جماعة النهضة القوميَّة
ظروف تأسيسها
نبتت فكرة تأسيس جماعة سياسية تضع برنامجًا إصلاحيًّا للنهوض بمصر، عشية قيام الحرب العالمية الثانية، من خلال الجدل الذي ثار بين الأحزاب والهيئات السياسية في مصر حول موقف مصر من تلك الحرب، وعلى حين كان الوفد يتبنَّى فكرة الحياد تؤيده الجماهير العريضة التي رأت أن التورط في الحرب قد يُعرِّض مصر لويلاتها، وأيد القصر هذا الاتجاه لأسباب مختلفة تمامًا، كانت هناك مجموعة أخرى من الساسة المصريين على رأسها أحمد ماهر رئيس الهيئة السعدية وتضم عددًا محدودًا من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ترى أن دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا لا يخلو من خير، فعن طريقه تستطيع مصر أن تحقق مكاسب سياسية لا يُستهان بها عندما تلعب دور الشريك للحلفاء في التسويات التي تعقب الحرب.
وإلى جانب رجال الهيئة السعدية، كان من بين أصحاب اتجاه اشتراك مصر في الحرب إلى جانب «الحليفة» بريطانيا بعض الساسة المستقلين، وبعض أعضاء الأحزاب الأخرى الذين اتخذوا لأنفسهم مواقف مستقلة، ومن بين هؤلاء علي الشمسي باشا رجل الأعمال، والمالك الزراعي الكبير، وعضو الوفد الذي انشق على الحزب في وقت مبكر، وأحمد لطفي السيد، وبَهي الدين بركات، والدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ، وأحد كبار الملاك، ومريت غالي عضو مجلس النواب، وأحد رجال الأعمال وكبار الملاك، وعبد الملك حمزة عضو الحزب الوطني السابق، والسفير السابق، ومحمد سلطان رجل الأعمال، وأحد كبار الملاك الزراعيين، والدكتور وديع فرج أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق، ويحيى العلايلي أحد مديري شركة كوم أمبو الزراعية، وأحد كبار الملاك الزراعيين، ومحمد رشدي رجل الأعمال، ومحمد زكي عبد القادر الكاتب المعروف، ومحمد عبد الرحمن نصير النائب والمالك الكبير.
وهنا فضل علي الشمسي، وأحمد لطفي السيد، وبهي الدين بركات أن يظلوا خارج إطار هذه الجماعة على أن يزودوا أعضاءها بآرائهم، ويمنحوهم تأييدهم، وتصدَّى لمهمة تأسيس الهيئة الجديدة: إبراهيم مدكور، ومريت غالي، ومحمد زكي عبد القادر والآخرون. غير أن تأسيس هيئة سياسية جديدة خلال سنوات الحرب كان أمرًا صعبًا، وخاصة أن هذه المجموعة من الرجال تمثل النخبة المثقفة، كما تمثل أصحاب المصالح المالية والزراعية، وهي بحكم تكوينها وخلفياتها عاجزة عن بناء قواعد جماهيرية تساندها؛ ولذلك فضل أولئك الرجال أن يوجهوا نشاطهم نحو «تنوير الرأي العام» بطرح برنامج متكامل للنهوض بمصر يصاغ من خلال دراسة متأنية للواقع المصري، حتى إذا اطمأنوا إلى وجود رأي عام مؤيد لهم أعلنوا تأسيس الهيئة السياسية الجديدة.
وهكذا تعددت لقاءات هذه المجموعة المحدودة فيما بين ١٩٣٩–١٩٤٤م بصورة غير منتظمة دون أن يتوصلوا إلى إطار تنظيمي محدد، أو حتى يطلقوا اسمًا ما على أنفسهم، وخلال تلك السنوات وضعت الملامح العامة لما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» الذي اتخذ صورته النهائية في ٨ يونيو ١٩٤٤م، والذي أصبح أساسًا لبرنامج «جماعة النهضة القومية» عندما بدأت تعقد اجتماعات منظمة ذات مضابط مسجلة ابتداء من ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م — على نحو ما سنرى — دون أن تختار اسمًا معينًا تعلن به عن نفسها.
