الفصل الثاني

جماعة النهضة القوميَّة

ظروف تأسيسها

نبتت فكرة تأسيس جماعة سياسية تضع برنامجًا إصلاحيًّا للنهوض بمصر، عشية قيام الحرب العالمية الثانية، من خلال الجدل الذي ثار بين الأحزاب والهيئات السياسية في مصر حول موقف مصر من تلك الحرب، وعلى حين كان الوفد يتبنَّى فكرة الحياد تؤيده الجماهير العريضة التي رأت أن التورط في الحرب قد يُعرِّض مصر لويلاتها، وأيد القصر هذا الاتجاه لأسباب مختلفة تمامًا، كانت هناك مجموعة أخرى من الساسة المصريين على رأسها أحمد ماهر رئيس الهيئة السعدية وتضم عددًا محدودًا من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ترى أن دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا لا يخلو من خير، فعن طريقه تستطيع مصر أن تحقق مكاسب سياسية لا يُستهان بها عندما تلعب دور الشريك للحلفاء في التسويات التي تعقب الحرب.

وإلى جانب رجال الهيئة السعدية، كان من بين أصحاب اتجاه اشتراك مصر في الحرب إلى جانب «الحليفة» بريطانيا بعض الساسة المستقلين، وبعض أعضاء الأحزاب الأخرى الذين اتخذوا لأنفسهم مواقف مستقلة، ومن بين هؤلاء علي الشمسي باشا رجل الأعمال، والمالك الزراعي الكبير، وعضو الوفد الذي انشق على الحزب في وقت مبكر، وأحمد لطفي السيد، وبَهي الدين بركات، والدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ، وأحد كبار الملاك، ومريت غالي عضو مجلس النواب، وأحد رجال الأعمال وكبار الملاك، وعبد الملك حمزة عضو الحزب الوطني السابق، والسفير السابق، ومحمد سلطان رجل الأعمال، وأحد كبار الملاك الزراعيين، والدكتور وديع فرج أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق، ويحيى العلايلي أحد مديري شركة كوم أمبو الزراعية، وأحد كبار الملاك الزراعيين، ومحمد رشدي رجل الأعمال، ومحمد زكي عبد القادر الكاتب المعروف، ومحمد عبد الرحمن نصير النائب والمالك الكبير.

هذه المجموعة الصغيرة من رجال السياسة والاقتصاد كان يربطها ببعضها البعض إيمان راسخ بالليبرالية، ووعي تام بحقيقة الأوضاع التي آلت إليها البلاد في حقبة ما بين الحربين، وجمعها إحساس مشترك بحاجة مصر إلى برنامج إصلاحي شامل يجنب النظام الليبرالي القائم ويلات ما يعانيه من خلل بسبب تفاقم المسألة الاجتماعية، والهيمنة الأجنبية على اقتصاده القومي، وعلى مُقدَّراته السياسية. ورأى هؤلاء أن نقطة الانطلاق لهذا البرنامج تكوين هيئة سياسية تُعِد العدة للحقبة التي تعقب الحرب، فتضع برامج إصلاحية واضحة لا تقوم على شعارات فضفاضة، وإنما تستند إلى دراسات وبحوث متخصصة لمختلف جوانب الحياة في مصر، يقوم بها خبراء متخصصون.١

وهنا فضل علي الشمسي، وأحمد لطفي السيد، وبهي الدين بركات أن يظلوا خارج إطار هذه الجماعة على أن يزودوا أعضاءها بآرائهم، ويمنحوهم تأييدهم، وتصدَّى لمهمة تأسيس الهيئة الجديدة: إبراهيم مدكور، ومريت غالي، ومحمد زكي عبد القادر والآخرون. غير أن تأسيس هيئة سياسية جديدة خلال سنوات الحرب كان أمرًا صعبًا، وخاصة أن هذه المجموعة من الرجال تمثل النخبة المثقفة، كما تمثل أصحاب المصالح المالية والزراعية، وهي بحكم تكوينها وخلفياتها عاجزة عن بناء قواعد جماهيرية تساندها؛ ولذلك فضل أولئك الرجال أن يوجهوا نشاطهم نحو «تنوير الرأي العام» بطرح برنامج متكامل للنهوض بمصر يصاغ من خلال دراسة متأنية للواقع المصري، حتى إذا اطمأنوا إلى وجود رأي عام مؤيد لهم أعلنوا تأسيس الهيئة السياسية الجديدة.

وهكذا تعددت لقاءات هذه المجموعة المحدودة فيما بين ١٩٣٩–١٩٤٤م بصورة غير منتظمة دون أن يتوصلوا إلى إطار تنظيمي محدد، أو حتى يطلقوا اسمًا ما على أنفسهم، وخلال تلك السنوات وضعت الملامح العامة لما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» الذي اتخذ صورته النهائية في ٨ يونيو ١٩٤٤م، والذي أصبح أساسًا لبرنامج «جماعة النهضة القومية» عندما بدأت تعقد اجتماعات منظمة ذات مضابط مسجلة ابتداء من ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م — على نحو ما سنرى — دون أن تختار اسمًا معينًا تعلن به عن نفسها.

ولعب مريت غالي، وإبراهيم مدكور دور المنظِّر لهذه المجموعة، وكان مريت غالي قد ألف كتابًا ١٩٣٨م بعنوان «سياسة الغد برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» كان بمثابة إطار عام للأفكار الإصلاحية التي تبنتها الجماعة فيما بعد، حرص على أن يصدره بإهداء إلى صديقه الدكتور إبراهيم بيومي مدكور «الذي كثيرًا ما تبادلت معه الحديث في هذه الموضوعات وغيرها من شئون الوطن وحقوقه المقدسة.»٢ وسرعان ما توجت هذه الصلة الفكرية الوثيقة بين الرجلين بتأليفهما لكتاب بعنوان «الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة» حالت الرقابة على المطبوعات دون نشره، فطبع مؤلفاه نسخًا محدودة منه على الرونيو (أكتوبر ١٩٤٣م) وُزِّعت على عدد من الساسة، والكتاب، وأعضاء البرلمان. وعندما رُفِعت الرقابة لفترة وجيزة في صيف ١٩٤٥م طبع الكتاب وصدر عن دار الفصول للنشر (سبتمبر ١٩٤٥م).

والكتاب يعكس نظرة الرجلين إلى الإصلاح المنشود، فهو يجب أن يبدأ بإصلاح النظام السياسي من خلال دراسة نقدية عميقة للنظام السياسي القائم، وطرح الأفكار الإصلاحية من منظور ليبرالي يرمي إلى ترميم الصدع الذي أصاب التجربة الدستورية منذ ١٩٢٣م وعلاج الأمراض المستعصية للجهاز الإداري، وتحويل السلطة إلى جهاز خدمات، وتخطيط، ورقابة بدلًا من كونها جهازًا للتسلط والقهر. وقد تبنت «جماعة النهضة القومية» الإطار العام للأفكار التي تضمنها هذا الكتاب أيضًا.

