الفصل الثالث

رؤية الجماعة للمسألة الاجتماعية

يتمثل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحته من أفكار تتعلق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظور تصحيح مسار المجتمع الليبرالي الذي يتمتع فيه المواطنون جميعًا بقدر معقول من الحياة الكريمة عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين، مع إطلاق طاقات البورجوازية المصرية بفتح المجال أمامها لاستثمار أموالها في ميادين جديدة، وهو يتطلب — بالضرورة — تحرير الاقتصاد المصري من روابط التبعية للاقتصاد العالمي، أو — على الأقل — خلق المناخ الملائم الذي يتيح للبورجوازية المصرية لعب دور أكبر في المجال الاقتصادي بمحاولة تخفيف روابط التبعية للرأسمالية العالمية في الطريق نحو بناء اقتصاد مصري وطني تدريجيًّا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك كله إلا من خلال إصلاح النظام السياسي الليبرالي بالشكل الذي يتيح للبورجوازية لعب دور أكبر في رسم السياسات، ووضع الخطط الاقتصادية التي تحقق لها أحلامها، ويتطلب ذلك بالضرورة إصلاح أداة الحكم بدءًا بالدستور، والتخفيف من الصلاحيات التي يعطيها دستور ١٩٢٣م للقصر، وإيجاد نوع من الرقابة على السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ويعالج هذا الفصل الإطار العام لأفكار الجماعة المتعلقة بالمسألة الاجتماعية، مركِّزًا على تحليل مضمونها ونقدها، وتحديد مكانها بين الأفكار الإصلاحية التي طرحتها البورجوازية المصرية في تلك الحقبة، متناولًا ثلاث مقولات رئيسية طرحتها الجماعة هي: الإصلاح الزراعي، وبناء الاقتصاد المصري المستقل، وإصلاح أداة الحكم.

الإصلاح الزراعي

وللجماعة فضل السبق في تقديم تصور كامل لإصلاح زراعي يهدف إلى علاج مشكلة الفقر الذي كان يعاني منه السواد الأعظم من المصريين ممثلًا في الفلاحين. حقًّا، لم تكن الجماعة هي أول من دعا إلى الإصلاح الزراعي؛ فقد سبقتها دعوات أخرى قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، بل تجسدت تلك الدعوة في صورة مشروع قرار بتحديد الملكية الزراعية تقدم به محمد خطاب — عضو مجلس الشيوخ — إلى البرلمان في أوائل ١٩٤٤م، ولكنَّ أحدًا لم يضع مشروعًا متكاملًا لإصلاح زراعي يشتمل على تحديد الملكية الزراعية، وتنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة مثلما فعلت جماعة النهضة القومية.

واتخذت فكرة الإصلاح الزراعي التي تبنَّتها الجماعة صورة دراسة متكاملة أعدَّها مريت غالي، ونشرتها الجماعة عام ١٩٤٥م، وصدرت عن دار الفصول التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر — عضو الجماعة — والتي اختصت بنشر رسائل ودراسات الجماعة، وتقع في ٩٧ صفحة من القطع المتوسط.

وسبق نشر الدراسة مناقشات مستفيضة بين أعضاء الجماعة حول تصورها للإصلاح الزراعي استغرقت جلستين من جلسات فبراير ومارس ١٩٤٥م، وبعد موافقة أعضاء الجماعة على ما جاء بدراسة مريت غالي — التي يبدو واضحًا أنها أُعدِّت من قبل — نُشِرت الدراسة في مايو ١٩٤٥م، وهي تمثل تطورًا كبيرًا في أفكار مريت غالي الإصلاحية التي طرحها قبل الحرب في كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» ونُشرت — كما سبق أن أشرنا — عام ١٩٣٨م، ففي ذلك الكتاب نجده يرى أنه «من بين تلك الأوهام (التي ينبغي تركها) أن المصاعب الاقتصادية والاجتماعية في مصر نشأت عن سوء التوزيع في الثروة الوطنية، وأنه كان يمكن أن تزول لو أسس التوزيع على قاعدة جديدة.» وهو يرى أن «الداء ليس في التوزيع، بل إنه نشأ عن النقص الأساسي في الاقتصاد الوطني.» ونجده أيضًا يستبعد فكرة تدخل الحكومة لفرض الإصلاح الاجتماعي، فيقول: «ومن تلك الأوهام السائدة (التي يجب أن تزول) أن يسند عامة الناس إلى التدخل الحكومي الأثر الفعال في إصلاح الأمور، حتى صاروا يعتقدون أن الحكومة إذا ما أجادت في تصرفاتها، وأصلحت طرائقها إصلاحًا تامًّا، تصبح قادرة على أن تعالج جميع نتائج الفقر الاقتصادي التي تواجهنا اليوم.»١
وسنرى أن مريت غالي قد بنى فكرة دراسته عن الإصلاح الزراعي على قاعدة سوء توزيع الثروة الوطنية، وأنه يجعل من تدخل الدولة محورًا للإصلاح الزراعي المنشود، ويبدو أن تفاقم مشكلة الفقر خلال الحرب العالمية الثانية، وما امتاز به مريت غالي من وعي اجتماعي جعله يعدل من أفكاره، بل ويقلبها رأسًا على عقب في دراسته عن «الإصلاح الزراعي» التي صدرت باسم الجماعة. ومن عجب أنه أعاد إصدار كتابه «سياسة الغد» عام ١٩٤٤م دون أن يغير من تلك الآراء التي طرحها قبل بداية الحرب، وإن كان قد أشار في مقدمة تلك الطبعة إلى أن طرق العلاج التي اقترحها «قد أصبحت غير كافية وحدها … وأثرها متعلق بالعدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي.»٢
ولما كانت الدراسة الخاصة بالإصلاح الزراعي أول ما صدر من مطبوعات عن الجماعة، فقد صدر الكتاب ببيان من الجماعة أكدت فيه ضرورة الإصلاح الاجتماعي، ونفت عن نفسها التحيز «لأي مذهب اجتماعي لذاته، أو نظرية اقتصادية من تلك النظريات التي تتقاسم العالم اليوم.» وأنها تعتبر «أن النهوض الصحيح هو ذلك الذي يرفع مستوى الأمة ماديًّا وروحيًّا، وينشر ألوية العدالة بين أبناء الوطن.» وأعلن البيان أن الجماعة بتقديمها للإصلاح الزراعي تؤكد أهميته في بناء الحياة الجديدة، وتعده أساسًا لإصلاح شامل.٣

واستهل مريت غالي دراسته بمقدمة حدد فيها المقصود بالإصلاح الزراعي بأنه علاج لمختلف النظم المتعلقة بحيازة الأراضي الزراعية «علاجًا يمكن كل المساهمين في إنتاجها من أن ينالوا قسطًا من الرزق يسمح بحياة مقبولة.» باعتباره جزءًا من المشكلات القومية العامة، ويأتي في طليعتها، وأنه يهدف في المحل الأول إلى «توزيع الثروة القومية توزيعًا يرفع مستوى المعيشة لدى عامة الشعب.» ورأى أن الملايين من الفلاحين الذين يعيشون دون حد الكَفاف، «لا يمكن أن يُنتَظر منهم — وهم لا يتمتعون بالقدر اللازم من مقتضيات الحياة الإنسانية — أن يكونوا مواطنين حقيقيين يشعرون بمصرتيهم ويعتزون بها.» فهو يسلم بداية بالرابطة الوثيقة بين حصول المواطنين على نصيب عادل من الثروة القومية وشعورهم بالانتماء للوطن الذي يعيشون فيه، ونَعى على كبار الملاك الزراعيين اكتفاءهم بإبداء العطف على الفلاحين في أحاديثهم وخطبهم، دون أن يقدِّموا علاجًا لمعاناتهم، كما نعى عليهم اعتبارهم الأرض الزراعية مجرد سبيل لاستثمار رأس المال، وهجرهم للريف.