والكتاب يعكس نظرة الرجلين إلى الإصلاح المنشود، فهو يجب أن يبدأ بإصلاح النظام السياسي من خلال دراسة نقدية عميقة للنظام السياسي القائم، وطرح الأفكار الإصلاحية من منظور ليبرالي يرمي إلى ترميم الصدع الذي أصاب التجربة الدستورية منذ ١٩٢٣م وعلاج الأمراض المستعصية للجهاز الإداري، وتحويل السلطة إلى جهاز خدمات، وتخطيط، ورقابة بدلًا من كونها جهازًا للتسلط والقهر. وقد تبنت «جماعة النهضة القومية» الإطار العام للأفكار التي تضمنها هذا الكتاب أيضًا.
- (١)
ترْمي الجماعة إلى بَعْث الشعور الوطني الحق، وإدعام النهضة المصرية على الأسس الاجتماعية والاقتصادية السليمة، ووَضْع برنامج قومي تلتقي عنده كلمة المصلِحِين، ويحقِّق رغبات الأُمَّة في النُّهوض والتقدُّم، ويرسم للشباب معالم الغد، ويكفل للأمة رفع مستوى حياتها الروحية والمادية.
- (٢)
ترحب الجماعة بكل من تشغلهم الشئون العامة عند مختلف نواحيها، على أنها لا تنتمي إلى حزب، أو هيئة سياسية، ولا يشترك في تنظيم أعمالها عضو في حزب، أو هيئة سياسية.
- (٣)
تعوِّل الجماعة في تحقيق أهدافها على الصحافة، والاجتماعات الدورية، والمحاضرات العامة، والأبحاث، ومختلف وسائل التوجيه والنشر.
- (٤)
تسعى الجماعة — بوجه خاص — إلى تكوين رأي عام مستنير يتقبل مبادئها عن اقتناع، ويضطلع بنشر رسالتها، وتكون له كلمته في علاج المشاكل القومية وشأنه في تقرير مصير الوطن.
وهكذا أسفرت جهود هذا الفريق من المثقفين عن تأسيس جماعة نخبة تضع برنامجًا شاملًا لمصر ما بعد الحرب، واختفت فكرة إقامة حزب أو هيئة سياسية التي دارت بخلدهم عندما بدءوا نشاطهم عند بداية الحرب، ومن ثم كان الحرص على التأكيد على عدم الانتماء إلى حزب أو هيئة سياسية، وعلى عدم قبول أعضاء الأحزاب السياسية بين صفوفها. كما يشير البند الثالث من أهداف الجماعة إلى أن وسائلها لنشر أفكارها سوف تكون إعلامية محضة، وذات طابع تثقيفي، ومثل هذا الأسلوب لا يجد أذنًا صاغية إلا لدى دائرة ضيقة من الطبقة الوسطى المثقفة، فكأن الجماعة بحكم تكوينها النخبوي آثرت أن تخاطب قطاعًا معينًا من الطبقة الوسطى، ولم تلقِ بالًا إلى الطبقات الاجتماعية الأخرى كالعمال والفلاحين فأسقطتهم من حسابها، ولم تعنها عندما تحدث البند الرابع من أهدافها عن «تكوين رأي عام مستنير» فأدوات عملها لا تحقق هذه الغاية إلا بين قطاع المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى.
وتجلَّى ذلك بوضوح عندما أعادت الجماعة صياغة أهدافها عند إعداد النظام الأساسي للجماعة (ديسمبر ١٩٤٦م)، فحددتها على النحو التالي:
-
(١)
العمل على تكوين رأي عام مستنير، وتوجيه الشعور الوطني وجهة الفهم الصحيح لمشاكل البلاد، سياسية كانت، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وإقامة حلولها على الدراسة والبحث والنظر المجرد عن التحزب.
-
(٢)
وضع المبادرة العامة لبرنامج يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم، ويكفل استكمال استقلالها السياسي، والاقتصادي، ورفع مستوى حياتها المادية، والأدبية.
-
(٣)
الجماعة مستقلة عن الأحزاب ومحظور فيها الجدل الحزبي.١١
وبذلك وضعت الجماعة قيدًا ثقيلًا على حركتها، فكيف تستطيع تكوين رأي مستنير وهي قابعة في برج عاجي لا صلة لها بالجماهير، وما قيمة البرنامج الذي «يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم» إذا لم يكن هناك حزب سياسي يعمل على تحويل البرنامج إلى سياسات يتبناها من خلال البرلمان أو من خلال السلطة؟ لقد كانت الجماعة تضع بذلك عقبات خطيرة في طريق نموها وتطورها، جعلتها تحتضر وتختفي من الوجود في نهاية الأمر.
