المسألة الاجتماعية في مصر بين الحربين العالميتين
كانت المسألة الاجتماعية المحور الذي دارت حوله الأفكار الخاصة بالنقد في مصر بين الحربين العالميتين، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فعبرت الاتجاهات الفكرية المختلفة عن نفسها من خلال تصورها لحل تلك المسألة. وتنوعت الحلول المطروحة في هذا الصدد، من اتجاه نحو إصلاح النظام القائم بشكل يحقق تخفيف حدة المسألة الاجتماعية باعتبارها مشكلة تهدد استقرار النظام الاجتماعي، وتفتح الباب أمام تيارات ثورية قد تعصف ببنية النظام كله، واتجاه إلى البحث عن حل للمسألة من منظور ديني إسلامي دون المساس بجوهر النظام القائم، يدور حول مفهوم العدالة الاجتماعية كما تحدده الأصول الإسلامية، إلى اتجاه يطرح تصورًا لحل المسألة الاجتماعية خارج إطار النظام القائم ومن خلال نظام بديل يحل محله ويقوم على أسس اشتراكية.
وجماعة النهضة القومية التي تتناول هذه الدراسة أفكارها بالعرض والتحليل والنقد؛ تنتمي إلى الاتجاه الأول، وتعبر عن فكر جماعة من الشرائح العليا للبورجوازية المصرية توفر لديها الوعي الطبقي والوعي الاجتماعي معًا، فراحت تضع تصورًا لعلاج المسألة الاجتماعية من منظور ليبرالي يكفل للنظام الاجتماعي الذي يحمي مصالحها البقاء والاستمرار. وقبل أن نتناول ما طرحته الجماعة من آراء وأفكار نحتاج إلى وقفة نحدد فيها أبعاد المسألة الاجتماعية، والظروف التي ساعدت على تفاقمها، والأفكار التي طُرحت لحلها في فترة ما بين الحربين العالميتين.
أبعاد المسألة الاجتماعية
وتحديد أبعاد المسألة الاجتماعية يقتضي — بالضرورة — الوقوف على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت المسألة الاجتماعية، وحددت أبعادها.
على أنَّ فَهْم البِنية الاقتصادية والاجتماعية لمصر في حقبة ما بين الحربين العالميتين يقودنا إلى تتبع جذور التحولات التي طرأت على تلك البنية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعدما ضُرِبَت محاولة بناء اقتصاد مصري مستقل في إطار السوق العالمي يرتكز على قاعدة زراعية صناعية، بما صاحب تلك المحاولة من تغيير في الاقتصاد المصري من اقتصاد معيشي إلى اقتصاد سلعي، وهو ما يسَّر سبيل إدماج الاقتصاد المصري في السوق الرأسمالية العالمية — منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر — كاقتصاد تابع يخضع لسيطرة رأس المال الأوروبي.
وهكذا تم إدماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد الرأسمالي العالمي في إطار نظام تقسيم العمل الرأسمالي الدولي، فأصبحت مصر وحدة إنتاج للقطن، الذي أصبحت أسعاره تتحدد وفق حاجات السوق الرأسمالية العالمية عامة والبريطانية خاصة. وترددت في مصر أصداء الأزمات الاقتصادية التي عانت منها السوق الرأسمالية، كأزمة عام ١٩٠٧م والكساد العالمي الكبير ١٩٢٩–١٩٣٣م، كما عانت مصر من كساد سوق القطن خلال الحربين العالميتين.