ويذكر إبراهيم مدكور٣ أن أصول الكتاب عرضت على عَلِي الشمسي، وبَهي الدين بركات، وأنهما وافقا على ما جاء بها، وعندما تأسست «جماعة النهضة القومية»، ظل علي الشمسي على صلة بها، وساهم في تدعيمها ماليًّا دون أن ينضم إلى عضويتها علنًا حتى لا يفسر ذلك على أن الجماعة أداته السياسية لمحاربة الوفد، كذلك ظلت الجماعة على صلة وثيقة ببهي الدين بركات، وأحمد لطفي السيد، تستنير بآرائهما كلما دعت الحاجة لذلك.٤
وعندما بدأت الشواهد تشير إلى قرب انتهاء الحرب لصالح الحلفاء في خريف ١٩٤٤م رأت تلك المجموعة الصغيرة من نخبة المثقفين، وأصحاب المصالح الاقتصادية الوطنية أن الفرصة أصبحت مواتية؛ لكي تحول مجموعتهم إلى «جماعة» ذات شكل تنظيمي، فعقدوا لهذا الغرض اجتماعًا تأسيسيًّا في ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م بمكتب محمد سلطان بشارع جامع جركس بالقاهرة، حضره كل من: الدكتور إبراهيم مدكور، وعبد الملك حمزة، ومحمد زكي عبد القادر، ومحمد عبد الرحمن نصير، ومريت غالي، والدكتور وديع فرج، والدكتور يحيى العلايلي، وأثبت المجتمعون في مضبطة الجلسة اعتذار محمد سلطان، ومحمد رشدي عن عدم الحضور.٥
وتكشف هذه الأسماء عن أن تلك المجموعة لم تحرص على توسيع نطاقها خلال سنوات الحرب، كما يلاحظ أنه رغم أن المجتمعين اعتبروا تاريخ الاجتماع تاريخًا لتأسيس جماعتهم، فهم لم يطرحوا مسألة تحديد اسم الجماعة، ولم يهتموا باختيار رئيس لها، وإذا كانت مسألة التسمية قد حلت بعد ستة شهور فاختار أعضاء الجماعة اسم «جماعة النهضة القومية» وأطلقوه على جماعتهم في الجلسة الثانية والعشرين٦ المنعقدة في ١٩ أبريل ١٩٤٥م، بعد أن فرغوا من وضع إطار برنامجهم، ورأوا أن الوقت مناسب للإعلان عن جماعتهم، إلا أن الجماعة لم تهتم باختيار رئيس لها من بداية تأسيسها حتى اختفائها، وإن كان اسم إبراهيم مدكور يتصدر أسماء بقية الأعضاء في محاضر الجلسات دون إشارة إلى وضع خاص له، ولكن قيام مريت غالي بتسجيل مضابط الجلسات وحفظ وثائق الجماعة، وتوقيع المكاتبات الصادرة عنها يوحي أنه كان يحتل مكانة «الأمين العام» للجماعة دون أن يكون هناك قرار صريح بذلك.
وعلى كلٍّ، اقتصر الاجتماع التأسيسي على تحديد أهداف الجماعة على النحو التالي:
  • (١)

    ترْمي الجماعة إلى بَعْث الشعور الوطني الحق، وإدعام النهضة المصرية على الأسس الاجتماعية والاقتصادية السليمة، ووَضْع برنامج قومي تلتقي عنده كلمة المصلِحِين، ويحقِّق رغبات الأُمَّة في النُّهوض والتقدُّم، ويرسم للشباب معالم الغد، ويكفل للأمة رفع مستوى حياتها الروحية والمادية.

  • (٢)

    ترحب الجماعة بكل من تشغلهم الشئون العامة عند مختلف نواحيها، على أنها لا تنتمي إلى حزب، أو هيئة سياسية، ولا يشترك في تنظيم أعمالها عضو في حزب، أو هيئة سياسية.

  • (٣)

    تعوِّل الجماعة في تحقيق أهدافها على الصحافة، والاجتماعات الدورية، والمحاضرات العامة، والأبحاث، ومختلف وسائل التوجيه والنشر.

  • (٤)

    تسعى الجماعة — بوجه خاص — إلى تكوين رأي عام مستنير يتقبل مبادئها عن اقتناع، ويضطلع بنشر رسالتها، وتكون له كلمته في علاج المشاكل القومية وشأنه في تقرير مصير الوطن.

وهكذا أسفرت جهود هذا الفريق من المثقفين عن تأسيس جماعة نخبة تضع برنامجًا شاملًا لمصر ما بعد الحرب، واختفت فكرة إقامة حزب أو هيئة سياسية التي دارت بخلدهم عندما بدءوا نشاطهم عند بداية الحرب، ومن ثم كان الحرص على التأكيد على عدم الانتماء إلى حزب أو هيئة سياسية، وعلى عدم قبول أعضاء الأحزاب السياسية بين صفوفها. كما يشير البند الثالث من أهداف الجماعة إلى أن وسائلها لنشر أفكارها سوف تكون إعلامية محضة، وذات طابع تثقيفي، ومثل هذا الأسلوب لا يجد أذنًا صاغية إلا لدى دائرة ضيقة من الطبقة الوسطى المثقفة، فكأن الجماعة بحكم تكوينها النخبوي آثرت أن تخاطب قطاعًا معينًا من الطبقة الوسطى، ولم تلقِ بالًا إلى الطبقات الاجتماعية الأخرى كالعمال والفلاحين فأسقطتهم من حسابها، ولم تعنها عندما تحدث البند الرابع من أهدافها عن «تكوين رأي عام مستنير» فأدوات عملها لا تحقق هذه الغاية إلا بين قطاع المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى.

ودليلنا على ذلك ما جاء بمحضر الجلسة الثانية (٢٤ أكتوبر ١٩٤٤م)٧ عندما طرحت فكرة ضم أعضاء جدد لعضوية الجماعة على بساط البحث فاستقر الرأي على عدم التوسع في هذا الاتجاه، وأن يكون ضم الأعضاء الجدد «في تؤدة ورويَّة» لضمان سلامة عمل الجماعة في تلك المرحلة.
من ذلك أيضًا التردد الذي اتسم به سلوك الجماعة عندما طُرحت فكرة تحول الجماعة إلى حزب سياسي (فبراير ١٩٤٦م)٨ فبرز اتجاهان أحدهما يرى الاتجاه إلى تكوين هيئة سياسية «صريحة»، والآخر يقتصر على «تنمية نشاط الجماعة وتوسيعها على أن يترك للظروف في المستقبل أمر تحويلها إلى هيئة سياسية» أي الإبقاء على طابعها النخبوي. ورغم اتجاه غالبية آراء الأعضاء إلى ضرورة أن يكون للجماعة «نشاط إيجابي صريح وموقف واضح من المشاكل القومية العاجلة … وأنه يجب السعي على هذا الأساس لتكوين هيئة يُعْتَد بها ويمكنها الظهور في الميدان السياسي»، إلا أن ذلك القرار لم يقدر له أن يرى النور.
ويعلل الدكتور بيومي مدكور٩ ذلك بأن أعضاء الجماعة كانوا يخشون مغبة تكوين هيئة سياسية في ذلك الوقت بالذات حتى لا تستقطب الجماعة نحو تيار حزب سياسي أقوى فتذوب فيه، ويتبدد طابعها المميز، وذهب إلى أن أعضاء الجماعة كانوا يرون أن تأسيس الحزب السياسي لن يتحقق قبل عام ١٩٥٠م أو ١٩٥١م عندما تتاح لأفكار الجماعة ومبادئها فرصة الذيوع والانتشار، وعندما يتكون «الرأي العام المستنير» الذي تسعى الجماعة إلى تشكيله.
ولعل ذلك يفسر حجم العضوية المحدود في الجماعة، فعلى مدى السنوات الخمس التي عاشتها الجماعة منذ تأسيسها في خريف ١٩٤٤م حتى توقف نشاطها في ربيع ١٩٤٩م، لم ينضم إلى عضويتها سوى ١٤ عضوًا،١٠ بالإضافة إلى المؤسِّسِين التسعة ليصبح عدد أعضائها ٢٣ عضوًا، وكان الأعضاء الجدد من المحامين، والنواب، وكبار الموظفين، ورجال الأعمال. وبذلك حافظت الجماعة على تكوينها المميز كجماعة نخبة.