- (١)
إعلان رأي الجماعة في المسائل الحيوية التي تهم مستقبل البلاد وتشغل الرأي العام، كالمعاهدة المصرية الإنجليزية، والسودان، ومختلف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وإصلاح الأداة الحكومية، وذلك بواسطة إصدار البيانات وتنظيم المحاضرات، ونشر مؤلفات موجزة مدعمة بالوقائع والحقائق «دون التعرض للملابسات الحزبية أو المساس بالاعتبارات الشخصية».
- (٢)
مساهمة الجماعة مساهمة عملية في نواحي الإصلاح الاجتماعي ومقاومة الفقر، والجهل، والمرض «وذلك بدرس حالات واقعية في مختلف الأوساط والبيئات» مع بيان ما فيها من إهمال أو نقص، مع حث المسئولين على اتخاذ التدابير اللازمة، والسعي لديهم لتنفيذ المشروعات الضرورية، «ويقوم بهذه الرقابة أعضاء الجماعة المركزيون بالتعاون مع لجانٍ محلية في المدن والأقاليم تدرس الأحوال المحيطة بها، وتمد المركز العام بالبيانات، والمقترحات العملية.»
ولكن تلك الآراء لم تتعد حدود الأماني فيما عدا نشر أفكار الجماعة في مجلة «الفصول» الشهرية التي كان يصدرها محمد زكي عبد القادر، والتي أصبحت تعبر عن الجماعة منذ تأسيسها حتى ديسمبر ١٩٤٨م، وإصدار بعض المطبوعات التي اتخذت شكل بحوث أعدها بعض أعضائها تخاطب المثقفين وحدهم. أما المساهمة في الإصلاح الاجتماعي ومراقبة أعمال السلطة من خلال لجان محلية تمد المركز العام بالمعلومات، فكان أمرًا مستحيل التحقيق؛ لأنه يتطلب وجود تنظيم سياسي دقيق، وهو ما كانت الجماعة تعجز عن تحقيقه.
برنامج الجماعة
ورغم ذلك الإطار التنظيمي الضيق الذي حبست الجماعة نفسها داخله والذي قيد حركتها على المسرح السياسي، ركزت الجماعة جهودها — حتى قبل الإعلان عن نفسها وطرح أفكارها — على وضع برنامج إصلاحي شامل يعالج مختلف الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ويرسم صورة مصر — من وجهة نظر الجماعة — في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويتضح مدى اهتمام الجماعة بوضع البرنامج من سجل محاضر اجتماعاتها، فمن بين ٦٢ جلسة عقدتها الجماعة فيما بين ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م و٢٧ فبراير ١٩٤٧م — وهي الفترة التي توالت خلالها الاجتماعات بانتظام — حظي البرنامج بثلاث وعشرين جلسة، أما بقية الجلسات فخُصصت لمسائل تنظيمية.
وجدير بالملاحظة أن اجتماعات الجماعة قد توقفت عندما فرغت من وضع برنامجها ونظامها الأساسي وأعلنتها، فانتهاء هذه المرحلة يعني عبور مرحلة التنظير وتحديد الأهداف ورسم الإطار التنظيمي، إلى مرحلة جديدة تتيح لهذا البرنامج فرصة الخروج إلى المسرح السياسي من خلال هيئة سياسية تتبناه، وهو ما لم تكن الجماعة مهيأة له عندئذٍ — رغم أهمية ما طرحته من أفكار — فجمدت نشاطها، وانتقلت إلى ذمة التاريخ.
وإذا كان البرنامج هو أهم ما أخرجته، وأضافته إلى التراث السياسي المصري المعاصر، يجدر بنا أن نلقي الأضواء عليه.
ذكرنا فيما سبق أن الجماعة وضعت برنامجًا يمثل خلاصة ما اهتدت إليه من أفكار خلال سنوات الحرب، وقبل اجتماعها التأسيسي في ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م، وأن ذلك البرنامج أطلق عليه اسم «برنامج الدراسات الاجتماعية» الذي أقره الأعضاء في ٨ يونيو ١٩٤٤م، وتضمن الخطوط العريضة لبرنامج الجماعة التي كانت موضع بحث أعضائها حتى استقر البرنامج في صورته النهائية. والجدير بالذكر أن ما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» يحمل الكثير من ملامح الأفكار التي طرحها مريت غالي في كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» والتي قدم فيها تصوره لبرنامج إصلاحي لمصر، ونشر عام ١٩٣٨م.