وثمة ملاحظة مبدئية يجب الالتفات إليها قبل تحليل هذا الإحصاء، هو أن أرقام تلك الإحصاءات تتخذ من الأوراد التي تُسدد بها ضريبة الأرض أساسًا لإحصاء الملكيات، وبالتالي قد يكون هناك مالك فرد يمتلك أراضي موزعة على أكثر من قرية (وخاصة كبار الملاك) فيرد في الإحصاء على أنه عدد من الملاك موازٍ لعدد مساحات الملكية، كذلك قد تكون هناك مساحة واحدة من الأرض يملكها عدد من الأفراد على المشاع فتبدو في الإحصاء مساحة واحدة يملكها فرد واحد، وهو نموذج شاع بين الملكيات الصغيرة والقزمية على وجه التحديد. ومعنى ذلك أن الأرقام الخاصة بعدد الملاك في شرائح الملكية الكبيرة تعطي أعدادًا أكبر من الحقيقة؛ لأن ملكيات هؤلاء توزعت ليس فقط في عدد من القرى، بل وفي عدد من المحافظات، كما يعني أيضًا أن أعداد صغار الملاك أصغر مما كانت عليه في الحقيقة؛ لأن الملكية على المشاع بين هذه الشريحة كانت شائعة في الريف المصري للتهرب من نفقات التسجيل.
فئات الملكية | ١٨٩٤ | ١٩١٤ | ١٩٣٦ | ||||||||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
المساحة | الملاك | متوسط ملكية الفرد فدان | المساحة | الملاك | متوسط ملكية الفرد فدان | المساحة | الملاك | متوسط ملكية الفرد فدان | |||||||
فدان | النسبة | العدد | النسبة | فدان | النسبة | العدد | النسبة | فدان | النسبة | العدد | النسبة | ||||
أكثر من ٥٠ فدانًا | ١٩٩٧٥٠٠ | ٤٢٫٥ | ١١٢٢٠ | ١٫٧ | ١٧٨ | ٢٣٩٦٩٤٠ | ٤٣٫٩ | ١٢٫٤٨٠ | ٠٫٨ | ١٩٢ | ٢٢٥٣٥٨٣ | ٣٨٫٦٤ | ١٢٤٢٠ | ٠٫٥٩ | ١٨١٫٠٤٥ |
من ٣٠–٥٠ فدانًا | ٣٤٣١٠٠ | ٧٫٣ | ٨٥٨٠ | ٥٫٣ | ١٤٠ | ٣٣٣٠٦٠ | ٦٫١ | ٧٨٠٠ | ٠٫٥ | ٤٢٫٧ | ٣٦٠٣٠٣ | ٦٫١٧ | ٩٣٧٤ | ٠٫٣٥ | ٣٨٫٤٤ |
من ٢٠–٣٠ فدانًا | ٣٢٤٣٠٠ | ٦٫٩ | ٣٢٠٠ | ٢ | ١٢٤ | ٢٦٧٥٤٠ | ٤٫٩ | ١٠٩٢٠ | ٠٫٧ | ٢٤٫٥ | ٢٩٦٦٩٧ | ٥٫٢ | ١٢٤٢٥ | ٠٫٥٩ | ٢٣٫٨٨ |
من ١٠–٢٠ فدانًا | ٥٥٤٦٠٠ | ١١٫٨ | ٣٩٦٠٠ | ٦ | ١٤ | ٥٠٧٧٨٠ | ٩٫٣ | ٣٧٤٤٠ | ٢٫٤ | ١٣٫٥ | ٥٢٨٣٦٢ | ٩ | ٣٩٦٤٣ | ١٫٦ | ١٣٫٣٣ |
من ٥–١٠ أفدنة | ٦٤٩٩٠٠ | ١١٫٧ | ٧٥٢٤٠ | ١١٫٤ | ٧٫٣ | ٥٢٩٦٢٠ | ٩٫٧ | ٧٦٤٤٠ | ٤٫٩ | ٧ | ٥٦١٣٤٨ | ٩٫٦ | ٨٤٦١٧ | ٣٫٥ | ٦٫٦٣ |
أقل من ٥ أفدنة | ٩٣٠٦٠٠ | ١٩٫٨ | ٥١٢١٦٠ | ٧٧٫٦ | ١٫٨ | ١٤٢٥٠٦٠ | ٢٦٫١ | ١٤١٤٩٢٠ | ٩٠٫٧٠ | ١ | ١٨٣٦٦١٩ | ٣١٫٣٩ | ٢٢٤٢٢٣٦ | ٩٣٫٣٧ | ٠٫٨١ |