وتجلَّى ذلك بوضوح عندما أعادت الجماعة صياغة أهدافها عند إعداد النظام الأساسي للجماعة (ديسمبر ١٩٤٦م)، فحددتها على النحو التالي:

  • (١)

    العمل على تكوين رأي عام مستنير، وتوجيه الشعور الوطني وجهة الفهم الصحيح لمشاكل البلاد، سياسية كانت، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وإقامة حلولها على الدراسة والبحث والنظر المجرد عن التحزب.

  • (٢)

    وضع المبادرة العامة لبرنامج يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم، ويكفل استكمال استقلالها السياسي، والاقتصادي، ورفع مستوى حياتها المادية، والأدبية.

  • (٣)
    الجماعة مستقلة عن الأحزاب ومحظور فيها الجدل الحزبي.١١

وبذلك وضعت الجماعة قيدًا ثقيلًا على حركتها، فكيف تستطيع تكوين رأي مستنير وهي قابعة في برج عاجي لا صلة لها بالجماهير، وما قيمة البرنامج الذي «يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم» إذا لم يكن هناك حزب سياسي يعمل على تحويل البرنامج إلى سياسات يتبناها من خلال البرلمان أو من خلال السلطة؟ لقد كانت الجماعة تضع بذلك عقبات خطيرة في طريق نموها وتطورها، جعلتها تحتضر وتختفي من الوجود في نهاية الأمر.

والحق أن هذا الإطار الضيق الذي ضربته الجماعة حول نفسها كان موضع نقد من جانب بعض أعضائها، ففي أكتوبر ١٩٤٥م أبدى محمد علي الغتيت المحامي وعضو الجماعة خشيته من «أن الجماعة تسير ببطء لا يتفق والحركة الملحوظة في البلد، وأن رسالة الجماعة لا يمكن أن تُؤدَّى إلا إذا اتصلت بالرأي العام في أوسع صورة؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة في النظام الديمقراطي الذي نؤيده، وهذا معناه النزول إلى الميدان ومخاطبة رجل الشارع. أما إذا تعذر هذا على الجماعة مؤقتًا، فلا أقل من أن تتصل بالأفراد المشتغلين الآن بالشئون العامة، مستقلين كانوا أو حزبيين، وتحاول جذبهم إلى اعتناق أفكارها القومية ودعوتها الوطنية تمهيدًا لنشر الدعوة في صورة أوسع» واقترح أن تنظم حفلة أو اجتماع خاص لتقديم البرنامج إلى من توجه إليهم الدعوة من «أصدقاء الجماعة» ومن ينتظر منهم أن يشتركوا في نشر رسالتها.١٢ فوافق الأعضاء على الفكرة غير أنها لم تُنفَّذ إلا في ٧ فبراير ١٩٤٦م، فوجهت الدعوة إلى نحو ثلاثين من رجال الجامعة، وكبار الموظفين، والنواب، والمحامين، والكتاب لحفل شاي أقامته الجماعة ووُزع عليهم البرنامج، وتقرر بعد ذلك مفاتحتهم في الانضمام إلى الجماعة دون أن تكلل تلك المساعي بالنجاح المرجو.
وفي جلسة أخرى اقترح محمد علي الغتيت أن تعمل الجماعة على تأييد أفكارها بما تستطيع تقديمه إلى البرلمان من مشروعات القوانين، فأقرت الجماعة ذلك ورأت التعجيل به.١٣ وبالفعل تقدم إبراهيم بمشروع قانون الإصلاح الزراعي إلى مجلس الشيوخ، كما تقدم بمشروع قانون بفرض التزامات صحية واجتماعية على الملاك الزراعيين، ومشروع قانون يمنع الأوقاف غير الخيرية وحل القائم منها إلى مجلس الشيوخ، غير أن هذه القوانين لم تلقَ تأييد أعضاء البرلمان لأسباب عديدة من بينها عجز الجماعة عن تعبئة الرأي العام لتأييد أفكارها.
ومرة أخرى حاولت الجماعة أن تجد مخرجًا من الإطار الضيق الذي وضعت نفسها فيه، فاقترح محمد زكي عبد القادر أن تُنظَّم شعب للجماعة تضطلع بنشر رسالتها بين مختلف الطبقات الاجتماعية وفي جميع أنحاء البلاد، فوافقت الجماعة على اقتراحه،١٤ ولكنه — بدوره — لم يرَ النور؛ لأن تأسيس الشعب لا بد أن يسبقه الخروج إلى الجماهير، وتربية الكوادر السياسية التي تعمل على بث أفكار الجماعة بين الجماهير ثم تأتي بعد ذلك خطوة إقامة التنظيم المرتبط بالجماعة، وهو ما كانت تفتقر إليه الجماعة بحكم تكوينها، فأعضاؤها يعيشون في عزلة عن الجماهير بحكم انتمائهم الطبقي، ولا تتوفر لديهم القدرة على الحركة والتنظيم.
وإزاء الجمود الذي خيم على نشاط الجماعة في صيف ١٩٤٦م وهي الفترة التي حفلت بنشاط هيئات سياسية أخرى علنية وسرية ركزت على العمل بين صفوف الجماهير، لم تجد الجماعة مفرًّا من أن تضع لنفسها إطارًا تنظيميًّا في صورة قانون أساسي، وشكلت لجنة من: محمد علي الغتيت، ووديع فرج لوضع مشروع القانون،١٥ وأجازته الجماعة وطُبِع ووُزِّع في يناير ١٩٤٧م دون أن يغير ذلك شيئًا، بل جمدت الجماعة نشاطها تقريبًا في آخر فبراير ١٩٤٧م بعد شهر واحد من إصدار القانون الأساسي الذي وضع إطارها التنظيمي.
وبمناسبة صدور القانون الأساسي للجماعة عُقدت جلسة خاصة لمناقشة «الطرق العملية التي تتفق مع أغراضها وتكفل اطراد نموها» واستقر الرأي على أن يتخذ نشاط الجماعة الشكل التالي:١٦
  • (١)

    إعلان رأي الجماعة في المسائل الحيوية التي تهم مستقبل البلاد وتشغل الرأي العام، كالمعاهدة المصرية الإنجليزية، والسودان، ومختلف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وإصلاح الأداة الحكومية، وذلك بواسطة إصدار البيانات وتنظيم المحاضرات، ونشر مؤلفات موجزة مدعمة بالوقائع والحقائق «دون التعرض للملابسات الحزبية أو المساس بالاعتبارات الشخصية».

  • (٢)

    مساهمة الجماعة مساهمة عملية في نواحي الإصلاح الاجتماعي ومقاومة الفقر، والجهل، والمرض «وذلك بدرس حالات واقعية في مختلف الأوساط والبيئات» مع بيان ما فيها من إهمال أو نقص، مع حث المسئولين على اتخاذ التدابير اللازمة، والسعي لديهم لتنفيذ المشروعات الضرورية، «ويقوم بهذه الرقابة أعضاء الجماعة المركزيون بالتعاون مع لجانٍ محلية في المدن والأقاليم تدرس الأحوال المحيطة بها، وتمد المركز العام بالبيانات، والمقترحات العملية.»