ولعل من المفيد أن نلقي نظرة على برنامج مريت غالي، ثم برنامج الدراسات الاجتماعية الذي كان بمثابة ورقة عمل لدراسة برنامج الجماعة، قبل أن نتتبع البرنامج نفسه؛ لأن ذلك يتيح لنا فرصة التعرف على التكوين الفكري والسياسي لأعضاء الجماعة، ويجيب عن العديد من التساؤلات التي تدور في أذهاننا حولها.
ويطرح مريت غالي في بداية كتابه «سياسة الغد» تفسيرًا لظاهرة عدم الاستقرار السياسي والأزمة الاجتماعية التي عانت منها مصر فيما بين الحربين العالميتين، فرأى في «سوء استخدام الحكم النيابي» بيت الداء، ويرجع ذلك — في رأيه — إلى أن مصر لم تشهد التطور التاريخي الذي شهدته بلاد أوروبا التي اقتبسنا منها هذا النظام، حيث ارتبطت الليبرالية بتطورات اجتماعية نشأت من خلالها طبقات اجتماعية جديدة (البورجوازية والطبقة العاملة)، وأدى ذلك إلى إيجاد مناخ ملائم لتكوين الرأي العام، وبرز الاتجاه نحو اتساع دعائم السلطة وتوزيعها على عدد متزايد من الناس، وتبلورت الاتجاهات المتباينة؛ لتعبر عن نفسها في صيغة أحزاب سياسية مختلفة تدافع عن مصالح الطبقات الاجتماعية الممثلة لها.
فمريت غالي يرى أن الليبرالية وإن كانت غريبة على مصر؛ لأنها لم تأتِ نتاجًا للتطور الطبيعي للمجتمع، إلا أنها أنسب النظم السياسية لمصر، ومن ثم وجب إصلاح شأنها برسم برنامج اجتماعي، واقتصادي، وسياسي يضمن استمرارها، ونجده يستحث الوعي الاجتماعي الخامد عند البورجوازية المصرية حين يدعوها إلى التسامح وتقديم التضحيات حتى لا تفقد «تلك المزايا الغالية» إذ ما تقاعست عن مهمتها التاريخية وسقطت الليبرالية.
من هنا كانت «سياسة الغد» التي رسمها مريت غالي ترمي في جانبها السياسي إلى تكوين رأي عام (بورجوازي) يتبنى خطة إصلاح جهاز السلطة على أسس ليبرالية، كما يتبنى خطة إصلاح اقتصادية واجتماعية تضع حلولًا لمشكلات تزايُد السكان، وضَعْف الإنتاج الزراعي، وتدهْوُر مستوى المعيشة. ورأى أن حلول تلك المشكلات تكمن في ضرورة العمل على زيادة الرقعة الزراعية، وتنمية الزراعة بهدف زيادة جملة المحصول الزراعي، وتنمية الإنتاج الغذائي، وتنشيط الاستهلاك برفع مستوى المعيشة لإيجاد سوق وطنية تتيح الفرصة لقيام صناعة وطنية تضيف عنصرًا جديدًا إلى عناصر التقدم الاقتصادي والاجتماعي. أما تحقيق التقدم الاجتماعي فيرتكز — في رأيه — على توفير الخدمات الصحية للجماهير الفقيرة وخاصة الفلاحين وتبني سياسة إسكان توفر السكن الصحي الملائم للمواطنين في الريف والحضر، وإتاحة فرصة التعليم الأساسي (الابتدائي) لجميع طبقات الشعب بقدر الإمكان، وإيجاد توازن بين عدد الشبان الذين يلتحقون بالمعاهد العليا وفرص العمل المتاحة، واهتم بالجيش كدرع للوطن وأداة للتربية والقومية فرأى ضرورة إلغاء البدل العسكري وجعل التجنيد عامًا وإجباريًا بهدف «إقامة المساواة التامة بين أفراد الأمة في تأدية الواجب الوطني»، وتخفيض مدة الخدمة العسكرية، وزيادة عدد الجيش. وختم مريت غالي رؤيته لسياسة الغد، بالحديث عن وسائل تريبة الشعور القومي، فرأى ضرورة الاهتمام بتاريخ مصر القومي وتقديمه في ثوب جديد يبين معالم البناء القومي لمصر، مع التمسك بما أثبت صلاحيته من التراث التاريخي المصري وعدم الاقتباس من الغرب إلا في حدود «الأمور العلمية والاجتماعية التي برهنت على نبوغها فيها»، وأن تكون لمصر شخصيتها المستقلة كجسر للتبادل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب، ورأى أن تربية الشعور القومي من خلال التعليم تقع على عاتق المثقفين وحدهم الذين عليهم أن يلعبوا دورهم في هذا السبيل وخاصة بين جماهير الفلاحين.