الجملة | ٤٧٠٠٠٠٠ | ١٠٠ | ٦٦٠٠٠٠ | ١٠٠ | ٧٫١ | ٥٤٦٠٠٠٠ | ١٠٠ | ١٥٦٠٠٠٠ | ١٠٠ | ٣٫٣ | ٥٨٣٦٩١٢ | ١٠٠ | ٢٤٠٠٨٣٥ | ١٠٠ | ٢٫٤٣ |
لذلك رغم أن الإحصاء السابق يصرخ بالتناقض الاجتماعي في الريف المصري، فإن عدد كبار الملاك كان أقل مما تبينه الإحصاءات، وعدد صغار الملاك كان أكثر مما تبينه الإحصاءات، مما يعني أن التناقضات الاجتماعية في الريف المصري كانت أعمق وأخطر. فإذا سلمنا بأن الأرض الزراعية أداة الإنتاج في مجتمع عماد حياته الزراعة، وعلمنا بأن نحو ٨٠٪ من سكان مصر كانوا يشتغلون بالزراعة، وأن تعداد سكان مصر عام ١٩٣٧م بلغ ١٥٩٠٤٥٢٥ نسمة، فإن ذلك يعني أن سكان الريف كانوا يزيدون قليلًا على ١٢٫٥ مليون نسمة، بينما لا يزيد عدد الملاك بينهم عن ٢٤٠٠٨٣٥ نسمة، أي أن نسبة المعدمين من سكان الريف بلغت نحو ٧٦٪ من جملة السكان، مما يعكس بشاعة مشكلة الفقر في الريف المصري عندئذ.
فإذا عدنا إلى الجدول السابق وجدناه ينطق بالتناقض الكبير بين فئات الملاك أنفسهم الذين لا يمثلون (في عام ١٩٣٧م) سوى ٢٤٪ من سكان الريف، فكبار الملاك بينهم يبلغون نحو نصف بالمائة ويملكون نحو ٣٩٪ من أراضي مصر الزراعية، ومتوسط الملكية الفردية في هذه الشريحة ١٨١ فدانًا، بينما الشريحة الأكثر عددًا من الملاك هم صغار الملاك الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة ويمثلون ٩٣٫٣٧٪ من جملة عدد الملاك ولا يملكون سوى ٣١٪ من مساحة الأرض الزراعية، ولا يتجاوز متوسط الملكية الفردية بينهم ٢١ قيراطًا. وبين طبقة النصف بالمائة وهذا القطاع العريض من صغار الملاك تقع غلالة رقيقة من متوسطي الملاك لا تتجاوز نسبتهم ٦٪ من عدد الملاك، يملكون ٣٠٪ من مساحة الأرض الزراعية، بمتوسط لملكية الفرد نحو ١٢ فدانًا، وحتى بين تلك الغلالة الرقيقة من متوسطي الملاك تبرز التناقضات بين شرائحها العليا وشرائحها الدنيا من حيث العدد ونصيب كل شريحة من مساحة الملكيات.
فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما يبينه الجدول من اتجاه الملكيات نحو التركز في مساحات كبيرة وأيدٍ قليلة، مع تلاشي الملكيات الصغيرة أو تآكلها تدريجيًّا، ووضعنا في اعتبارنا نسبة المعدمين التي بلغت ٧٦٪ من سكان الريف، أدركنا مدى تأثير البنية الاقتصادية على الواقع الاجتماعي في الريف المصري عندئذٍ.