وبعد أن استعرض أوضاع الحيازة الزراعية، وبيَّن التناقض الكبير في توزيع الملكيات الزراعية بين ملكيات واسعة في أيدي حفنة من الملاك، وملكيات قزمية دون الفدان الواحد يعيش عليها مليون أسرة، بينما هناك ملايين من المعدمين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، وتلاشت أو كادت الملكيات المتوسطة التي تشكل عنصر التوازن في المجتمع الزراعي، رأى أن الإصلاح الزراعي الأمثل هو «الذي يُوجِد طبقة ثابتة من صغار ملاك الريف، يملك كل منهم مساحة من الأرض تحقق استقلاله الاقتصادي، وكرامته الاجتماعية؛ لأنها تكفي لسد حاجة أسرته من مستلزمات العيش»، وخاصة أن هذه الطبقة من صغار الملاك تقوم بدور هام «في ترقية القرى وبث الحركة فيها».

ورأى أن الخلل الاجتماعي نشأ عن تضاؤل الملكيات الصغيرة وتلاشيها تدريجيًّا، وثبات الملكيات الكبيرة، وزيادة أعداد الفلاحين الفقراء نتيجة زيادة السكان، وندرة الأرض الزراعية، مما أدى إلى تنافسهم على فرص العمل الزراعي المتاحة، ومن ثم حرص الملاك الكبار على زيادة أرباحهم عن طريق إنقاص أجور العمال الزراعيين، مما أحدث خللًا «لا يستقيم معه نظام اجتماعي أو اقتصادي»، وترتب على ذلك كله تدهور مستوى معيشة طبقة الفلاحين «إلى حد مخيف» وهم الذين يمثلون «ثلاثة أرباع الأمة المصرية». وجاءت الحرب العالمية الثانية لتزيد من خطورة المشكلة؛ «لأنها أشعرت كثيرين بحقوقهم على المجتمع، وأتت بأزمات تموينية، وأوبئة فتاكة أبرزت سوء حال سكان الريف، بحيث لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عنها.»، كما أن اختفاء فرص العمل التي أتاحتها ظروف الحرب تزيد المشكلة تفاقمًا.

وراح مريت غالي يدق ناقوس الخطر، داعيًا البورجوازية المصرية إلى التضحية من أجل وطنهم ومواطنيهم، وعدَّد تجارب الإصلاح الزراعي التي عرَفتها الأمم الأخرى في الهند، وإيطاليا، والمجر، والدول الإسكندنافية، ووقف عند «التجربة الروسية» فاعتبر أنها «كانت ثورة عنيفة أكثر منها علاجًا وتطورًا؛ لذلك لا نعتقد أن فيها دروسًا كثيرة نستفيد منها فيما يخصنا، اللهم إلا فيما تنذر به من خطر إذا أهملنا الإصلاح اللازم، أو تغلبت علينا نظريات سياسية لا قبل لنا بها.»٤ وكأنه يريد أن يقول لكبار الملاك الزراعيين — وهو واحد منهم — إن إهمال الإصلاح يفتح الطريق أمام ثورة اجتماعية لا تُبقي ولا تذر.
ومن هذا التحذير الهام بدأ مريت غالي يبسط الأساس الذي تقوم عليه فكرة الإصلاح الزراعي — كما تراه جماعة النهضة القومية — باعتبار الأرض الزراعية «أداة إنتاج اقتصادي» تلعب دورًا هامًا في حفظ النظام الاجتماعي، وتوطيده، وتنشيط النهضة القومية في جميع نواحيها، وأن المصلحة كل المصلحة «في أن يتمكن أكبر عدد مستطاع من التمتع بها على أكمل صورة» واستشهد على ذلك بعبارة وردت في تقرير البعثة المصرية في مؤتمر الأغذية والزراعة الذي انعقد بالولايات المتحدة عام ١٩٤٤م ذهبت فيها إلى أن الأرض الزراعية «ضرب من ضروب المعيشة لا مجرد سبيل لاستثمار أموال الرأسماليين.»٥
فهدف الإصلاح الزراعي نشر الملكيات الصغيرة التي عرَّفها بأنها «مساحة من الأرض الزراعية يكفي محصولها النباتي والحيواني لسد حاجة أسرة ريفية عادية، فتحقق لها مستوى أدنى من المعيشة بغير كماليات، ولكن مع توفير ضرورات الحياة كلها.»٦ ورأى أن الحد الأدنى من الأرض الزراعية التي تحقق هذا الغرض هو ثلاثة أفدنة للأسرة المكونة من خمسة أفراد (الزوجان وثلاثة أولاد)؛ ولذلك يجب ألا تقل الملكية الزراعية عن هذا الحد، وإلا أصبحت عديمة الفائدة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، كما يجب أن تدرج الملكية التي تزيد على عشرة أفدنة في عداد الملكيات المتوسطة.

وهكذا اعتبر مريت غالي، أو بعبارة أدق، اعتبرت جماعة النهضة القومية أن هدف الإصلاح الزراعي جعل الملكية الصغيرة لا تقل عن ثلاثة أفدنة، وهو أمر ينطوي على عدم الدقة في التحديد؛ لأنه لا يدخل في الاعتبار تفاوت درجات الخصوبة بالنسبة للأرض الزراعية، كما أنه أخذ في الاعتبار حجمًا للأسرة الريفية مشكوك في دقته. ومن الملاحظ أن الجماعة كانت على وعي بهذا القصور في تحديد المساحة من الأرض الزراعية اللازمة لإعالة أسرة ريفية، فأكد مريت غالي على ضرورة التزام الحد المقترح، وحذر من رفع هذا الحد إلى ما يزيد على ثلاثة أفدنة «رغبة في رفع مستوى الحياة لدى صغار ملاك الريف» بحجة توفير الأرض — أو بالأحرى — إتاحة فرصة التملك لأكبر عدد ممكن من سكان الريف. وعندما تقدم إبراهيم مدكور بمشروع قانون الإصلاح الزراعي إلى البرلمان (عام ١٩٤٨م) جعل الحد الأدنى للملكية الزراعية فدانين ليس ثلاثة أفدنة، دون تمييز بين درجة الخصوبة، وبالتالي تفاوت غلة الأرض.

على كلٍّ، رأى مريت غالي أنه لا مناص من تدخل الدولة لنشر الملكيات الصغيرة بوسائل مختلفة من بينها: تمليك أراضي الدولة للفلاحين المعدمين، وإلغاء الأوقاف الأهلية وتقسيمها بين المستحقين، وإعادة النظر في الشركات العقارية الزراعية ونظامها، والحد من الملكيات الكبيرة بطريق التشريع.

أما عن تمليك أراضي الدولة للفلاحين، فكانت فكرة قديمة طرحتها العديد من الاتجاهات السياسية المختلفة في فترة ما بين الحربين العالميتين كوسيلة لحل المسألة الاجتماعية حلًّا جزئيًّا دون تحميل البورجوازية المصرية أعباء هذا الحل، ودون تعريضها للتضحية بامتيازاتها، وعندما نفذت بعض الحكومات المتعاقبة على السلطة هذه السياسة قصرتها على توزيع بعض الأراضي الزراعية على خريجي الزراعة، وبعض صغار الفلاحين ممن كانوا أصلًا من صغار الملاك، وتم ذلك على نطاق محدود من قبيل التجربة في الأراضي المستصلحة.