- (١)
تحديد مركز مصر من الناحية الدولية إزاء بريطانيا وما عداها من الدول.
- (٢)
موقف مصر من الشرق العربي.
- (٣)
مصر والسودان.
- (٤)
الجنسية المصرية، الهجرة، تحديد مركز الأجانب.
- (٥)
الدفاع الوطني (الجيش).
- (١)
السلطة التشريعية: مراجعة الدستور، وقانون الانتخاب في ضوء التجارب الماضية، وعلاقات السلطات.
- (٢)
السلطة التنفيذية: تكوين الحكومة، ومدى تدخلها في المرافق العامة، وتحديد اختصاص الحكام (المركزية والإقليمية)، ووضع النظم التي تكفل إنتاجًا إداريًّا، ونظم الموظفين ورقابة الأداة الحكومية.
- (٣)
السلطة القضائية: توحيد القضاء، وتوحيد التشريع ومراجعته، ووضع النظم التي تكفل للقضاء اختيارًا سليمًا ولرجاله استقلالًا تامًّا، ولعمله إنتاجًا سريعًا وافيًا.
- (٤)
ميزانية الدولة: تنمية الإيرادات وتنظيم المصروفات.
- (١)
الثروة الزراعية، الملكية الريفية (توزيعها، ملكية الأشخاص المعنوية، تجميع الملكيات الصغيرة وبسطها وحمايتها، علاقة المالك بالمستأجر والمزارع، العامل الزراعي) وكذلك تنمية الإنتاج الزراعي.
- (٢)
الصناعة: إنهاضها، وحمايتها، وتنمية الثروة المعدنية، واستخدام مساقط المياه وغيرها من مصادر الطاقة، وتكوين المصانع، ومشكلة عمال المصانع الحربية، الصناعات الزراعية، والأحياء المائية.
- (٣)
التجارة: تنمية الروح التجارية عن طريق توجيه التعليم التجاري؛ لتحقيق هذه الغاية، وتنظيم الغرف التجارية بما يساعد على تنمية التجارة، ودخول المصريين مجالات الوساطة، والسمسرة، والبورصة، والملاحة، والسياحة، وبحث ظاهرة الاحتكار في السوق المصرية، وفتح أسواق للتجارة المصرية في البلاد المجاورة.
- (٤)
المسائل المالية: التعاريف الجمركية وأثرها في التجارة والزراعية والصناعية، ودراسة موضوعات التأمين، والنقد، ونظام البنوك، والبنك المركزي، ورءوس الأموال الأجنبية، والبحث في كيفية استغلال الأموال المكدسة في الإصلاح العام.
- (١)
دراسة خير السبل لرفع مستوى المعيشة عن طريق تحديد الأجور، وتخفيض أسعار الحاجيات الضرورية، وفرض الضرائب التصاعدية على الملكيات، والثروات الكبيرة، وقوانين العمل (نقابات العمال – العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال – التأمين الاجتماعي – محاربة البطالة)، وتوزيع السكان.
- (٢)
العناية بالصحة العامة وقاية وعلاجًا.
- (٣)
التريبة والتعليم بمختلف درجاته، وأنواعه، ومعاهده.
- (٤)
تهذيب العادات، والتقاليد الاجتماعية.
- (٥)
الشعور القومي، ووسائل تنميته.
- (٦)
اتجاه الحضارة المصرية.