ففي إطار التبعية للاقتصاد العالمي الرأسمالي، والتخصص في الإنتاج الزراعي كانت الأرض الزراعية المجال المتاح لاستثمار رءوس الأموال، وخاصة أن الأجانب كانوا يهيمنون على الاقتصاد المصري من خلال البنوك التي كانت أجنبية تمامًا — فيما عدا بنك مصر — وشركات التأمين، والشركات التجارية، والبورصة، وشركات التعدين والصناعة كانت غالبيتها مملوكة للأجانب، فإذا وجد رأس مال مصري كان له مكان الشريك الأصغر لرأس المال الأجنبي.
وتَرتَّب على اعتبار الأرض مجالًا لاستثمار الأموال وليس مجرد أداة للإنتاج، تَجمُّع الأراضي في أيدي شريحة النصف بالمائة من أصحاب رءوس الأموال من المصريين والأجانب على حد سواء، وحرمان المنتِج الحقيقي (الفلاح) من أداة الإنتاج الزراعي (الأرض). فلم يعد هناك مجال أمام السواد الأعظم من سكان الريف المعدمين سوى العمل كأُجراء لدى كبار الملاك، أو النزوح إلى المدن؛ التماسًا للرزق، كما لم يكن أمام صغار الملاك مفر من أن يلجئوا إلى كبار الملاك؛ لتمويل نشاطهم الزراعي، فيقترضوا منهم أو من المرابين الذين انتشروا في ربوع الريف المصري، وكثيرًا ما كانوا يعجزون عن الوفاء بديونهم، فيسلبون أرضهم، وينضمون بذلك إلى جيش المعدمين، أو يستأجرون أرضًا يفلحونها ويعيشون على فتات إنتاجها بعد ما يستولي صاحب الأرض على معظم الريع.
وبذلك يمكن القول: إن السواد الأعظم من سكان الريف كانوا يشكلون «بروليتاريا ريفية» تعيش عند حد الكفاف، أو تحت ذلك الحد أحيانًا، وخاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي وقع عبؤها على تلك الطبقة البائسة.
وبانتهاء الحرب انتهت هذه الحماية الطبيعية، وأخذت المؤسسات الصناعية تعاني من الصعوبات الاقتصادية، نتيجة انكماش حجم السوق المحلية بانتهاء الحرب، ورحيل القوات التي استدعت ظروف الحرب حشدها في مصر، وعودة حركة الواردات إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتدفق المصنوعات الأوروبية من جديد على السوق المصرية بأسعار جعلت الإنتاج المحلي يعجز عن منافستها في غيبة الحماية الجمركية، أضف إلى ذلك ضعف القوة الشرائية في السوق المصرية بسبب تفشي الفقر بين الجماهير المصرية وبقاء الأجور عند الحدود التي كانت عليها قبل الحرب. وذلك في الوقت الذي ازدادت فيه تكاليف المعيشة إلى ما يربو على ١٠٠٪ مما كانت عليه قبل الحرب.
لذلك حفلت الثلاثينيَّات بالإضرابات، والشكاوى الجماعية من قطاعات واسعة، ومتباينة من الطبقة العاملة بصورة تلقائية تفتقر إلى التنظيم، ودارت مطالبها حول إصدار تشريع العمل، ومواجهة آثار الأزمة الاقتصادية على الأسعار والأجور، والاعتراف القانوني بنقابات العمال، وضمان الحرية النقابية.
وهكذا تفاقمت المسألة الاجتماعية تفاقمًا كبيرًا نتيجة سوء توزيع الثروات، وغياب السياسات الاجتماعية، ولا أَدلَّ على ذلك من استمرار الهبوط في متوسط الدخل القومي بالنسبة للفرد من ٩٫٦ جنيهًا في العام خلال الفترة ١٩٣٥–١٩٣٩م إلى ٩٫٤ جنيهًا في العام خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على أساس الأسعار الثابتة؛ أي الأسعار الحقيقية مع استبعاد عامل الارتفاع الملحوظ في الأسعار. فإذا أمعنا النظر في كيفية توزيع الدخل القومي لوجدنا ٦١٪ من هذا الدخل يذهب إلى الرأسمالية وكبار الملاك، فقد قدر الدخل القومي عام ١٩٤٥م بمبلغ ٥٠٢ مليون جنيه، ذهب منه ما يزيد على ٣٠٨ مليون جنيه على شكل إيجارات وأرباح وفوائد، بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعي في العام لا يزيد عن أربعة عشر جنيهًا وفق إحصائيات ١٩٥٠م، فإذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة لكان الأجر الحقيقي للعامل الزراعي لا يتجاوز ثلاثة جنيهات في العام، كما أن متوسط الأجر السنوي للعامل الصناعي لا يزيد عن خمسة وثلاثين جنيهًا، أي ثمانية جنيهات أجر حقيقي في العام الواحد.