    ولكن تلك الآراء لم تتعد حدود الأماني فيما عدا نشر أفكار الجماعة في مجلة «الفصول» الشهرية التي كان يصدرها محمد زكي عبد القادر، والتي أصبحت تعبر عن الجماعة منذ تأسيسها حتى ديسمبر ١٩٤٨م، وإصدار بعض المطبوعات التي اتخذت شكل بحوث أعدها بعض أعضائها تخاطب المثقفين وحدهم. أما المساهمة في الإصلاح الاجتماعي ومراقبة أعمال السلطة من خلال لجان محلية تمد المركز العام بالمعلومات، فكان أمرًا مستحيل التحقيق؛ لأنه يتطلب وجود تنظيم سياسي دقيق، وهو ما كانت الجماعة تعجز عن تحقيقه.

برنامج الجماعة

ورغم ذلك الإطار التنظيمي الضيق الذي حبست الجماعة نفسها داخله والذي قيد حركتها على المسرح السياسي، ركزت الجماعة جهودها — حتى قبل الإعلان عن نفسها وطرح أفكارها — على وضع برنامج إصلاحي شامل يعالج مختلف الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ويرسم صورة مصر — من وجهة نظر الجماعة — في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ويتضح مدى اهتمام الجماعة بوضع البرنامج من سجل محاضر اجتماعاتها، فمن بين ٦٢ جلسة عقدتها الجماعة فيما بين ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م و٢٧ فبراير ١٩٤٧م — وهي الفترة التي توالت خلالها الاجتماعات بانتظام — حظي البرنامج بثلاث وعشرين جلسة، أما بقية الجلسات فخُصصت لمسائل تنظيمية.

وجدير بالملاحظة أن اجتماعات الجماعة قد توقفت عندما فرغت من وضع برنامجها ونظامها الأساسي وأعلنتها، فانتهاء هذه المرحلة يعني عبور مرحلة التنظير وتحديد الأهداف ورسم الإطار التنظيمي، إلى مرحلة جديدة تتيح لهذا البرنامج فرصة الخروج إلى المسرح السياسي من خلال هيئة سياسية تتبناه، وهو ما لم تكن الجماعة مهيأة له عندئذٍ — رغم أهمية ما طرحته من أفكار — فجمدت نشاطها، وانتقلت إلى ذمة التاريخ.

وإذا كان البرنامج هو أهم ما أخرجته، وأضافته إلى التراث السياسي المصري المعاصر، يجدر بنا أن نلقي الأضواء عليه.

ذكرنا فيما سبق أن الجماعة وضعت برنامجًا يمثل خلاصة ما اهتدت إليه من أفكار خلال سنوات الحرب، وقبل اجتماعها التأسيسي في ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م، وأن ذلك البرنامج أطلق عليه اسم «برنامج الدراسات الاجتماعية» الذي أقره الأعضاء في ٨ يونيو ١٩٤٤م، وتضمن الخطوط العريضة لبرنامج الجماعة التي كانت موضع بحث أعضائها حتى استقر البرنامج في صورته النهائية. والجدير بالذكر أن ما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» يحمل الكثير من ملامح الأفكار التي طرحها مريت غالي في كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» والتي قدم فيها تصوره لبرنامج إصلاحي لمصر، ونشر عام ١٩٣٨م.

ولعل من المفيد أن نلقي نظرة على برنامج مريت غالي، ثم برنامج الدراسات الاجتماعية الذي كان بمثابة ورقة عمل لدراسة برنامج الجماعة، قبل أن نتتبع البرنامج نفسه؛ لأن ذلك يتيح لنا فرصة التعرف على التكوين الفكري والسياسي لأعضاء الجماعة، ويجيب عن العديد من التساؤلات التي تدور في أذهاننا حولها.

ويطرح مريت غالي في بداية كتابه «سياسة الغد» تفسيرًا لظاهرة عدم الاستقرار السياسي والأزمة الاجتماعية التي عانت منها مصر فيما بين الحربين العالميتين، فرأى في «سوء استخدام الحكم النيابي» بيت الداء، ويرجع ذلك — في رأيه — إلى أن مصر لم تشهد التطور التاريخي الذي شهدته بلاد أوروبا التي اقتبسنا منها هذا النظام، حيث ارتبطت الليبرالية بتطورات اجتماعية نشأت من خلالها طبقات اجتماعية جديدة (البورجوازية والطبقة العاملة)، وأدى ذلك إلى إيجاد مناخ ملائم لتكوين الرأي العام، وبرز الاتجاه نحو اتساع دعائم السلطة وتوزيعها على عدد متزايد من الناس، وتبلورت الاتجاهات المتباينة؛ لتعبر عن نفسها في صيغة أحزاب سياسية مختلفة تدافع عن مصالح الطبقات الاجتماعية الممثلة لها.

أما مصر «فظلت قرونًا منقادة للدول التي تسلطت عليها بقوتها وثروتها، وعجز المصريون عن بناء الأسس اللازمة لتكوين الرأي العام، وتربية الأمة تربية سياسية واجتماعية صحيحة»، وبعد أن نالت مصر استقلالًا جزئيًّا (في ظل تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م) اقتبست النظام الديمقراطي الليبرالي فكان هذا النظام غريبًا بيننا، ومنقولًا إلى وسط غير مستعد له لم تتوفر فيه العناصر اللازمة لتغذيته، وبدا ضعيفًا لا يحقق كل ما يُرجَى منه من آمال، فالحكم النيابي لم يلتئم بعد مع الروح القومية، وما أتى به من نظم جديدة لا تتناسب تمامًا وعقلية الشعب.١٧
وعلى ضوء ذلك فُسر ضعف الأحزاب السياسية المصرية — بما فيها الوفد — بالتركيز على قضية الاستقلال وحدها دون أن تكون لديها خطط واضحة في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، كما أنها ترتبط بالشخصيات السياسية وليس المبادئ. مما طبع العمل السياسي — في رأيه — بعدم النزاهة التي تمثلت في «استعمال السلطة الإدارية في الأغراض الحزبية .. والإسراف في الوعود السياسية بغير تدبر ولا تمييز، وبث روح الشقاق في الأمور الاجتماعية، أو الدينية لأغراض شخصية أو حزبية.»١٨ وأرجع ذلك كله إلى غياب «التربية القومية والإدراك السياسي.»
فالأمر يتطلب — إذًا — تكوين الرأي العام، وهي مهمة قومية تقع على عاتق «الموظفين والصحافيين والأساتذة والكتاب، وجميع الذين يربطهم بالجمهور اللسان والقلم، وخصوصًا الذين يتولون تربية الأطفال والشباب.»١٩ أي أنه يرى أن تكوين الرأي العام يصبح من واجبات مثقفي البورجوازية المصرية، ولعل هذا يفسر اقتصار عضوية جماعة النهضة القومية — فيما بعد — على هذه الشريحة الاجتماعية وحدها، ولعله أيضًا يفسر حرص الجماعة على تضييق دائرة العضوية فلا تضم إلا النخبة المثقفة من البورجوازية المصرية.
وبعد دراسة لسلبيات الحكم النيابي في مصر — عندئذٍ — دعا إلى العمل على إنجاحها ببذل الجهود في جميع ميادين الحياة القومية، وهو واجب المصريين جميعًا «.. والموسرين والمثقفين منهم بوجه خاص» ونبَّه الطبقة الاجتماعية التي وضع في عنقها مسئولية حماية الليبرالية (ونعني بذلك البورجوازية المصرية) إلى ضرورة تقديم التضحيات والتسامح، «وإلا تعرضنا جميعًا إلى فقد تلك المزايا الغالية …»٢٠

فمريت غالي يرى أن الليبرالية وإن كانت غريبة على مصر؛ لأنها لم تأتِ نتاجًا للتطور الطبيعي للمجتمع، إلا أنها أنسب النظم السياسية لمصر، ومن ثم وجب إصلاح شأنها برسم برنامج اجتماعي، واقتصادي، وسياسي يضمن استمرارها، ونجده يستحث الوعي الاجتماعي الخامد عند البورجوازية المصرية حين يدعوها إلى التسامح وتقديم التضحيات حتى لا تفقد «تلك المزايا الغالية» إذ ما تقاعست عن مهمتها التاريخية وسقطت الليبرالية.