ويبدو من استعراض هذا البرنامج أن مريت غالي هو الذي تولى صياغته، وأن أعضاء الجماعة تبنوه كورقة عمل لدراسة شاملة لبرنامج إصلاحي يعملون على إعداده عندما تضع الحرب أوزارها، وقد اقتضت الضرورة أن يضيف مريت غالي الجانب الخاص بالسياسة الخارجية؛ لتكتمل ملامح البرنامج.
على كلٍّ، عكفت الجماعة منذ تأسيسها على دراسة البرنامج في جلسات متعاقبة، بدءًا بالجانب المتعلق بالسياسة الخارجية — والذي سنعالجه في الفصل الرابع من هذه الدراسة بشيء من التفصيل — وبعد مداولات مستفيضة استقر رأي الجماعة على أن يكون البرنامج على النحو التالي:
(أ) السياسة الخارجية
-
(١)
تأييد قضية السلام، والأمن الدولي، والمساهمة في التعاون العالمي على أساس العدل، والمساواة وحرية الشعوب.
-
(٢)
استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي، وعدم الاعتراف بأي مركز ممتاز لدولة أجنبية، وتعديل معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا على هذا الأساس.
-
(٣)
حل مشكلة السودان على أساس وحدة شطري وادي النيل، واحترام المصالح الحيوية للمصريين والسودانيين على السواء.
-
(٤)
إدعام الجامعة العربية بما يعود على أعضائها جميعًا من مزايا سياسية واقتصادية وثقافية.
-
(٥)
إحلال مصر محلها اللائق في مجموعة أمم البحر الأبيض، وتوفيق العلاقات بين الوادي جميعه والبلاد المجاورة له.
(ب) نظم الدولة
-
(١)
إدعام النظام النيابي، وضمان نزاهة الانتخاب، والفصل في الطعون.
-
(٢)
توسيع اختصاص المجالس الإقليمية، والمحلية وتعميمها.
-
(٣)
إنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات.
-
(٤)
تقوية النظام الإداري بقصر سلطة الوزير على السياسة العامة، وتحديد مسئولية الموظفين على أساس اختصاص واضح.
-
(٥)
إقامة التوظيف على دعامة المسابقة العامة، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الأداة الحكومية.
-
(٦)
توحيد جهات القضاء توحيدًا يظهر العدالة على وجهها، ويسوي بين أبناء الوطن.
(ﺟ) النهضة الاقتصادية
-
(١)
إنماء الثروة العامة الزراعية، والصناعية، والتجارية، والإشراف عليها بدرجة تكفل استغلال مرافق البلاد على اختلافها، وتضمن سلامة توجيهها، وحسن تنسيقها، وتدعمها على أساس المصلحة القومية دون سواها.
-
(٢)
توطيد الاستقلال المالي على دعائم بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة، وتشجيع رءوس الأموال المصرية على المساهمة بنصيبها الكامل في النهضة الاقتصادية.
-
(٣)
زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث الوسائل العلمية في بسط المساحة المزروعة، وتحسين غلة الأرض، وتنويع محاصيلها.
-
(٤)
إنهاض الصناعة بتدبير القوة المحركة الرخيصة، وتيسير طرق المواصلات والنقل، وتوفير سبل الائتمان الزراعي.
-
(٥)
إنعاش التجارة المصرية في الداخل والخارج بمحاربة الاحتكار، وتنظيم السوق الداخلية، وفتح أسواق جديدة في البلاد الأخرى.
(د) الإصلاح الاجتماعي
-
(١)
بث روح العدالة الاجتماعية في الحياة المصرية، وتأييد حق كل فرد في أن يعيش عيشة تتفق مع كرامة الإنسان، وأن يُحمَى ضد البطالة والعجز عن العمل.
-
(٢)
رفع مستوى الفلاح بنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها، وتقييد الملكية الكبيرة، وتنظيم الإيجارات الزراعية، وإدعام الحركة التعاونية في الإنتاج والاستهلاك.
-
(٣)
حماية العمل الزراعي والصناعي، بالتوسع في تشريعات التأمين الاجتماعي، وتحديد أجور تكفل للعمال حياة مقبولة.
-
(٤)
تحقيق مرحلة من التعليم العام، موحدة في ثقافتها القومية وتوجيهها الوطني، تتحمل الدولة أعباءها، ويشترك فيها أبناء مصر جميعًا دون استثناء، والتوسع في التعليم الفني والعالي بما يتناسب وظروفنا العامة.