غياب السياسات الاجتماعية
وترجع تلك الصورة القاتمة التي كانت عليها المسألة الاجتماعية في مصر عندئذٍ إلى غياب السياسات الاجتماعية، فأداة الحكم في مصر كانت جهاز تسلط، واستبداد، وليست جهاز خدمات وحماية لمصالح المواطنين جميعًا، والحكام على اختلاف مراتبهم كانوا من كبار الملاك الذين استفادوا من ظاهرة تركز ملكية أداة الإنتاج الزراعي (الأرض) في أيدي القلة، وينتمي معظمهم إلى تلك الأسر التي كونت ملكيات نتيجة اكتساب الحظوة لدى الحكام في القرن الماضي، وطورت ملكياتها من خلال الاستفادة من الظروف الاقتصادية المتاحة خلال القرن الحالي. وهم رغم توفر الوعي الطبقي لديهم — بصورة غريزية — إلا أنهم كانوا يفتقرون إلى الوعي الاجتماعي، وهي آفة لازمت البورجوازية المصرية على مَرِّ تاريخها، ووصمتها بالأنانية، وقصر النظر، وعدم القدرة على تبين موطن الخطر على مصالحها، بل وبقائها في حالة ترك الحبل على الغارب للتناقضات الاجتماعية؛ لتعصف بالاستقرار الاجتماعي، وتهدد النظام الذي استفادت منه تلك الطبقة المتسلطة كثيرًا، ولو توفر لديها الوعي الاجتماعي المفقود، لتبنت من السياسات الاجتماعية ما يخفف من وطأة المسألة الاجتماعية، ويضمن لها استمرار مصالحها.
ومن عجب أن سلطات الاحتلال البريطاني — وهي تتحمل جانبًا كبيرًا من مسئولية صياغة النظام الاقتصادي الذي استمر بصورة أو بأخرى حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م — كانت تعي تمامًا خطورة استمرار ظاهرة سوء توزيع الثروات بين المصريين من زاوية سياسية محضة، فقد كانت تنظر دائمًا بعين القلق إلى ما قد يترتب على استمرار تلك الظاهرة من قلاقل اجتماعية قد تتخذ طابع العمل السياسي المعادي للوجود البريطاني في مصر.
وفيما عدا تلك المحاولة التي تَمَّت على يد الاحتلال البريطاني لا نجد اهتمامًا من جانب السلطات الحاكمة برسم سياسة اجتماعية تهدف إلى تخفيف أعباء الحياة عن عاتق الطبقات الفقيرة في المجتمع، وبالتالي التخفيف من حدة التناقضات الاجتماعية، فترك الحبل على الغارب لرأس المال الزراعي والصناعي دون ضابط أو رابط، فإذا تدخلت الحكومة بالتشريع كان ذلك لمصلحة الأغنياء، وحرصًا على مصالحهم كما حدث بالنسبة لتدخل الحكومة لتنظيم تجارة القطن خلال الحربين العالميتين، والتي أنقذت كبار المزارعين من خسائر محققة كانت ستحل بهم لولا تدخل الحكومة لمصلحتهم.