من هنا كانت «سياسة الغد» التي رسمها مريت غالي ترمي في جانبها السياسي إلى تكوين رأي عام (بورجوازي) يتبنى خطة إصلاح جهاز السلطة على أسس ليبرالية، كما يتبنى خطة إصلاح اقتصادية واجتماعية تضع حلولًا لمشكلات تزايُد السكان، وضَعْف الإنتاج الزراعي، وتدهْوُر مستوى المعيشة. ورأى أن حلول تلك المشكلات تكمن في ضرورة العمل على زيادة الرقعة الزراعية، وتنمية الزراعة بهدف زيادة جملة المحصول الزراعي، وتنمية الإنتاج الغذائي، وتنشيط الاستهلاك برفع مستوى المعيشة لإيجاد سوق وطنية تتيح الفرصة لقيام صناعة وطنية تضيف عنصرًا جديدًا إلى عناصر التقدم الاقتصادي والاجتماعي. أما تحقيق التقدم الاجتماعي فيرتكز — في رأيه — على توفير الخدمات الصحية للجماهير الفقيرة وخاصة الفلاحين وتبني سياسة إسكان توفر السكن الصحي الملائم للمواطنين في الريف والحضر، وإتاحة فرصة التعليم الأساسي (الابتدائي) لجميع طبقات الشعب بقدر الإمكان، وإيجاد توازن بين عدد الشبان الذين يلتحقون بالمعاهد العليا وفرص العمل المتاحة، واهتم بالجيش كدرع للوطن وأداة للتربية والقومية فرأى ضرورة إلغاء البدل العسكري وجعل التجنيد عامًا وإجباريًا بهدف «إقامة المساواة التامة بين أفراد الأمة في تأدية الواجب الوطني»، وتخفيض مدة الخدمة العسكرية، وزيادة عدد الجيش. وختم مريت غالي رؤيته لسياسة الغد، بالحديث عن وسائل تريبة الشعور القومي، فرأى ضرورة الاهتمام بتاريخ مصر القومي وتقديمه في ثوب جديد يبين معالم البناء القومي لمصر، مع التمسك بما أثبت صلاحيته من التراث التاريخي المصري وعدم الاقتباس من الغرب إلا في حدود «الأمور العلمية والاجتماعية التي برهنت على نبوغها فيها»، وأن تكون لمصر شخصيتها المستقلة كجسر للتبادل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب، ورأى أن تربية الشعور القومي من خلال التعليم تقع على عاتق المثقفين وحدهم الذين عليهم أن يلعبوا دورهم في هذا السبيل وخاصة بين جماهير الفلاحين.

وقد تضمن «برنامج الدراسات الاجتماعية»٢١ — الذي كان يمثل إطارًا لورقة العمل التي أُعد على أساسها برنامج «جماعة النهضة القومية» — الخطوط العريضة للأفكار التي أوردها مريت غالي في كتابه «سياسة الغد» فيما عدا البند الخاص بالمسائل الخارجية والذي نص على:
  • (١)

    تحديد مركز مصر من الناحية الدولية إزاء بريطانيا وما عداها من الدول.

  • (٢)

    موقف مصر من الشرق العربي.

  • (٣)

    مصر والسودان.

  • (٤)

    الجنسية المصرية، الهجرة، تحديد مركز الأجانب.

  • (٥)

    الدفاع الوطني (الجيش).

ففيما عدا قضية الدفاع الوطني خلا كتاب «سياسة الغد» من الإشارة إلى المسائل السياسية، أما بقية البرنامج فتدور حول القضايا التي طرحها مريت غالي في الكتاب سالف الذكر.٢٢
وفيما يتعلق بالمسائل الداخلية ونظم الدولة نص البرنامج على:
  • (١)

    السلطة التشريعية: مراجعة الدستور، وقانون الانتخاب في ضوء التجارب الماضية، وعلاقات السلطات.

  • (٢)

    السلطة التنفيذية: تكوين الحكومة، ومدى تدخلها في المرافق العامة، وتحديد اختصاص الحكام (المركزية والإقليمية)، ووضع النظم التي تكفل إنتاجًا إداريًّا، ونظم الموظفين ورقابة الأداة الحكومية.

  • (٣)

    السلطة القضائية: توحيد القضاء، وتوحيد التشريع ومراجعته، ووضع النظم التي تكفل للقضاء اختيارًا سليمًا ولرجاله استقلالًا تامًّا، ولعمله إنتاجًا سريعًا وافيًا.

  • (٤)

    ميزانية الدولة: تنمية الإيرادات وتنظيم المصروفات.

وفي الناحية الاقتصادية نص البرنامج على:
  • (١)

    الثروة الزراعية، الملكية الريفية (توزيعها، ملكية الأشخاص المعنوية، تجميع الملكيات الصغيرة وبسطها وحمايتها، علاقة المالك بالمستأجر والمزارع، العامل الزراعي) وكذلك تنمية الإنتاج الزراعي.

  • (٢)

    الصناعة: إنهاضها، وحمايتها، وتنمية الثروة المعدنية، واستخدام مساقط المياه وغيرها من مصادر الطاقة، وتكوين المصانع، ومشكلة عمال المصانع الحربية، الصناعات الزراعية، والأحياء المائية.

  • (٣)

    التجارة: تنمية الروح التجارية عن طريق توجيه التعليم التجاري؛ لتحقيق هذه الغاية، وتنظيم الغرف التجارية بما يساعد على تنمية التجارة، ودخول المصريين مجالات الوساطة، والسمسرة، والبورصة، والملاحة، والسياحة، وبحث ظاهرة الاحتكار في السوق المصرية، وفتح أسواق للتجارة المصرية في البلاد المجاورة.

  • (٤)

    المسائل المالية: التعاريف الجمركية وأثرها في التجارة والزراعية والصناعية، ودراسة موضوعات التأمين، والنقد، ونظام البنوك، والبنك المركزي، ورءوس الأموال الأجنبية، والبحث في كيفية استغلال الأموال المكدسة في الإصلاح العام.

وفيما يتعلق بالناحية الاجتماعية نص البرنامج على:
  • (١)

    دراسة خير السبل لرفع مستوى المعيشة عن طريق تحديد الأجور، وتخفيض أسعار الحاجيات الضرورية، وفرض الضرائب التصاعدية على الملكيات، والثروات الكبيرة، وقوانين العمل (نقابات العمال – العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال – التأمين الاجتماعي – محاربة البطالة)، وتوزيع السكان.

  • (٢)

    العناية بالصحة العامة وقاية وعلاجًا.

  • (٣)

    التريبة والتعليم بمختلف درجاته، وأنواعه، ومعاهده.

  • (٤)

    تهذيب العادات، والتقاليد الاجتماعية.

  • (٥)

    الشعور القومي، ووسائل تنميته.

  • (٦)

    اتجاه الحضارة المصرية.

ويبدو من استعراض هذا البرنامج أن مريت غالي هو الذي تولى صياغته، وأن أعضاء الجماعة تبنوه كورقة عمل لدراسة شاملة لبرنامج إصلاحي يعملون على إعداده عندما تضع الحرب أوزارها، وقد اقتضت الضرورة أن يضيف مريت غالي الجانب الخاص بالسياسة الخارجية؛ لتكتمل ملامح البرنامج.