وعادت جماعة النهضة القومية إلى طرح الفكرة من نفس المنطلق؛ أي باعتبارها ركيزة لحل المسألة الاجتماعية بأقل خسائر ممكنة قد يتحملها كبار الملاك الزراعيين، فرأت أن تكون كل أرض زراعية تملكها الدولة قاصرة على مشروع نشر الملكيات الصغيرة دون استثناء، واعتبر هذا قاعدة للحل المقترح، مع أن الأراضي الزراعية التي كانت تملكها الدولة لم تتجاوز ١٥٠ ألف فدان، غير أن مريت غالي قدَّر ما يمكن استصلاحه من أراضي الدولة ﺑ ١٣٠٠٠٠٠٠ فدان دون أن يبين لنا الأساس الذي قام عليه هذا التقدير، واقترح وسائل تكفل تحقيق هذه الغاية تقوم على تحسين نظام الري، وإقامة السدود، وكلها مشروعات تحتاج إلى استثمارات ضخمة تركت الدراسة للحكومة أمر تدبيرها دون أن تحدد دورًا للبورجوازية المصرية في هذا المجال، وحدد عام ١٩٧٠م كموعد يمكن أن تتحقق فيه خطة إصلاح الأراضي البور المملوكة للدولة، وفاتَه أن يدخل في الاعتبار الزيادة المتوقعة للسكان خلال تلك الفترة وما يترتب عليها من تفاقم حدة المسألة الاجتماعية التي كانت في حاجة إلى حل سريع حاسم. ورأى أن ذلك التوسع الأفقي يجب أن يصاحبه توسع رأسي في الزراعة عن طريق العمل على زيادة الطاقة الإنتاجية للأرض الزراعية باعتبار الزراعة «أساس الاقتصاد المصري» مع العمل على النهوض بالصناعة المصرية لزيادة الإنتاج القومي، وإتاحة فرص جديدة للعمل خارج إطار الزراعة، على ألا تقل المساحة المستصلحة من الأراضي البور عن ٣٠ ألف فدان سنويًّا، مع الأخذ في الاعتبار المحافظة على المساحات المزروعة عن طريق التشريع بحظر استخدام الأرض الزراعية في غير الزراعة، والحيلولة دون زحف العمران الحضري على الأرض الزراعية.٧

ورأى مريت غالي أن تتولى الشركات العقارية الزراعية عملية إصلاح الأراضي البور التي تستخدم كوسيلة لنشر الملكيات الصغيرة مع تعديل نظمها لتخدم هذه الغاية، فتُعطَى الأرض البور للشركة الزراعية بإيجار اسمي ضئيل لمدة معينة، على أن تعود للدولة بعد إصلاحها دون مقابل، وتُعفى الشركة خلال مدة حيازتها للأرض من جميع الضرائب والرسوم كضرائب الأطيان، والأرباح التجارية، والرسوم الجمركية على ما تستورده، من آلات لازمة للاستصلاح، واقترح أن تحدد مدة حيازة الشركات للأرض بعشرين عامًا تعود بعدها للدولة. والاقتراح برُمَّته صعب التنفيذ عمليًّا؛ لأن الإعفاء من الضرائب لا يكفي وحده كي يكون حافزًا للشركات الخاصة على الإقدام على العمل في ميدان الاستصلاح طالما أنها ستفقد الأرض بعد مدة زمنية محددة، وليس هناك ما يضمن أن تكون الأراضي المستصلحة على درجة كافية من الجودة عندما يحين أجل تسليمها للدولة لتوزعها على الفلاحين.

أما الأراضي الزراعية التي كانت بأيدي الشركات العقارية فاقترح مريت غالي أن تقوم الحكومة بشرائها من الشركات بثمن معقول، أو أن تحدد مهلة زمنية تبيع خلالها الشركات تلك الأراضي لصغار الفلاحين، مع وضع بعض القيود الخاصة بمساحة القطع التي تباع، وثمنها، وطريقة تسديده، وغاب عنه أن ثمة سوقًا حرة للأرض الزراعية تحدَّد الأسعار فيها وفق قانون العرض والطلب، وأن الشركات لن تعدم وسيلة للتهرب من التشريع الذي يلزمها ببيع الأرض بسعر محدَّد، وخاصة أن معظمها كانت شركات أجنبية.

وحظيت قضية حل الأوقاف الأهلية باهتمام خاص من جماعة النهضة القومية، وكان مشروع القانون الخاص بذلك في طليعة المشروعات التي تقدم بها أعضاء الجماعة إلى البرلمان، فقدم إبراهيم بيومي مدكور مشروعًا بهذا الصدد إلى مجلس الشيوخ عام ١٩٤٤م لم يحظَ بموافقة المجلس، وقدمت الحكومة في مقابله مشروعًا مضادًا أقره المجلس وصفه مريت غالي بأنه قد «عالج القشور، بينما ترك اللُّب على ما فيه من فساد ومساوئ، وقد تجلَّت المصالح الخاصة أثناء دراسته في البرلمان بشكل واضح.»٨

واعتبرت الجماعة أن الوقف الأهلي يقف حجر عثرة في سبيل نمو الإنتاج والتقدم الاقتصادي؛ لأنه يحبس الأعيان الموقوفة عن التداول «فتصبح في حكم المعدومة لا تصلح لضمان ولا تبعث على ثقة.» رغم أن مساحة تلك الأراضي تبلغ نحو عُشر مساحة الأراضي الزراعية في البلاد. ورأت أن إلغاء الوقف الأهلي يحقق الغاية المرجوة؛ فتوفر هذه المساحة من الأراضي الزراعية دون أن تتحمل الخزانة العامة أي أعباء مالية، وتحول المستحقين في الوقف إلى ملاك، مع وضع الضوابط التي تحول دون تحوُّل الملكيات الجديدة إلى ملكيات قزمية دون الحد الذي رأته الجماعة حدًّا أدنى للملكية الزراعية (ثلاثة أفدنة) على النحو الذي سنراه فيما بعد.

وقدَّر مريت غالي المساحة التي يمكن تدبيرها من هذه المصادر الثلاثة: أراضي الدولة المزروعة والتي يتم استصلاحها حتى عام ١٩٧٠م، وأراضي الشركات العقارية، وأراضي الأوقاف المنحلة، بحوالي ١٠٥٠٠٠٠٩ فدان، وهو ما يتناقص مع تقديره السابق للأراضي المستصلحة وحدها (١٣٠٠٠٠٠ فدان).

ورأت الجماعة أن يتخذ المشروع صورة المستعمرات الزراعية التي تقام على شكل قرى تتوفر فيها المساكن والخدمات، على أن تستفيد الحكومة في ذلك من التجربة التي قام بها الاحتلال البريطاني في عهد كتشنر عندما أُنشئت مستعمرتان زراعيتان في أراضي الدولة في الديبة مركز بيلا عام ١٩١٢م، وشالما مركز كفر الشيخ عام ١٩١٤م كوسيلة لحل مشكلة تلاشي الملكيات الصغيرة، وهي تجربة لم يقدَّر لها الاستمرار بسبب عدم اهتمام كبار الملاك الزراعيين بتوفير سبل النجاح لها، وإلقائهم العبء كله على الحكومة وحدها، فلم تنشأ بعد ذلك إلا مستعمرة صغيرة (٣٠٠٠ فدان) بأبي جنشو بالفيوم عام ١٩٢٨م. ورغم ذلك رأى مريت غالي في هذه التجارب نماذج يمكن أن يُحتَذَى بها عند إنشاء المستعمرات الجديدة.