أما بالنسبة للفقراء، فلا تتحرك الحكومة إلا إذا احتدمت الأمور، وهددت بالانفجار أو كادت، عندئذٍ تضع النظم التي تفتقر إلى القوة الرادعة التي تضمن تنفيذها لصالح الفقراء، مثلما حدث بالنسبة للأوامر العسكرية التي صدرت خلال الحرب العالمية الثانية، ووضعت حدودًا لإيجارات الأراضي، ولكنها لم تنص على عقاب الملاك الذين يخالفونها، فلم يلتزم بها أحد، ولعل لجان التوفيق والتحكيم التي شكلت عام ١٩١٩م لفض المنازعات بين العمال وأصحاب الأعمال تقدم نموذجًا آخر لاستهانة الحكومة بمصالح البروليتاريا، واهتمامها بمصالح الرأسمالية، فلم تكن قرارات تلك اللجان ملزمة لأحد.
ولم تصدر التشريعات العمالية التي صيغت على مدى نصف القرن إلا تحت ضغط الحركة العمالية، وبصورة تقل كثيرًا عما كان يطمح إليه العمال، وحتى تلك التشريعات الهزيلة تضمنت النص على عدم سريانها على عمال الزراعة زيادة في الحرص على مصالح كبار الملاك الذين يجلس ممثلوهم في سدة الحكم، ويشغلون مقاعد النيابة عن الشعب دون أن يعوا أن بقاء التناقضات الاجتماعية على ما هي عليه يهدد تلك المصالح بالخطر.
وقد يتبادر إلى الأذهان أن السلطة الوطنية كانت عاجزة عن التدخل بالتشريع لوضع السياسات الاجتماعية الواجبة، بسبب الامتيازات الأجنبية، وضرورة تصديق الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة على التشريعات حتى تسري على المؤسسات الأجنبية، والملاك الأجانب وما أكثرهم، ولكن ذلك لم يكن واردًا عند صناع القرار في مصر، فهناك سياسات كان يمكن رسمها دون المساس بمصالح الأجانب، ودون حاجة إلى المرور عبر المحاذير التي تمثلها الامتيازات لتحسين مياه الشرب في الريف، ونشر التعليم الأساسي، والعناية الصحية بالمواطنين، والعمل على حل مشكلة الإسكان للعمال، وكلها مطالب رفعتها فصائل مختلفة داخل الحركة السياسية، ونادت بها أقلام الكتاب الذين كانوا ينشدون الإصلاح. ورغم ذلك لم تجد صدى عند الحكومة.
ونظرة إلى المناقشات التي دارت بالبرلمان أثناء نظر مشروع قانون التعليم الأولي (مايو ١٩٣٣م) حيث اعتبر بعض النواب أن تعليم أولاد الفقراء «خطر اجتماعي هائل لا يمكن تصور مداه؛ لأن ذلك لن يؤدي إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدي إلى ثورات نفسية» وطالب بأن يقتصر التعليم على أبناء الموسرين من أهل الريف. وعبر نائب آخر عن خشيته من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين ويجعلهم يعتادون حياة المدينة ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطي والأحذية ويركبون الدراجات ويتطلعون إلى ركوب السيارات.
وتكشف تلك المناقشات عن مدى غياب الوعي الاجتماعي عند كبار الملاك المصريين الذي جعلهم يرون في إبقاء الطبقات الفقيرة تعيش في فقر وجهل ومرض أضمن لمصالحها، وبالتالي وقفت ضد كل علاج يطرح لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية من خلال وضع مسكنات لها فضلًا عن التفكير في الحلول الجذرية. وزاد من حدة هذا الاتجاه أن الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم — على اختلاف اتجاهاتها — كانت ترى أن أمامها مسألة تفوق ما عداها أهمية هي المسألة المصرية، ونعني بها تحقيق استقلال مصر التام وإجلاء قوات الاحتلال عن أرض الوطن، أما المسائل الأخرى اجتماعية وغير اجتماعية فعليها أن تنتظر حتى تحين ساعة الاستقلال، عندئذٍ يبحث القوم عن حل لها. وهكذا تقاعست كل تلك الأحزاب عن محاولة إيجاد حلول للمسألة الاجتماعية التي ازدادت تفاقمًا. ولكن ذلك لم يمنع فصائل سياسية أخرى من أن تستجيب للرفض الاجتماعي من جانب الطبقات المسحوقة، وتطرح تصورات لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية قبل الحرب العالمية الثانية.