على كلٍّ، عكفت الجماعة منذ تأسيسها على دراسة البرنامج في جلسات متعاقبة، بدءًا بالجانب المتعلق بالسياسة الخارجية — والذي سنعالجه في الفصل الرابع من هذه الدراسة بشيء من التفصيل — وبعد مداولات مستفيضة استقر رأي الجماعة على أن يكون البرنامج على النحو التالي:

(أ) السياسة الخارجية

  • (١)

    تأييد قضية السلام، والأمن الدولي، والمساهمة في التعاون العالمي على أساس العدل، والمساواة وحرية الشعوب.

  • (٢)

    استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي، وعدم الاعتراف بأي مركز ممتاز لدولة أجنبية، وتعديل معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا على هذا الأساس.

  • (٣)

    حل مشكلة السودان على أساس وحدة شطري وادي النيل، واحترام المصالح الحيوية للمصريين والسودانيين على السواء.

  • (٤)

    إدعام الجامعة العربية بما يعود على أعضائها جميعًا من مزايا سياسية واقتصادية وثقافية.

  • (٥)

    إحلال مصر محلها اللائق في مجموعة أمم البحر الأبيض، وتوفيق العلاقات بين الوادي جميعه والبلاد المجاورة له.

(ب) نظم الدولة

  • (١)

    إدعام النظام النيابي، وضمان نزاهة الانتخاب، والفصل في الطعون.

  • (٢)

    توسيع اختصاص المجالس الإقليمية، والمحلية وتعميمها.

  • (٣)

    إنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات.

  • (٤)

    تقوية النظام الإداري بقصر سلطة الوزير على السياسة العامة، وتحديد مسئولية الموظفين على أساس اختصاص واضح.

  • (٥)

    إقامة التوظيف على دعامة المسابقة العامة، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الأداة الحكومية.

  • (٦)

    توحيد جهات القضاء توحيدًا يظهر العدالة على وجهها، ويسوي بين أبناء الوطن.

(ﺟ) النهضة الاقتصادية

  • (١)

    إنماء الثروة العامة الزراعية، والصناعية، والتجارية، والإشراف عليها بدرجة تكفل استغلال مرافق البلاد على اختلافها، وتضمن سلامة توجيهها، وحسن تنسيقها، وتدعمها على أساس المصلحة القومية دون سواها.

  • (٢)

    توطيد الاستقلال المالي على دعائم بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة، وتشجيع رءوس الأموال المصرية على المساهمة بنصيبها الكامل في النهضة الاقتصادية.

  • (٣)

    زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث الوسائل العلمية في بسط المساحة المزروعة، وتحسين غلة الأرض، وتنويع محاصيلها.

  • (٤)

    إنهاض الصناعة بتدبير القوة المحركة الرخيصة، وتيسير طرق المواصلات والنقل، وتوفير سبل الائتمان الزراعي.

  • (٥)

    إنعاش التجارة المصرية في الداخل والخارج بمحاربة الاحتكار، وتنظيم السوق الداخلية، وفتح أسواق جديدة في البلاد الأخرى.

(د) الإصلاح الاجتماعي

  • (١)

    بث روح العدالة الاجتماعية في الحياة المصرية، وتأييد حق كل فرد في أن يعيش عيشة تتفق مع كرامة الإنسان، وأن يُحمَى ضد البطالة والعجز عن العمل.

  • (٢)

    رفع مستوى الفلاح بنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها، وتقييد الملكية الكبيرة، وتنظيم الإيجارات الزراعية، وإدعام الحركة التعاونية في الإنتاج والاستهلاك.

  • (٣)

    حماية العمل الزراعي والصناعي، بالتوسع في تشريعات التأمين الاجتماعي، وتحديد أجور تكفل للعمال حياة مقبولة.

  • (٤)

    تحقيق مرحلة من التعليم العام، موحدة في ثقافتها القومية وتوجيهها الوطني، تتحمل الدولة أعباءها، ويشترك فيها أبناء مصر جميعًا دون استثناء، والتوسع في التعليم الفني والعالي بما يتناسب وظروفنا العامة.

وقد طُبِع البرنامج في كتيب صغير يقع في أربع عشرة صفحة من القطع الصغير، وذلك في أكتوبر ١٩٤٥م — أي بعد عام كامل من تأسيس الجماعة — ووُزِّع على نطاق محدود عن طريق البريد، وعن طريق أعضاء الجماعة، وقد صُدِّر البرنامج بكلمة عنوانها «صوت مصر» ركزت على ما شاب الحياة السياسية في مصر من سلبيات نتيجة الصراعات الشخصية والحزبية، فترتب على ذلك «أن تقضي الأمة ربع قرن أو يزيد دون أن تحقق من الإصلاح ما تنشده، وتقيم من دعائم النهوض ما تطمع إليه.» .. فتبددت الآمال المتعلقة بالنهوض الاقتصادي والاجتماعي وسط جو الخلافات الحزبية والشخصية «فليس كل من تغنوا بالعدالة الاجتماعية يؤمنون بها، ولا كل من نادوا برفع مستوى المعيشة يدركون تمامًا ما نادوا به، أو يرسمون الوسيلة الناجحة لتحقيقه.» وقضى المصريون حقبة ما بين الحربين «بين رجعية قاتلة أو تظاهر بالتجديد دون ثمرة واضحة.»

وهكذا كانت الحاجة ماسَّة إلى قيام «جماعة النهضة القومية»، وحددت مقدمة البرنامج أهداف الجماعة على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، أكدت «أنها لا ترمي إلى مناهضة هيئات قائمة بل تأمل على العكس أن يكون في منهجها ما يصور الأخطار التي تتهددنا على حقيقتها …» وهو توكيد يتضمن الإشارة إلى بُعدِ الجماعة عن ميدان التنافس الحزبي وحرصها على أن تبدو في صورة من يتوجه إلى الرأي العام وحده بخطة للإصلاح على أساس قومي لا حزبي؛ فأبدت استعدادها على أن تنسق نشاطها مع الجماعات الجديدة التي تكونت في أعقاب الحرب، وخاصة جماعات الشباب للعمل من أجل مستقبل أفضل لمصر يقوم على «التجديد والبناء».

وبعد عرض البرنامج اختتم بكلمة أكدت فيها الجماعة أن نصوص البرنامج تتسم بالعموم والشمول، وأن «وراء كل نقطة من نقط البرنامج مشروعات يجب أن توضع وتفصل، وأن يتضافر على إعدادها الفنِّيون والسياسيُّون.» ووعدت الجماعة بأن تساهم في هذا المجال بتقديم الدراسات والبحوث بما يتلاءم مع ظروف مصر، تتخذ صورة خطة شاملة للإصلاح يعمل المصريون على «تنفيذها مهما تباينت الميول السياسية، والاتجاهات الحزبية، ومحدودة الأجل كي يُحاسَب منفذوها على خطواتهم.»٢٣

وبالفعل أصدرت الجماعة عددًا من الدراسات التي كُتبت بأقلام كبار المتخصصين، وضعت تصورًا لبعض جوانب البرنامج، ونُشرت في كُتيِّبات صدرت عن «دار الفصول» التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر عضو الجماعة، كما خصصت مجلة «الفصول» الشهرية أعدادها لشرح وجهات نظر الجماعة في الإصلاح بأقلام أعضائها تارة، وأقلام أصدقائها تارة أخرى.

ويقودنا ذلك إلى الحديث عن الإطار التنظيمي للجماعة والأسلوب الذي مارست به نشاطها.