واقترح أن تشمل المستعمرة الواحدة خمسة آلاف من الأفدنة منها مساحة لا تتجاوز ١٢٪ يخصص نصفها لمزرعة نموذجية، والنصف الآخر للسكن والمنشآت العامة (عملية مياه، مسجد، مدرسة، مستوصف، صالة للاجتماعات، سوق القرية). على أن تقام هذه المنشآت عند بداية تكوين المستعمرة، ويُراعَى فيها البساطة ورخص التكاليف، ويترك للمستفيدين أمر إقامة مساكنهم على أن تُراعَى فيها بعض الاشتراطات الصحية. أما بقية المساحة فتقسم إلى وحدات صغيرة يتم تمليكها للمستفيدين بدلًا من تأجيرها لهم؛ ليكون ذلك حافزًا لهم على العمل، على أن تقدم الحكومة لهم القروض اللازمة لإقامة المسكن، وشراء أدوات الإنتاج، وتضاف تلك القروض إلى ثمن الأرض، ويقسم المجموع على ثلاثين عامًا بفائدة قدرها ٢٪ سنويًّا، ولا يجوز بيع تلك الوحدات أو رهنها أو تأجيرها قبل انتهاء المدة المقررة أو استيفاء الدين. على أن يتم زراعة هذه المستعمرات على أساس تعاوني كلما أمكن ذلك. وتوضع الضوابط التي تكفل عدم تقسيم الأرض من جديد بين الورثة.

ورأى مريت غالي تخصيص إدارة حكومية لهذا الغرض تكون إدارة الفلاح بوزارة الشئون الاجتماعية نواة لها بعد إعادة تنظيمها بما يتناسب مع توسيع نطاق عملها، على أن يؤلف مجلس خاص من الموظفين، والشخصيات العامة من ذوي الخبرة للإشراف على تلك الإدارة، ويمنح رئيس المجلس قسطًا وافرًا من الاستقلال وحرية التصرف. واقترح أن ينشأ صندوق مستقل لنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها يلحق بالإدارة المختصة.

ويَقتضي نجاح المشروع أن يتغير مفهوم الدولة لإصلاح الأرض البور باعتباره خدمة عامة من الخدمات المفروضة عليها؛ ولذلك يجب أن تقوم بتسوية الأرض، وإنشاء وسائل، ومستلزمات الري، وشق الطرق دون مقابل مادي يتحمله المستفيدون، ونوَّه بما يعود على الدولة من وراء هذا المشروع من زيادة في الإنتاج القومي، وتنشيط للحركة التجارية والصناعية.

ونشر الملكيات كحل لمشكلة الفقر يقتضي بالضرورة المحافظة عليها، والحيلولة دون تفتتها وتحولها إلى ملكيات قزمية لا تستطيع الوفاء بحاجات الأسر الريفية، وهو ما أدخلته جماعة النهضة القومية في اعتبارها عند رسمها لخطة الإصلاح الزراعي؛ فطالب مريت غالي في دراسته عن الإصلاح الزراعي بالعمل على منع تضاؤل الملكية الصغيرة في المستقبل بمنع كل تقسيم يؤدي إلى نقص الملكية الواحدة عن الحد الأدنى المقرر، وهو ثلاثة أفدنة، فلا يجب تجزئة الملكية بحق الإرث وإنما يختص بها أحد الورثة أو اثنان منهم (وليكن أكبر الأبناء ومن يليه، أو من يُتفق عليهم بين الورثة) على أن يُعوض الباقون بمبلغ من المال يساوي قيمة أنصبتهم الشرعية، وتقوم الإدارة المختصة بنشر الملكيات الصغيرة وحمايتها — التي سبقت الإشارة إليها — بدفع هذه المبالغ لمستحقيها (من الخزانة العامة طبعًا)، ثم تحصيلها من الذي تنتقل إليه الأرض أسوة بما يُتبع في توزيع الأراضي الحكومية؛ أي تتحول قيمة أنصبة الورثة إلى قرض بفائدة ٢٪ سنويًّا يُسدِّده من آلت إليه الأرض على مدى عشرين عامًا، لا يحق له خلالها التصرف في الأرض بالبيع.

واقترح مريت غالي أن يكون لمن يأخذون نصيبهم في التركات في صورة مبلغ من المال الأولوية في الاشتراك في المستعمرات التي تنشئها الحكومة؛ فيحصلون على ملكية صغيرة من الأراضي المستصلحة على أن يكون نصيب كل منهم من قيمة التركة بمثابة مقدم لقيمة الأرض التي يحصلون عليها، فلا تدفع لهم الحكومة — في حقيقة الأمر — مالًا، على أن يقسط الباقي عليهم لعدد من السنين بنفس سعر الفائدة، وبذلك يتحول التعويض المالي في كثير من الأحيان إلى مجرد عملية حسابية في سجلات الإدارة المختصة.

ولما كانت الملكيات القزمية (التي تقل عن الفدان) تقدر — عندئذٍ – بحوالي المليون وثلث المليون من الأفدنة (أي أكثر قليلًا من خُمس مساحة الأراضي المزروعة في البلاد)، فقد وجب اتخاذ إجراءات لعلاج تضاؤل الملكيات الصغيرة، ورأى مريت غالي أن تقوم الحكومة بضم تلك الملكيات الضئيلة بعضها إلى بعض؛ لتتكون منها ملكيات صغيرة لا تقل عن الحد الأدنى المقرر. ولما كان ضم تلك الملكيات القزمية إلى بعضها البعض من الصعوبة بمكان فقد اقترح مريت غالي تشجيع أصحاب تلك الملكيات على التخلص منها بالبيع أو بالبدل على أن تقدم الحكومة سلفيات لأصحاب القطع الضئيلة المساحة؛ لتيسر لهم شراء قطع ضئيلة أخرى للوصول بمساحة ملكياتهم إلى الحد الأدنى للملكية الزراعية، أو تعطيهم الحكومة ملكية صغيرة في المستعمرات الزراعية التي تقيمها الدولة، ويستخدمون ثمن الأرض المباعة في تسديد جزء من قيمة الأرض الجديدة.

وهكذا تضع الجماعة العبء كله على عاتق الدولة، ولا تُلقي بالًا لما يتطلبه هذا البرنامج الخيالي من موارد مالية لتغطية أعبائه التي لا تستطيع خزانة الدولة تحملها، ولم تدخل في اعتبارها احتمال قيام الورثة الذين يتنازلون عن نصيبهم في الإرث مقابل مبلغ من المال — ولا يرغبون في الانتقال إلى المستعمرات الزراعية — بتبديد ما يحصلون عليه من مال على نفقات غير أساسية استهلاكية أو غير استهلاكية (كالزواج مثلًا) ما دامت ليست هناك ضوابط تلزمهم بالقبول بالحلول التي اقترحتها الجماعة.

وعلى كلٍّ، لم ينسَ مريت غالي تأكيد ضرورة تجميع الملكيات القزمية التي يملكها شخص واحد والتي تتجزأ إلى عدد من القطع المتفرقة الموزعة في أنحاء زمام القرية عن طريق البدل، حتى يكون استغلالها كقطعة واحدة ذا جدوى اقتصادية، وضرب مثلًا على إمكانية تحقيق ذلك بالقانون الذي صدر بلبنان عام ١٩٢٤م لتجميع الملكيات الزراعية بالبقاع.

