزراعيين، وراحت تسعى لحشد شريحة المثقفين وراء أفكارها، فتوجهت إليهم بتلك الأفكار، وأسقطت من حسابها الجماهير الشعبية التي لم تكن تملك وسائل حشدها بحكم تكوينها من قلة عددية من كبار الملاك والمثقفين، وبحكم افتقارها للتنظيم السياسي الذي يستطيع العمل بين الجماهير.

وما كان لجماعة النهضة القومية أن تتوجه للجماهير العريضة بأفكارها؛ فهي وإن كانت تدرك تمامًا الأبعاد الخطيرة لمشكلة الفقر والجهل والمرض، وسعت للبحث عن حلول لها، إلا أنها توجهت بأفكارها إلى الشريحة العليا للبورجوازية التي يمثل واقعها الاجتماعي محور المشكلة، وتكمن فيما قد يصدر عنها من مبادرات وسائل حل تلك المشكلة.

غير أن جماعة النهضة القومية في نقدها للواقع الاجتماعي لمصر لم تشأ أن تُلزم البورجوازية المصرية بتقديم التضحيات — أو حتى بعض التنازلات — حرصًا على استمرار مصالحها، رغم نضح الوعي الاجتماعي لدى أفراد الجماعة، ويقينهم من أن استمرار الأوضاع السائدة على ما هي عليه قد يفقد البورجوازية امتيازاتها، وأنها إذا لم توجِد البديل بيدها، فسوف يُفرَض البديل عليها فرضًا، وعندئذٍ قد تكون ثورة اجتماعية لا تُبقي ولا تذر، رغم وعي الجماعة بهذا، نجدها تجنب البورجوازية تحمل عبء الإصلاح الاجتماعي الذي حددت إطاره، وهو إصلاح استهدف — بالدرجة الأولى — توسيع دائرة الشرائح الدنيا للبورجوازية، وبالتالي توسيع حجم الطبقة الوسطى كأداة للاستقرار الاجتماعي الذي كانت تنشده الجماعة في إطار نظام ليبرالي.

ومن هنا كان ارتكاز الجماعة على دور الدولة في تحقيق الإصلاح، وتحميل الدولة مسئولية توسيع دائرة ملاك الأراضي الزراعية، والمحافظة على الملكية الصغيرة، وإرساء العلاقات الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي على قاعدة «العدل»، دون أن تزود الدولة بإمكانات تُعينها على أداء ما تصوَّرته الجماعة واجبًا على الدولة القيام به. فرغم مطالبة الجماعة بالأخذ بمبدأ الضرائب التصاعدية على الدخل، فإنها قصرته على الزراعة، ولم تشر في أدبياتها إلى ضرورة امتداده ليشمل رأس المال بغض النظر عن ميدان استثماره، وحتى عندما صاغت الجماعة أفكارها الخاصة بالإصلاح الزراعي في صورة مشروع قانون، أسقطت هذا المبدأ الهام من اعتبارها، بل تنازلت — تقريبًا — عن مبدأ إقامة العلاقات الاجتماعية على قواعد العدل، فجعلت عقوبة من يخالف التشريع في هذه الناحية أبعد ما تكون عن الردع. وتركت للملكيات الكبيرة مهلة للبقاء تمتد إلى أجيال، وتركت لأصحابها أمر التصرف فيما زاد عن الحد الأعلى للملكية، فهي تنشد الإصلاح الاجتماعي من منطلق طبقي وليس من منطلق قومي، من زاوية الحرص على مصالح البورجوازية المصرية، وضمان استمرار تلك المصالح، وليس من زاوية تحقيق الديمقراطية الاجتماعية كشرط لضمان استمرار الديمقراطية السياسية.

وتتجلى هذه النظرة الطبقية للإصلاح في رؤية الجماعة لإصلاح أداة الحكم، فالنظام السياسي الذي سعت الجماعة إلى تحقيقه يهدف إلى توسيع نطاق مشاركة البورجوازية في السلطة، ولا يهدف إلى تحقيق نفس الغاية للجماهير الكادحة التي استُبعدت تمامًا من إطار النظام السياسي فلم يُترك لها مجال المشاركة فيه إلا بالانتخاب. وما الاهتمام بتوسيع دائرة التعليم الأساسي (الابتدائي) وتعميمه إلا من أجل خدمة هذه الغاية. أما مراحل التعليم الأخرى فكانت ميزة خاصة وليست حقًّا عامًّا، يحصل عليها القادرون وحدهم.

ومن نفس الزاوية الضيقة كانت نظرة الجماعة للمسألة السياسية، فهي ترى تحقيق الاستقلال التام بالتفاوض، ولا تضع في اعتبارها دورًا يمكن أن تلعبه الجماهير الشعبية في هذا الصدد، بل اقتصر العمل من أجل تحقيق الاستقلال — عند الجماعة — على الساسة (وهم من أبناء الشرائح العليا للبورجوازية)، والاستقلال ليس سوى مقدمة لدور تلعبه مصر في حوض البحر المتوسط لمصلحة «العالم الحر» (الكتلة الغربية)، والعلاقة مع العالم العربي المحيط بمصر علاقة مصلحة باعتبار العالم العربي مجالًا حيويًّا لمصر، دون أن تقحم مصر نفسها في مشاكل بلاد العالم العربي بما فيها مشكلة فلسطين.

وهكذا نستطيع أن نتبين عجز النقد الاجتماعي من داخل إطار النظام الليبرالي عن أن يجد مخرجًا لأزمة ذلك النظام؛ لأن حل تلك الأزمة كان يقتضي تحقيق الديمقراطية الاجتماعية على حساب امتيازات الطبقة البورجوازية القائمة على أسس الاستغلال والظلم الاجتماعي، أو بعبارة أخرى كان يقتضي إعادة توزيع الثروات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو أمر يحتاج إلى ثورة تفرض الديمقراطية الاجتماعية فرضًا طالما أثبت النظام الليبرالي عجزه عن تحقيقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