وقد طُبِع البرنامج في كتيب صغير يقع في أربع عشرة صفحة من القطع الصغير، وذلك في أكتوبر ١٩٤٥م — أي بعد عام كامل من تأسيس الجماعة — ووُزِّع على نطاق محدود عن طريق البريد، وعن طريق أعضاء الجماعة، وقد صُدِّر البرنامج بكلمة عنوانها «صوت مصر» ركزت على ما شاب الحياة السياسية في مصر من سلبيات نتيجة الصراعات الشخصية والحزبية، فترتب على ذلك «أن تقضي الأمة ربع قرن أو يزيد دون أن تحقق من الإصلاح ما تنشده، وتقيم من دعائم النهوض ما تطمع إليه.» .. فتبددت الآمال المتعلقة بالنهوض الاقتصادي والاجتماعي وسط جو الخلافات الحزبية والشخصية «فليس كل من تغنوا بالعدالة الاجتماعية يؤمنون بها، ولا كل من نادوا برفع مستوى المعيشة يدركون تمامًا ما نادوا به، أو يرسمون الوسيلة الناجحة لتحقيقه.» وقضى المصريون حقبة ما بين الحربين «بين رجعية قاتلة أو تظاهر بالتجديد دون ثمرة واضحة.»
وهكذا كانت الحاجة ماسَّة إلى قيام «جماعة النهضة القومية»، وحددت مقدمة البرنامج أهداف الجماعة على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، أكدت «أنها لا ترمي إلى مناهضة هيئات قائمة بل تأمل على العكس أن يكون في منهجها ما يصور الأخطار التي تتهددنا على حقيقتها …» وهو توكيد يتضمن الإشارة إلى بُعدِ الجماعة عن ميدان التنافس الحزبي وحرصها على أن تبدو في صورة من يتوجه إلى الرأي العام وحده بخطة للإصلاح على أساس قومي لا حزبي؛ فأبدت استعدادها على أن تنسق نشاطها مع الجماعات الجديدة التي تكونت في أعقاب الحرب، وخاصة جماعات الشباب للعمل من أجل مستقبل أفضل لمصر يقوم على «التجديد والبناء».
وبالفعل أصدرت الجماعة عددًا من الدراسات التي كُتبت بأقلام كبار المتخصصين، وضعت تصورًا لبعض جوانب البرنامج، ونُشرت في كُتيِّبات صدرت عن «دار الفصول» التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر عضو الجماعة، كما خصصت مجلة «الفصول» الشهرية أعدادها لشرح وجهات نظر الجماعة في الإصلاح بأقلام أعضائها تارة، وأقلام أصدقائها تارة أخرى.
ويقودنا ذلك إلى الحديث عن الإطار التنظيمي للجماعة والأسلوب الذي مارست به نشاطها.
الإطار التنظيمي وأسلوب العمل:
رأينا كيف تكونت الجماعة من مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يمثلون نخبة البورجوازية المصرية، لم يتجاوز عددها التسعة، وأن دائرتها لم تتسع إلا بقدر محدود لتضم أربعة عشر عضوًا جديدًا ممن ينتمون إلى المثقفين، وملاك الأراضي الزراعية، كان اختيارهم يتم بدقة متناهية بناءً على ترشيح من أحد الأعضاء يتم أولًا ويطرح على الجماعة في أحد اجتماعاتها، فإذا حاز القبول تم الاتصال بالمرشح ومفاتحته في الانضمام للجماعة. ويبدو أن المرشحين لم يقبلوا في كل الحالات الانضمام إلى الجماعة، فهناك أسماء بالجلسات للترشيح للعضوية دون أن نجد إشارة إلى أنهم قد قبلوا الانضمام بالفعل، بينما نجد أسماء أخرى لمرشحين انضموا إلى الجماعة. وكان الترشيح يتم في حدود دائرة معارف العضو الذي يقترح أسماء المرشحين.
ويتضح لنا من استقراء مضابط جلسات الجماعة أن الأعضاء الجدد كان لهم حق حضور اجتماعاتها بصفة ودية، ولا تدرج أسماؤهم بين الحضور، ولكننا نجدهم يطرحون آراء على الجماعة تكون موضع نقاش في جلساتها، مما يوحي بأن حق الحضور كان متاحًا لهم.