مظاهر الرفض الاجتماعي
وإذا كان الفلاحون قد جُبِلوا على الصبر وتحمُّل الصِّعاب، فإن ضغوط الحياة كانت تدفعهم إلى التمرُّد على واقعهم الاجتماعي السيِّئ في صورة هَبَّات تلقائية غير منظَّمَة، سرعان ما يتم القضاء عليها، وإنزال العقوبات الشديدة بالمشاركين فيها، دون الاهتمام بحل المشكلات التي قادت إلى تلك الحوادث. ولعل افتقار الفلاحين إلى القيادات السياسية الواعية، وإلى الخبرة بالنضال الجماعي والتنظيم، وغياب الوعي الطبقي بينهم يشكل الأسباب الجوهرية لفشل الفلاحين في القيام بحركة للدفاع عن مصالحهم في مواجهة كبار الملاك، وهي أسباب يرجع إليها أيضًا فشل الهبات التي قام بها الفلاحون في الريف المصري هنا وهناك كلما اشتدت وطأة الظلم الاجتماعي وضاقت سبل الحياة أمامهم.
غير أن الطبقة العاملة (البروليتاريا الصناعية) كانت أكثر قدرة على التنظيم، وأكثر خبرة بأساليب النضال الجماعي من الفلاحين، وإن كانوا يفتقرون إلى التنظيم الجيد، والقيادة القادرة الواعية، والوعي الطبقي قياسًا بأبناء طبقتهم في المجتمعات الرأسمالية الأوروبية، إلا أنهم كانوا أحسن حالًا من الفلاحين، بل كان استمرار تدفق أعداد من الفلاحين المهاجرين إلى المدينة، بين صفوف الطبقة العاملة منذ الثلاثينيَّات يشكل عامل ضعف يحد من فاعلية الحركة العمالية.
وقد اتخذ الرفض الاجتماعي عند العمال مظاهر شتى من بينها: تنظيم الإضرابات وحركات الاحتجاج، واحتلال المصانع، وتحطيم الآلات. وكانت تلك المظاهر تتخذ شكل الظاهرة المستمرة في أوقات الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل مطلع العشرينيَّات عندما سرحت المصانع آلاف العمال بالإسكندرية والقاهرة ومدن قناة السويس، وأنقصت الأجور، فهب العمال بزعامة اتحادهم الذي كانت تقوده كوادر شيوعية، والذي استطاع أن ينظم حركة إضرابات عامة في المراكز الصناعية الهامة، واحتل العمال المصانع حتى تجاب مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية. كذلك نظمت موجة عارمة من الإضرابات في الثلاثينيَّات خلال أزمة الكساد العالمي الكبير شملت المراكز الصناعية الهامة في مصر، واتسمت بطابع العنف من جانب العمال وأصحاب الأعمال، وهي الحركة التي اتصلت خلال الحرب العالمية الثانية، وصدر تحت ضغطها قانون الاعتراف بالنقابات، وقوانين عقد العمل الفردي، والتعويض عن إصابات العمل التي صدرت خلال الحرب.
ولا يعني ذلك أن ظاهرة الرفض الاجتماعي من جانب العمال كانت تقابلها السلطات بالاستجابة التامة لمطالبهم وتقديم التنازلات لهم، فقد كانت الحركة العمالية تُواجَه بمختلف أساليب القمع ابتداء من حظر الاجتماعات، وانتهاء بفض المظاهرات والإضرابات بإطلاق الرصاص على العمال، مرورًا بإلقاء القادة النقابيين في غياهب السجون، وفصلهم من أعمالهم، وتشريدهم، وتطبيق قانون المشبوهين عليهم، ومحاولة استئناس حركتهم بإخضاعها لسيطرة البورجوازية.