ويأتي تقييد الملكيات الكبيرة في المقام الثاني في مشروع جماعة النهضة القومية للإصلاح الزراعي بعد نشر، وتثبيت الملكيات الصغيرة على حساب الدولة وبجهودها وحدها، وذلك رغم إدراك الجماعة لخطورة قضية سوء توزيع الثروة، ويقينها أن «الملكية الكبيرة لا تلائم ظروفنا الخاصة، فملكية واحدة من الملكيات الشاسعة تحرم مئات العائلات الريفية من بلوغ ما يحق لها من استقلال اقتصادي، واستقرار اجتماعي؛ لذلك يجب أن تبقى الملكية في حدود معقولة كي لا تتجمع مساحات واسعة في أيدٍ قليلة، ويفسح المجال ما أمكن أمام الملكيات المتوسطة والصغيرة»،١٠ ولعل وضع مسألة تقييد الملكية الكبيرة هذا الوضع يرجع إلى خشية الجماعة من أن تواجه بمعارضة عنيفة من جانب كبار الملاك الذين لم يتوفر لديهم الوعي الاجتماعي بنفس الدرجة التي توفر بها لدى أعضاء جماعة النهضة القومية.

وعندما طرح مريت غالي فكرة تقييد الملكية الكبيرة عالجها من زاوية ما يترتب على غياب كبار الملاك عن الريف، واعتبارهم الأرض مجرد وسيلة لاستثمار الأموال من أضرار اقتصادية واجتماعية، أبرزها تبديد رءوس أموالهم في التكالب على شراء المزيد من الأطيان، وأن ثمة مجالات أخرى في الصناعة والتجارة تعود عليهم بربح أكبر لو وجهوا إليها رءوس أموالهم، كما تعود على الاقتصاد الوطني بالخير.

لذلك اقترح مريت غالي أن يكون هناك حد أعلى للملكية لا يتجاوز المائة فدان، على ألا يتم ذلك بطريقة تثير معارضة الملاك الكبار فالجماعة — على حد قوله — «تريد إصلاحًا وتحويلًا لا ثورة وتبديلًا، فعلينا أن نتخير أنجح الوسائل، وأكثرها فائدة في تحقيق العدالة الاجتماعية دون إبطاء عقيم، وبغير طفرة فوق طاقتنا.»١١ ورأى أن يُمنَع من تزيد ملكيته على المائة فدان من اقتناء أراضٍ جديدة، ولا يُستثنى في هذا سوى انتقال الملكية بطريق الإرث، وبذلك اتجهت فكرة تقييد الملكيات الكبيرة — عند الجماعة — إلى تجميدها عند الحد الذي بلغته، وترْك عامل الزمن يلعب دوره في تجزئتها بالتدريج، إما عن طريق الوراثة، أو طريق البيع عندما يدرك الملاك الكبار مزايا استثمار أموالهم في ميادين الصناعة والتجارة، دون أن يصحب التقييد انتزاع الملكيات الزائدة، وتوزيعها على الفلاحين؛ أي إن اختفاء الملكيات الكبيرة — على هذا النحو — يحتاج إلى أجيال.
واعترف مريت غالي بأن ما يُؤخذ على هذا الإصلاح هو «أنه بطيء في تحقيق الغرض المنشود … ولا يُؤمل أن يحقق التغيير اللازم في توزيع الملكية الزراعية قبل مُضِي جيلين أو أكثر على تنفيذه.»١٢ ولكنه كان يأمل أن يؤدي هذا الاعتدال إلى تمرير مشروع الإصلاح الزراعي بالبرلمان، وأن يُؤتي الإصلاح أُكُله باتجاه الأموال التي كانت تُستثمر في شراء المزيد من الأراضي الزراعية إلى الصناعة والتجارة.

وتتمشى فكرة تقييد الملكية الكبيرة مع مشروع محمد خطاب الذي تقدم به إلى مجلس الشيوخ في أوائل ١٩٤٤م فيما عدا الحد الأعلى للملكية الكبيرة، فرأى محمد خطاب ألا تزيد الملكية عن خمسين فدانًا، بينما رأت الجماعة أن تكون الملكية الكبيرة ضعف هذا الحد، بينما اتفقت الجماعة مع مشروع محمد خطاب في تجميد الملكيات الكبيرة، وعدم السماح لأصحابها بشراء أراضٍ جديدة ما عدا ما يَئول إليهم بحق الإرث، دون أن يفكر أيٌّ منهما في انتزاع الأراضي التي تزيد عن الحد الأعلى للملكية وتوزيعها على الفلاحين المعدِمين. ورغم ذلك رفض البرلمان مشروع محمد خطاب، كما رفض مشروع إبراهيم مدكور الذي قدمه بعد ذلك بأربعة أعوام، ولم يشفع للمشروع الأخير ارتفاعه بالحد الأمثل للملكية الكبيرة إلى مائة فدان.

وإلى جانب تقييد الملكيات الكبيرة رأت الجماعة أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على ضرائب الأطيان بحيث تزيد فئاتها مع زيادة الملكية عن الحد الأعلى المقرر، وبذلك ينقص عائد الأرض كلما زادت مساحتها مما يشجع أصحابها على بيعها، والاتجاه نحو استثمار أموالهم في الصناعة والتجارة. على أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على جميع الأنشطة الاقتصادية مما يؤدي إلى زيادة موارد الدولة، وتوجيه تلك الموارد إلى تمويل خطة الإصلاح الاجتماعي.

ولكن كيف يمر التشريع الخاص بالضرائب التصاعدية في برلمان تتكون غالبيته القصوى من كبار الملاك؟! لقد عُرض على البرلمان مشروع قانون في ١٩٤٤م يقرر زيادة تصاعدية على مجموع الضريبة العقارية التي يدفعها المالك الواحد كلما تجاوز مجموع الضريبة العقارية قدرًا معينًا، وتصدى الأعضاء للمشروع دفاعًا عن مصالحهم الضيقة دون النظر إلى ما يترتب على إبقاء التناقضات الاجتماعية على ما كانت عليه من أخطار على مصالحهم. وانتهى الأمر بإقرار القانون الخاص بالضرائب التصاعدية على الأطيان بعد إدخال تعديل جذري على شرائح الضريبة جعلها ضئيلة القدر لا تحقق الغرض المرجو من ورائها. فإذا كان غياب الوعي الاجتماعي عند البورجوازية المصرية قد أدى إلى هذه النتيجة، فكيف نتوقع منها أن تقبل بضرائب تصاعدية على الأطيان إلى الدرجة التي تجعل عائد الاستثمار في الزراعة أقل من غيره من مجالات الاستثمار، فيدفعها ذلك إلى التخلص من الأرض بالبيع؟!

وحظيت مشكلة الديون العقارية بجانب من اهتمام الجماعة، ومريت غالي صاحب الدراسة التي أقرتها الجماعة؛ لما لهذه المشكلة من ارتباط وثيق بحيازة الأرض الزراعية، فالنظام المحصولي، واعتماد الإنتاج الزراعي على محصول واحد (القطن) جعل الفلاح في حاجة مستمرة إلى مصدر للائتمان الزراعي، وقد بُذلت محاولات تشريعية لتجنيب الفلاحين مغبة الوقوع بين براثن المرابين وتعرض أطيانهم للحجز عند العجز عن سداد الديون، كما قامت الحكومة بتبنِّي إنشاء بنك التسليف الزراعي (عام ١٩٣١م)، ولكن هذه المحاولات لم تُؤتِ أكلها، فعجز قانون الخمسة أفدنة الذي صدر قبل الحرب العالمية الأولى عن تجنيب الملكيات الصغيرة خطر الوقوع في أيدي المرابين الذين كان معظمهم من الأجانب وأقلهم من كبار الملاك المصريين؛ لعدم وجود مصدر ائتماني بديل عن الربا يُمد الفلاح بحاجته من القروض، كما فشلت تجربة بنك التسليف الزراعي؛ لأن مجال الاستفادة منه كان محدودًا، فلم ينتفع بقروضه سوى متوسطي الملاك؛ ولذلك ظلت مشكلة الائتمان العقاري حادة ومزمنة، وظل سيف انتزاع الملكية بسبب عدم الوفاء بالدَّين مسلطًا على رقاب صغار الملاك ومتوسطيهم على حد سواء.