الإطار التنظيمي وأسلوب العمل:

رأينا كيف تكونت الجماعة من مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يمثلون نخبة البورجوازية المصرية، لم يتجاوز عددها التسعة، وأن دائرتها لم تتسع إلا بقدر محدود لتضم أربعة عشر عضوًا جديدًا ممن ينتمون إلى المثقفين، وملاك الأراضي الزراعية، كان اختيارهم يتم بدقة متناهية بناءً على ترشيح من أحد الأعضاء يتم أولًا ويطرح على الجماعة في أحد اجتماعاتها، فإذا حاز القبول تم الاتصال بالمرشح ومفاتحته في الانضمام للجماعة. ويبدو أن المرشحين لم يقبلوا في كل الحالات الانضمام إلى الجماعة، فهناك أسماء بالجلسات للترشيح للعضوية دون أن نجد إشارة إلى أنهم قد قبلوا الانضمام بالفعل، بينما نجد أسماء أخرى لمرشحين انضموا إلى الجماعة. وكان الترشيح يتم في حدود دائرة معارف العضو الذي يقترح أسماء المرشحين.

ويتضح لنا من استقراء مضابط جلسات الجماعة أن الأعضاء الجدد كان لهم حق حضور اجتماعاتها بصفة ودية، ولا تدرج أسماؤهم بين الحضور، ولكننا نجدهم يطرحون آراء على الجماعة تكون موضع نقاش في جلساتها، مما يوحي بأن حق الحضور كان متاحًا لهم.

ومنذ تأسيس الجماعة حتى اختفائها، وتوقف نشاطها كان يتولى إدارتها «مجلس مؤقت» يضم الأعضاء المؤسسين التسعة وهم: إبراهيم بيومي مدكور، مريت غالي، محمد زكي عبد القادر، محمد سلطان، محمد رشدي، محمد علي الغتيت، عبد الملك حمزة، وديع فرج، يحيى العلايلي. اتفق الأعضاء على أن يتولى هذا المجلس إدارة الجماعة لمدة سنة إلى أن يوضع قانون الجماعة وتقره الجمعية العمومية المكونة من جميع الأعضاء،٢٤ وأن يمارس المجلس المؤقت سلطاته اعتبارًا من ٣ مايو ١٩٤٥م.
ولكن صياغة النظام الأساسي للجماعة تمت بعد عشرين شهرًا من هذا التاريخ؛ إذ كلَّف المجلس المؤقت وديع فرج، ومحمد علي الغتيت لوضع مشروع القانون الأساسي للجماعة الذي تم إقراره وطُبِع في ٩ يناير ١٩٤٧م. وقد تضمن القانون الأساسي٢٥ أهداف الجماعة، والعضوية، ومالية الجماعة، ثم نص على أن يتولى إدارة الجماعة مجلس مكون من اثني عشر عضوًا تنتخبهم الجمعية العمومية بالاقتراع السري لمدة ثلاث سنوات يجدد ثلثهم كل سنة. وأن يجتمع مجلس الإدارة مرة على الأقل في كل شهر بدعوة من الرئيس، وأن يختار المجلس من بين أعضائه هيئة مكتب مكونة من الرئيس، وأمين الصندوق، والسكرتير. وتجتمع الجمعية العمومية التي تضم جميع أعضاء الجماعة مرة كل عام في ميعاد يحدده مجلس الإدارة لا يتجاوز شهر فبراير من كل عام، وتعقد الجمعية العمومية اجتماعًا غير عادي كلما دعت الظروف إلى ذلك. ونص القانون الأساسي على أنه لا يجوز النظر في حل الجماعة إلا بناء على اقتراح جماعي من مجلس الإدارة يوافق عليه اجتماع للجمعية العمومية يُدعى لهذا الغرض، ولا يكون صحيحًا إلا إذا حضره ٧٥٪ من الأعضاء، ولا ينفذ قرار الحل إلا إذا حاز موافقة ثلثي الحاضرين، وتضمن القانون الأساسي حكمًا مؤقتًا اعتبر الأعضاء الموقِّعين على القانون يكوِّنون مجلس إدارة تنتهي مدته في نهاية ١٩٤٧م.

وبعد طبع القانون وتوزيعه نشط مجلس الجماعة لضم أعضاء جدد حتى يتيسر دعوة الجمعية العمومية في نهاية ١٩٤٧م، فرشح أعضاء مجلس الإدارة ٢٣ عضوًا من أساتذة الجامعات، ورجال التربية والتعليم، والمحامين، وأحد القضاة دون أن يبتَّ في أمر ترشيحهم؛ فقد كان أعضاء مجلس الجماعة يتهيَّبون الإقدام على توسيع دائرة عضويتها، بل قرروا عدم ضم بعض الشخصيات السياسية؛ اكتفاء بالحصول على تأييدها للجماعة. فما الذي دعا الجماعة إلى سلوك هذا السبيل؟!

طرحنا هذا السؤال على الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، فأشار إلى أن عام ١٩٤٧م شهد محاولات مستميتة من جانب علي ماهر باشا لاستقطاب الجماعة إلى «جبهة مصر» التي كونها في نوفمبر ١٩٤٦م وراح يستقطب الأحزاب الصغيرة إليها في محاولة لإيجاد بديل للوفد، وطرح برنامجًا للجبهة ضمنه المبادئ العامة لبرنامج جماعة النهضة القومية، وكان عبد الملك حمزة — عضو الجماعة — صديقًا حميمًا لعلي ماهر، وحاول التأثير على أعضاء الجماعة للانضمام إلى جبهة مصر، وهي تتأهب للدخول في مرحلة بناء التنظيم، مما دعا أعضاء الجماعة إلى تجميد نشاطها؛ حرصًا على استقلاليتها، وحتى لا تربط نفسها بعلي ماهر المعروف بصلاته الوثيقة بالقصر، وعدائه الشديد للوفد.٢٦

ولعل ذلك يفسر التوقف المفاجئ لاجتماعات الجماعة بعد شهر واحد من صدور القانون الأساسي، فعقدت آخر اجتماع لها في ٢٧ فبراير ١٩٤٧م، وهو اجتماع بحثت فيه الجماعة مسألة إعداد مقر دائم للجماعة بشارع شريف، وإقامة نادٍ ثقافي تُلقى فيه المحاضرات للترويج لآراء الجماعة، كما تقرر فيه إقامة حفل شاي بمنزل محمد سلطان للمرشحين الجدد لعضوية الجماعة يُلقي فيه إبراهيم مدكور كلمة يبيِّن فيها أغراض الجماعة وأهدافها، ويتم فيه انتخاب مجلس الإدارة، وحُدِّد مساء ١٢ مارس ١٩٤٧م موعدًا للحفل، كما اتُّفِق على دعوة الجمعية العمومية للانعقاد في اليوم التالي.

ولكن يبدو أن الخلاف احتدم بين من شايعوا عبد الملك حمزة في فكرة الانضمام إلى «جبهة مصر» بزعامة علي ماهر، ومن رأوا الإبقاء على استقلال الجماعة، فآثر الفريق الثاني السلامة وجمد نشاط الجماعة، بما في ذلك اتخاذ مجلة «الفصول» كنافذة للتعبير عن آراء الجماعة، وكان مظهر النشاط الوحيد نشْر سلسلة محاضرات أُلقيت فيما بين مارس – مايو ١٩٤٩م بقسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية وفق ترتيب خاص مع الجماعة، تناولت بعض القضايا التي اهتمت بها الجماعة، وهي:
  • (١)

    مصر المستقلة، ألقاها إبراهيم مدكور.