وبعد طبع القانون وتوزيعه نشط مجلس الجماعة لضم أعضاء جدد حتى يتيسر دعوة الجمعية العمومية في نهاية ١٩٤٧م، فرشح أعضاء مجلس الإدارة ٢٣ عضوًا من أساتذة الجامعات، ورجال التربية والتعليم، والمحامين، وأحد القضاة دون أن يبتَّ في أمر ترشيحهم؛ فقد كان أعضاء مجلس الجماعة يتهيَّبون الإقدام على توسيع دائرة عضويتها، بل قرروا عدم ضم بعض الشخصيات السياسية؛ اكتفاء بالحصول على تأييدها للجماعة. فما الذي دعا الجماعة إلى سلوك هذا السبيل؟!
ولعل ذلك يفسر التوقف المفاجئ لاجتماعات الجماعة بعد شهر واحد من صدور القانون الأساسي، فعقدت آخر اجتماع لها في ٢٧ فبراير ١٩٤٧م، وهو اجتماع بحثت فيه الجماعة مسألة إعداد مقر دائم للجماعة بشارع شريف، وإقامة نادٍ ثقافي تُلقى فيه المحاضرات للترويج لآراء الجماعة، كما تقرر فيه إقامة حفل شاي بمنزل محمد سلطان للمرشحين الجدد لعضوية الجماعة يُلقي فيه إبراهيم مدكور كلمة يبيِّن فيها أغراض الجماعة وأهدافها، ويتم فيه انتخاب مجلس الإدارة، وحُدِّد مساء ١٢ مارس ١٩٤٧م موعدًا للحفل، كما اتُّفِق على دعوة الجمعية العمومية للانعقاد في اليوم التالي.
- (١)
مصر المستقلة، ألقاها إبراهيم مدكور.
- (٢)
الملكية الريفية والتأجير، ألقاها مريت غالي.
- (٣)
توحيد القضاء، ألقاها وديع فرج.
- (٤)
أهدافنا الاجتماعية، ألقاها محمد زكي عبد القادر.
- (٥)
مشاكل النقد المصري، ألقاها محمد علي الغتيت.
- (٦)
مصر الصناعية، ألقاها محمد رشدي.
- (٧)
أهدافنا الزراعية، ألقاها يحيى العلايلي.
- (٨)
السياسة الخارجية لمصر، ألقاها وديع فرج.
- (٩)
الأرصدة الإسترلينية، ألقاها سُنِّي اللقاني.
- (١٠)
الوضع القانوني للمسألة السودانية المصرية، ألقاها زهير جرانة.
- (١١)
مصر والاتفاقات الإقليمية، ألقاها وديع فرج.
- (١٢)
مصر والنظام الدولي، ألقاها وحيد رأفت.
- (١٣)
البنك المركزي، ألقاها أحمد إبراهيم.
ويبدو أن قادة جماعة النهضة القومية قد عوَّلوا على الصداقة القديمة التي كانت تربطهم بالهيئة السعدية، وخاصة أحمد ماهر، والنقراشي؛ فعللوا النفس بآمال تبنِّي حكومة النقراشي لخطتهم الإصلاحية، وهو يعني ضمنًا أنهم قد سلموا بالفشل في تحقيق هدفهم الأساسي «تكوين رأي عام مستنير» يؤمن بمبادئهم الإصلاحية، فراحوا يلتمسون من الحكومة عضدًا لتنفيذ تلك الإصلاحات.
وبالطبع لم تكن حكومة النقراشي مهيأة لمثل هذه المهمة؛ لأن فشل حرب فلسطين ١٩٤٨م كان قد هيأ الفرصة للوفد لتولي الحكم، وبالتالي ذهبت صرخة جماعة النهضة القومية في وادٍ، وانتهى منذئذٍ نشاطها كجماعة دون أن تعلن حل نفسها بنفسها.
ومهما كان الأمر، فقد لعبت «جماعة النهضة القومية» دورًا تاريخيًّا كمنبر للنقد الاجتماعي، وكأداة للتعبير عن التيار الإصلاحي داخل البورجوازية المصرية الذي تبنَّته النخبة ذات الوعي الاجتماعي؛ ولذلك تكمن الأهمية التاريخية لهذه الجماعة في رؤيتها للمسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، وهما ما سنتعرض له بالتحليل في الفصلين التاليين.