ولما كانت جماعة النهضة القومية تَنشد بإصلاحها الزراعي إقامة نوع من التوازن بين الملكيات الزراعية، وتثبيت الملكيات الصغيرة، فقد كان لها رؤيتها لمشكلة الديون العقارية، ورأى مريت غالي أن حل المشكلة يجب أن يقع على عاتق الدولة، فتتوسط بين المدين والدائن، على أن يكون ذلك بطلب من المدين، تتفق الحكومة بموجب ذلك مع الدائن على تخفيف الدين المتجمد، وتعرض على المدين ثمنًا مناسبًا لأخذ جزء من أرضه بما يعادل مبلغ الدين بعد تسويته، فإذا قبل ذلك حلت محله أمام الدائن، وقامت بتسديد الدين، أما الأرض التي تحصل عليها الدولة بهذه الطريقة فتضم إلى المساحات الأخرى المخصصة للتوزيع على صغار المزارعين. ورأى في هذا الإجراء ضمانًا لعدم هبوط قيمة الأطيان، ولعدم تسربها إلى أيدي الأجانب، وأن يكون تدخل الدولة بموجب تشريع خاص يصدر لهذا الغرض.

وهنا نلاحظ صعوبة تحقيق هذا الاقتراح في ضوء الظروف السائدة عندئذٍ؛ فمعظم الملكيات الصغيرة كانت مرهونة لدى المرابين مقابل قروض حصل عليها صغار المزارعين، فإذا دخلت الحكومة وسيطًا — على فرض توفر الموارد المالية اللازمة — واشترت الأرض كان في ذلك ما يتناقض مع فكرة المحافظة على الملكيات الصغيرة وتثبيتها. ولعل مريت غالي كان يقصد حل مشكلة الدائنين من متوسطي الملاك وكبارهم، أما الشريحة الأولى فكانت تستفيد من التسهيلات الائتمانية التي يقدمها بنك التسليف الزراعي، وأما الشريحة الثانية فلم تكن تعاني كثيرًا من تلك المشكلة؛ إذ ساعدت الأرباح التي حققها كبار الملاك خلال الحرب على التخلص من الديون، وبذلك يُصبح الحل المطروح خاصًّا بالملكيات الصغيرة أساسًا، وهو ما يتنافى مع الهدف الأساسي للإصلاح الزراعي وهو العمل على تثبيت الملكيات الصغيرة ونشرها.

كذلك أدخلت الجماعة في تصورها للإصلاح الزراعي ضرورة تنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة، وخاصة أن صغار المستأجرين والعمال الزراعيين كانوا يمثلون وعائلاتهم — عندئذٍ — ثلثي الأمة المصرية، فإصلاح أحوالهم، ورفع مستوى معيشتهم من شأنه تحسين القوة الشرائية في السوق المصرية، وبذلك تروج سوق الصناعة المصرية في بعض الصناعات الاستهلاكية التي يزيد الطلب عليها عند الطبقات الشعبية كالمنسوجات، والأحذية، والأثاث المنزلي، وما إلى ذلك، التي لا يمكن أن تروج إلا إذا زاد الدخل عند هذه الطبقات، مما يخدم هدف توجيه رءوس الأموال إلى الاستثمار في الصناعة.

وقد لاحظ مريت غالي أن إيجارات الأطيان الزراعية كانت مرتفعة عن الحد المعقول إلى درجة أنها تكاد تعود على المالك بنفس الربح الذي تحققه الزراعة على الذمة، بل تزيد عنه في بعض الأحيان. ولما كان من المفروض أن يحظى المستأجر بقدر من الربح علاوة على ثمن عمله بعد تسديد قيمة الإيجار، وتكاليف الزراعة فإن الأمر يتطلب إرساء تأجير الأرض الزراعية على قواعد تحقق قدرًا من العدالة الاجتماعية.

كما لاحظ أن كثيرًا من كبار الملاك يؤجرون أطيانهم جملة أو في صورة قطع كبيرة المساحة، ويقوم المستأجرون الكبار بتجزئتها وتأجيرها لصغار المستأجرين مما يزيد من شقاء المستأجر الصغير. كما أن صغار المستأجرين لا يتمتعون بالاستقرار؛ لأن الإيجارات تعقد لسنة واحدة، وكثيرا ما تقتصر على زراعة واحدة، فلا يمكن أن يشعروا برابطة بينهم وبين الأرض التي يفلحونها، ولا يستطيعون الاعتماد على دخل ثابت.

لذلك استهدف إصلاح نظام تأجير الأراضي الزراعية توفير بعض الربح للمستأجر الصغير، وتحقيق قدر من الاستقرار له، وذلك عن طريق إصدار تشريع يضع حدًّا أعلى للمساحة التي يمكن تأجيرها؛ للحد من تأجير أراضي كبار الملاك جملة لشخص واحد، وأن ينص على أن يقتصر تأجير الأرض على من يفلحونها بأنفسهم، واقترح أن يكون الحد الأعلى للمساحة التي يتم تأجيرها عشرة أفدنة، فلا يُسمح لمالك بأن يؤجر أكثر من عشرة أفدنة لشخص واحد، كما لا يُسمح لشخص واحد أن يستأجر أكثر من عشرة أفدنة، كما يحظر على من يمتلك أكثر من عشرة أفدنة استئجار الأراضي الزراعية. على أن تُعقد الإيجارات لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات شمسية قابلة للتجديد ما لم يخطر أحد الطرفين الطرف الآخر بغير ذلك، على أن تكون المدة صافية، فلا تُحتسب إلا عند تسلُّم الأرض، ولا تنتهي بوفاة المالك ولا بوفاة المستأجر، بل ينتقل حق الإيجار إلى الورثة. أما قيمة الإيجار فيجب أن تُحسب على أساس الضريبة العقارية فلا يزيد الإيجار عن أضعاف معينة للضريبة المفروضة على الأرض. على أن تُعدَّل القيمة الإيجارية كلما حدث تغيير كبير في الظروف الاقتصادية، وأثمان الحاصلات الزراعية، ويحسن أن يُعاد تقدير الضريبة على الأطيان كل عشر سنوات بدلًا من مدة الثلاثين عامًا التي كان معمولًا بها عندئذٍ. ويتم تسجيل عقود الإيجارات حتى لا يُخل أحد الطرفين المتعاقدين بشروط التعاقد، وأن ينص القانون على فرض عقوبات صارمة على من يخالف شروط العقد.

ولعل تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة هو أهم ما تضمنه مشروع الإصلاح الزراعي كما طرحته جماعة النهضة القومية، وهم يتميزون به عن غيرهم ممن طرحوا أفكارًا خاصة بالإصلاح الزراعي، كما أن مطالبتهم بحماية العمل في الزراعة لم يسبقهم إليها غيرهم.

وتنطلق فكرة حماية العمل الزراعي عندهم من نفس الأساس الذي قامت عليه فكرة تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة، فالقصد منه رفع مستوى معيشة العامل الزراعي باتخاذ التدابير اللازمة لمنع تدهور أجور عمال الزراعة عن الحد المناسب، وتنقسم تلك التدابير — عندهم — إلى قسمين: أولهما قسم مشترك بين عمال الزراعة، وعمال الصناعة وهو المتصل بالناحية الاجتماعية، وثانيهما قسم متصل بالناحية الاقتصادية الخاصة بالزراعة.