وعلى كلٍّ، كان الإحساس بخطورة المسألة الاجتماعية وبضرورة البحث عن حلول لها مثارًا لأفكار طرحتها هيئات سياسية معينة قبيل الحرب العالمية الثانية.
نحو حل للمسألة الاجتماعية
- (١)
توجيه الثروة الطبيعية، ومصادر الإنتاج العامة لمجموع الأمة.
- (٢)
التوزيع العادل للثمرات على العاملين طبقًا لقانون الإنتاج والكفاية الشخصية.
- (٣)
إخماد المزاحمة الرأسمالية.
- (٤)
اعتبار التعليم حقًّا شائعًا لجميع أفراد الأمة نساء ورجالًا بِجعله مجانيًّا ملزمًا.
- (٥)
العمل على تحسين حال العمال بتحسين الأجور، وتقرير المكافآت والمعاشات في حالة العجز عن العمل والبطالة.
- (٦)
العمل على تحرير المرأة الشرقية، وتربيتها تربية سليمة منتجة.
ومن الملاحظ أن حزب العمال نظر إلى المسألة الاجتماعية من زاوية عمال الصناعة والخدمات، وأغفل أمر عمال الزراعة إغفالًا تامًّا، كما أسقط من اعتباره المشكلة الأساسية المتمثلة في سوء توزيع الثروات فلم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهو موقف متكرر عند كل الهيئات السياسية التي أولت المسألة الاجتماعية جانبًا من اهتمامها قبل الحرب العالمية الثانية.
ولم يكن «حزب الفلاح» أبعد نظرًا من «مصر الفتاة» فأغفل بدوره لب المسألة الاجتماعية، وضمن برنامجه — الصادر في ديسمبر ١٩٣٨م — تصورًا لحلول تتعلق ببعض ظواهر تلك المسألة دون بلوغ جوهرها، فينص على محاربة الأمية بين صفوف الفلاحين والنهوض بمستواهم الاجتماعي، وتنظيم مساكن الفلاحين وتوفير مياه الشرب الصحية لهم، والقضاء على الأمراض المنتشرة بينهم بنشر الوعي الصحي، وتعميم المستشفيات القروية، ومحاربة هجر الملاك وصغار الفلاحين للقرى.
وهكذا أغفل «حزب الفلاح» المشكلة الخطيرة التي كانت سببًا في تدهور أحوال الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية، ونعني بها سوء توزيع الملكيات الزراعية، وحرمان الملايين من الفلاحين من الأرض الزراعية كأداة للإنتاج، بل حرص على تأكيد أن تحديد العلاقات الإنتاجية الذي يرمي إليه يجب أن «يتناسب مع مصلحة الفلاح ورفع مستواه، ولا يتعارض مع مصلحة المالك» بمعنى الوصول إلى حل وسط للمشاكل القائمة بين الطرفين دون أن يؤدي ذلك إلى تحميل المالك أعباء ذات بال، وهو أمر يصعب تحقيقه.
لذلك كانت الحاجة ماسَّة إلى طرح أفكار متكاملة لحل المسألة الاجتماعية تتناول جوهرها ولا تكتفي بمظاهرها، وجاءت أفكار «جماعة النهضة القومية» لتقدم حلًّا متصوَّرًا للمسألة الاجتماعية من منظور ليبرالي ومن منطلق الوعي الاجتماعي الذي تَوفَّر لدى نخبة البورجوازية المصرية التي كونت تلك الجماعة قبيل نهاية الحرب، بعد أن اختمرت فكرتها في أذهانهم خلال الحرب بدافع من تفاقم المسألة الاجتماعية نتيجة ظروف الحرب فجاءت أفكار الجماعة نموذجًا للنقد الاجتماعي في إطار بورجوازي ليبرالي جدير بالدراسة.