  • (٢)

    الملكية الريفية والتأجير، ألقاها مريت غالي.

  • (٣)

    توحيد القضاء، ألقاها وديع فرج.

  • (٤)

    أهدافنا الاجتماعية، ألقاها محمد زكي عبد القادر.

  • (٥)

    مشاكل النقد المصري، ألقاها محمد علي الغتيت.

  • (٦)

    مصر الصناعية، ألقاها محمد رشدي.

  • (٧)

    أهدافنا الزراعية، ألقاها يحيى العلايلي.

  • (٨)

    السياسة الخارجية لمصر، ألقاها وديع فرج.

  • (٩)

    الأرصدة الإسترلينية، ألقاها سُنِّي اللقاني.

  • (١٠)

    الوضع القانوني للمسألة السودانية المصرية، ألقاها زهير جرانة.

  • (١١)

    مصر والاتفاقات الإقليمية، ألقاها وديع فرج.

  • (١٢)

    مصر والنظام الدولي، ألقاها وحيد رأفت.

  • (١٣)

    البنك المركزي، ألقاها أحمد إبراهيم.

وبعد عام ١٩٤٩م لا نكاد نسمع عن «جماعة النهضة القومية» التي عجزت عن أن تبني تنظيمًا سياسيًّا يحمل أفكارها ومبادئها إلى الساحة السياسية، فيما عدا بيان أصدرته الجماعة نشره الأهرام في ١١ مارس ١٩٤٩م، بمناسبة توقيع اتفاق رودس، اعتبرت فيه الجماعة أن مسألة فلسطين قد دخلت «في دور من الهدوء النسبي» مما يتيح للحكومة فرصة التفرغ «لما يشغل بال الناس من شئون، وأهمها إقرار الأمن، وكفالة عناصر الحياة العادية لشعب يعيش في نظام ديمقراطي»، وذكَّر البيان بما قامت به جماعة النهضة القومية من جهد «اتسم دائمًا بالإخلاص والاعتدال» لدراسة ما تحتاج إليه البلاد من إصلاح، ونبهت إلى ضرورة بحث مطالب الإصلاح والإسراع فيها؛ لتفادي «ذيوع النظريات والمذاهب الخطرة والنزعات المتطرفة.»٢٧

ويبدو أن قادة جماعة النهضة القومية قد عوَّلوا على الصداقة القديمة التي كانت تربطهم بالهيئة السعدية، وخاصة أحمد ماهر، والنقراشي؛ فعللوا النفس بآمال تبنِّي حكومة النقراشي لخطتهم الإصلاحية، وهو يعني ضمنًا أنهم قد سلموا بالفشل في تحقيق هدفهم الأساسي «تكوين رأي عام مستنير» يؤمن بمبادئهم الإصلاحية، فراحوا يلتمسون من الحكومة عضدًا لتنفيذ تلك الإصلاحات.

وبالطبع لم تكن حكومة النقراشي مهيأة لمثل هذه المهمة؛ لأن فشل حرب فلسطين ١٩٤٨م كان قد هيأ الفرصة للوفد لتولي الحكم، وبالتالي ذهبت صرخة جماعة النهضة القومية في وادٍ، وانتهى منذئذٍ نشاطها كجماعة دون أن تعلن حل نفسها بنفسها.

ومرة أخرى حاول إبراهيم مدكور، ومريت غالي وبعض أعضاء الجماعة السابقين أن ينبِّهوا إلى خطورة ترك تلك المسألة الاجتماعية تتفاقم، فقدَّموا مذكرة إلى الملك في أوائل عام ١٩٥٠م لفتوا فيها النظر إلى خطورة المسألة الاجتماعية، وبينوا أن البلاد على حافة ثورة اجتماعية لا تُبقي ولا تذر ما لم تشرع الدولة فورًا في الإصلاح الذي رسمت المذكرة ملامحه بما لا يخرج عن الإطار العام لجماعة النهضة القومية، وبالطبع لم يستجب الملك للنصح، وصدق حدس قادة الجماعة عندما قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م.٢٨

ومهما كان الأمر، فقد لعبت «جماعة النهضة القومية» دورًا تاريخيًّا كمنبر للنقد الاجتماعي، وكأداة للتعبير عن التيار الإصلاحي داخل البورجوازية المصرية الذي تبنَّته النخبة ذات الوعي الاجتماعي؛ ولذلك تكمن الأهمية التاريخية لهذه الجماعة في رؤيتها للمسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، وهما ما سنتعرض له بالتحليل في الفصلين التاليين.

١  المعلومات الخاصة بنشوء فكرة الجماعة استقيناها من الدكتور إبراهيم مدكور في لقاء شخصي في مكتبه بمجمع اللغة العربية صباح الثلاثاء ٢٤ / ٥ / ٨٣.
٢  مريت غالي: سياسة الغد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ١٩٣٨م.
٣  مقابلة شخصية في ٢٤ / ٥ / ١٩٨٣م.
٤  نفس المصدر.
٥  سجل محاضر جلسات جماعة النهضة القومية، الجلسة الأولى، ص١.
٦  نفس المصدر، الجلسة ٢٢، ص٣٥.
٧  نفس المصدر، ص٣.
٨  نفس المصدر، الجلسة ٤٦، ٧ / ٢ / ١٩٤٦م، ص٦٨–٦٩.
٩  مقابلة شخصية في ٢٤ / ٥ / ١٩٨٣م.
١٠  هؤلاء الأعضاء هم: أحمد إبراهيم، أحمد عناني، جفري غالي، زهير جرانة، حامد طه العبد، سني اللقاني، عبد الحكيم فراج، فاضل الخشن، مصطفى البرادعي، مصطفى مرعي، محمد خطاب، محمد مظهر سعيد، وحيد رأفت، محمد علي الغتيت.
١١  سجل المحاضر، جلسة ٥٧، ٢٦ / ١٢ / ١٩٤٦م، ص٨٠.
١٢  نفس المصدر، جلسة ٣٣، ١١ / ١٠ / ١٩٤٥م، ص٥٥.
١٣  نفس المصدر، الجلسة ٣٨، ٢٩ / ١١ / ١٩٤٥م، ص٦٠.
١٤  نفس المصدر، الجلسة ٤٥، ٣١ / ١ / ١٩٤٦م، ص٦٧.
١٥  المصدر السابق، الجلسة ٥٢، ٢٤ / ٥ / ١٩٤٦م.
١٦  نفس المصدر، الجلسة ٥٨، ٩ / ١ / ١٩٤٧م.
١٧  مريت غالي: سياسة الغد، ص١٦.
١٨  نفس المرجع، ص٢٠–٢٢.
١٩  نفس المرجع، ص٢٨.
٢٠  نفس المرجع، ص٣٧.
٢١  سجل المضابط: ملحق الجلسة الثانية، ٢٤ / ١٠ / ١٩٤٤م، ص٤–٥.
٢٢  انظر الملاحق.
٢٣  انظر نص البرنامج بالملاحق.
٢٤  انظر: مضابط الجلسات، عهد، ٣ / ٥ / ١٩٤٥م، ص٤٠.
٢٥  انظر: نص القانون بالملحق.
٢٦  نفس المقابلة السابقة.
٢٧  الأهرام، ١١ / ٣ / ١٩٤٩م، بيان بعنوان «سياسة الاستقرار والوسيلة إليها».
٢٨  مقابلة إبراهيم مدكور، وقد بذلتُ مَساعي لدى مريت غالي للحصول على صورة المذكرة المقدمة للملك، فلم يتمكن من العثور عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