أما عن القسم الأول؛ فقد طالبت الجماعة بأن تسري على العمال الزراعيين جميع تشريعات العمل التي صدرت، أو التي تصدر لتحديد التعويض عن إصابات العمل، أو لتنظيم العلاج من إصابات العمل، والتأمين الاجتماعي، أو غير ذلك من قوانين حماية العمل، ولا يُستثنى منها إلا ما يصعُب تطبيقه على العمل الزراعي بالتدابير والالتزامات الخاصة بإنشاء المساكن لعمال الصناعة، وتوفير وسائل الصحة، والنظافة، والراحة، والتسلية لهم، فيسري كل ذلك على معاملة أصحاب العزب الذين يجب أن يُعامَلوا كأصحاب المصانع فيما يتعلق بالعمال الزراعيين الذين يعملون عندهم. وهي فكرة تَقدُّمية إذا أخذنا في الاعتبار أن جميع التشريعات العُمالية تضمنت موادَّ تستثني عمال الزراعة من الخضوع لأحكامها بزعم أن العلاقة بين المالك والعامل الزراعي علاقة ذات طابع عائلي، فجاء اقتراح الجماعة لسد النقص في التشريع، ولكن يلاحظ أن مريت غالي أغفل قانون النقابات عندما عدَّد القوانين التي يجب أن تسري على عمال الزراعة، ويبدو أنه رأى في هذه الخطوة محاذير كثيرة لا يجب التورط فيها حتى لا ينفر كبار الملاك من الإقدام على تنظيم علاقات العمل في الزراعة، وخاصة أنهم كانوا يمثلون أغلبية أعضاء البرلمان، أو لعل هذا الموقف يرجع إلى عدم إيمان الجماعة بحق عمال الزراعة في تكوين النقابات.

أما عن القسم الثاني الخاص بعمال الزراعة، فهو وضع حد أدنى للأجور الزراعية، ولَمَّا كان الإنتاج الزراعي يتفاوت من منطقة إلى أخرى؛ لذلك يجب أن يكون هناك تحديدٌ للأجور الزراعية في كل مديرية على حدة، فتشكل لجنة خاصة في كل مديرية لتحديد الحد الأدنى للأجور الزراعية يُراجع في بداية كل سنة زراعية، على أن توضع قواعد خاصة تتبعها تلك اللجان في تقديراتها كي تكون على أسس واحدة، وتُكلَّف هيئة حكومية خاصة بمراقبة عمل هذه اللجان حتى لا تخرج عن الحدود المعقولة سواء في زيادة الأجور أو إنقاصها.

أما القواعد التي تتبعها اللجان في عملها فتتلخص في دراسة تكاليف الإنتاج، وأسعار الحاصلات الزراعية، ومتوسط أيام العمل، وتكاليف المعيشة، ثم الموازنة بين هذه العوامل كلها للوصول إلى الحد الأدنى للأجر الذي يراعي مصلحة العمال مع عدم الإخلال بمقتضيات الإنتاج الزراعي، ويقصد بذلك مصلحة الملاك الزراعيين أصحاب العمل. على أن يُراعى في تشكيل اللجان تمثيل جميع العناصر اللازمة فيها (بما فيها عنصر العمل) وأن تتوفر الضمانات لاستقلالها.

ويتوقف نجاح مثل هذا النظام — في رأي مريت غالي— على دقة الإشراف على اللجان، وعلى تربية الرأي العام اجتماعيًّا (أي على درجة الوعي الاجتماعي عند الملاك طبعًا)، وأيضًا على نوع العقوبة التي تُفرض على من يُخل بالقانون، وعلى الحزم في تطبيقها.

وقد تَبلوَرت فكرة الإصلاح الزراعي بصورة عملية في مشروع قانون الإصلاح الزراعي الذي تقدم به الدكتور إبراهيم بيومي مدكور — عضو مجلس الشيوخ — إلى البرلمان في فبراير ١٩٤٨م، وأصدرت الجماعة نصَّه ومذكرته الإيضاحية ضمن مطبوعاتها الصادرة عن دار الفصول.١٣

ويتَّفق مشروع القانون تمامًا مع ما جاء بكتاب مريت غالي «الإصلاح الزراعي» فيما عدا تحديد الحد الأدنى للملكية الزراعية الذي لا يجب أن تنخفض عنه، فعلى حين رأى مريت غالي أن ثلاثة أفدنة تمثل الحد الأمثل لتوفير المستوى المعيشي المعقول للأسرة الريفية، هبط مشروع القانون بالحد الأدنى إلى فدانين، وجاء بمذكرته التفسيرية أن تلك المساحة كافية لإعالة أسرة ريفية لو أُحسن استغلالها. واعتبرها وحدة ملكية غير قابلة للتقسيم، وأخذ بفكرة مريت غالي الخاصة بالتخارج بين الورثة، وحظر التنازل عن جزء من تلك الملكية أو التصرف فيها بالبيع، ونص على أنه في حالة عدم الاتفاق بين الورثة يُقدَّم أبناء المورث وبناته على من عداهم من الورثة، ويُقدَّم البنون على البنات، ويُقدَّم الأبناء الكبار على الصغار، والمشتغلون بالزراعة على غير المشتغلين بها.

وحَدد مشروع القانون الحد الأعلى للملكية بمائة فدان، وترك أمر التصرف فيما زاد على هذا الحد للملاك أنفسهم دون تدخل من جانب الدولة (على نحو ما جاء بكتاب مريت غالي)، ولكنه نص على ألا تتجاوز الملكية الفردية ثلثي مساحة زمام القرية، وترك للمالك أمر التخلص مما يزيد عن ثلثي زمام القرية خلال ثلاث سنوات على أن تُباع للأهالي في وحدات لا تتجاوز عشرة أفدنة للشخص الواحد وأعطى للدولة حق نزع ملكية المساحة التي تزيد على ثلثي الزمام في حالة انتهاء المهلة دون أن يتصرف المالك في الزيادة.

وفيما يتعلق بتحديد الإيجارات الزراعية نص المشروع على تحديدها باثني عشر مثلًا للضريبة المربوطة على الأطيان، ولما كانت أعلى ضريبة عندئذٍ جنيهين للفدان، فإن ذلك يعني أن أعلى إيجار للفدان سوف يكون أربعة وعشرين جنيهًا في السنة، ونص المشروع على ألا تقل مدة الإيجار عن ثلاث سنوات وأن تسجل عقود الإيجار، ونص على معاقبة المالك الذي يخالف أحكام القانون في هذا الصدد بغرامة لا تزيد عن عشرين جنيهًا عن كل فدان وقعت عنه المخالفة.

كذلك حدد مشروع القانون الحد الأدنى لأجر العامل الزراعي بعشرة قروش يوميًّا، ونص على معاقبة من يخالف ذلك من الملاك بغرامة لا تزيد على خمسة جنيهات، كما نص على ضرورة تعديل الحد الأعلى لإيجارات الأطيان، والحد الأدنى لأجر العامل الزراعي على أساس الرقم القياسي العام لأثمان الحاصلات الزراعية إذا حدث تغيير فيها بلغ متوسطه ٢٠٪ في مدة ستة شهور زيادة أو نقصًا عمَّا كانت عليه من قبل.

ويُلاحظ أن مشروع القانون أغفل تمامًا الأخذ بفكرة الضريبة التصاعدية على الأطيان الزراعية، كما أغفل النص على ضرورة خضوع عمال الزراعة لقوانين العمل فيما يتعلق بالخدمات، والتأمين ضد الإصابة، وغير ذلك من أمور، رغم أن هذين الأمرين ضروريان بالنسبة للإصلاح الزراعي كما رسم ملامحه مريت غالي، كما يلاحظ أن الغرامات التي نص المشروع على فرضها في حالة مخالفة أحكام القانون كانت هينة للغاية على كبار الملاك خاصة فهي لا تتجاوز عشرين جنيهًا في حالة مخالفة الإيجارات الزراعية للحد الأعلى المقرر، ولا تتجاوز خمسة جنيهات في حالة مخالفة الأجور الزراعية للحد الأدنى المقرر، هذا إذا فرضنا أن المستأجِر أو الأجير — وهو الطرف الضعيف في العلاقة الإنتاجية — سوف يجرؤ على إبلاغ السلطات بتجاوز المالك للقانون، ويضحِّي بذلك باستقراره، وبعمله، وربما بحياته، إذا أخذنا في الاعتبار ما كان يتمتع به الملاك الكبار من سطوة في الريف المصري عندئذٍ.

ولعل إغفال النص على فكرة الضريبة التصاعدية، وخضوع عمال الزراعة لقوانين العمل كان يقصد به إقناع أعضاء البرلمان بالمشروع وتشجيعهم على تمريره، وخاصة أنه كان رفيقًا بهم إلى حد كبير، ورغم ذلك لم يحظَ المشروع بموافقة البرلمان، فكان لا بد من ثورة لتحقيق الإصلاح الزراعي، وحل المسألة الاجتماعية حلًّا جذريًّا.

ويعلل إبراهيم مدكور نجاح ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م بفشل البرلمان، والهيئات السياسية في إيجاد حل للمسألة الاجتماعية على أسس إصلاحية.١٤

نحو اقتصاد مصري مستقل

كان من أهم الأفكار التي طرحتها جماعة النهضة القومية فكرة تصحيح مسار الاقتصاد المصري في الاتجاه نحو الاستقلال، وتقوم هذه الفكرة على فك الارتباط بين الاقتصاد المصري، والاقتصاد البريطاني المهيمن على اقتصاديات مصر بتحقيق الاستقلال المالي عن بريطانيا من ناحية، وتنويع مصادر الدخل القومي بالاتجاه نحو التصنيع من ناحية أخرى، وكذلك دخول رأس المال المصري في ميدان التجارة، وسوق الأوراق المالية؛ لزحزحة الأجانب من المواقع التي اكتسبوها على مدى قرن من الزمان (منذ منتصف القرن التاسع عشر) تمهيدًا لتمصير هذا القطاع الاقتصادي الهام.

وعبرت الجماعة عن هذه الأفكار في اجتماعاتها فخصصت أربع جلسات لمناقشة هذا الموضوع، كما تضمنت مطبوعاتها دراسة عن البنك المركزي أعدها الدكتور أحمد إبراهيم، ودراسة عن الأرصدة الإسترلينية أعدها سُنِّي اللقاني وكيل وزارة المالية وعضو الجماعة، وكانت خطتها تتضمن إعداد دراسة عن الصناعة أُسنِد أمر تأليفها إلى محمد رشدي، ولكن لم يُقدَّر لها الصدور، ونشر بعض أعضائها عددًا من المقالات حول هذا الموضوع بمجلة الفصول.

على أن مناقشات الجماعة حول توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال بُنيت على أساس ورقة عمل لم تقع في أيدينا كتبها محمد علي الغتيت لهذا الغرض، وقد وقفنا على خطوطها الرئيسية من سجل محاضر اجتماعات الجماعة، وتتضمن مشكلات محددة هي: الاحتكار، والائتمان الصناعي، وعلاقة الجنيه المصري بكتلة الإسترليني، وديون مصر لدى بريطانيا، والبنك المركزي.

والمشكلتان الأخيرتان تمثلان حجر الزاوية في فكرة الاستقلال الاقتصادي عند الجماعة، فهم ينظرون إلى المسألة من زاوية تبعية النقد المصري للإسترليني، وسيطرة البنوك الأجنبية على سوق الائتمان، وهي زاوية ضيقة تنظر إلى بعض ظواهر القضية الأساسية وهي تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد الرأسمالي العالمي، تلك التبعية التي نصبت شباكها على الاقتصاد المصري منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما تحولت مصر إلى بلد متخصص في إنتاج مادة أولية أساسية للصناعة الأوروبية عامة، والإنجليزية خاصة هي القطن، وعندما كُبِّلت الدولة بالديون المالية للبنوك والبيوت المالية الأجنبية، وترتب على ذلك تطور هيكل الاقتصاد المصري بصورة جعلته اقتصادًا تابعًا للرأسمالية العالمية لا يملك من أسرها فكاكًا، وجاء ارتباط النقد المصري بالإسترليني نتاجًا لهذه التبعية التي بلغت ذروتها بالسيطرة السياسية الأجنبية على مقدرات البلاد من خلال الاحتلال البريطاني. ولذلك كان توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال يقتضي إدخال تغيير جذري على البنية الهيكلية للاقتصاد المصري يرتكز على تحقيق التنمية الاقتصادية الذاتية، عندئذٍ يكون فُك ارتباط العملة المصرية بكتلة الإسترليني، وتسوية الديون المصرية في ذمة بريطانيا نتاجًا لهذه التغيرات الهيكلية في بنية الاقتصاد المصري.

على كلٍّ ركزت جماعة النهضة القومية اهتمامها على إقامة بنك مركزي كركيزة للاستقلال الاقتصادي، ودعامة أساسية للاقتصاد القومي، يتولى إصدار العملة، ويراقب سعر الفائدة، ويهيمن على السوق المالية في جملتها، ولَمَّا كان البنك الأهلي المصري يلعب دور بنك الإصدار فإنه يصلح لأن يكون بنكًا مركزيًّا للدولة يخضع لرقابتها وإشرافها مع احتفاظه بهيئة فنية وإدارية مستقلة تنأى به عن الوقوع في فخ الروتين الحكومي.١٥
ولكن البنك الأهلي المصري — كما لاحظت الجماعة — لا يستطيع أن يلعب هذا الدور طالما كان رأسماله أجنبيًّا، وما دام لا يخضع لرقابة الدولة، فلا بد من تغيير وضعه لو أريد له أن يكون بنكًا مركزيًّا. وهنا لا تطرح الجماعة فكرة التمصير أو التأميم، ولا تدور هذه الفكرة في أذهان أعضائها حتى في اجتماعاتهم المغلقة، وإنما تتبنى أفكارًا توفيقية تهدف إلى تحقيق هذه الغاية على المدى البعيد، فرأت أن تشتري الحكومة أسهم البنك كلها أو بعضها تدريجيًّا، أو أن تشتري بعض الأسهم التي يعرضها أصحابها للبيع ولا يتقدم المصريون لشرائها، وأن تبيعها لهم كلما تهيأت أمامهم ظروف الشراء، أو أن يزيد البنك الأهلي المصري رأس ماله، ويصدر مقابل ذلك أسهمًا جديدة تُعطى للحكومة نظير جزء من الفائض الناتج عن إعادة تقدير رصيد الذهب، وبذلك تصبح الحكومة شريكة في رأس المال، ويكون لها من الأصوات في الجمعية العمومية ما يمكنها من المشاركة في إدارة البنك وتوجيهه وفقًا لما تقتضيه المصلحة المصرية وحدها، وكلها أفكار طُرِحت من قبل في مجلس النواب، والشيوخ عند النظر في مدِّ امتياز البنك الأهلي المصري عام ١٩٤١م.١٦
فتمصير البنك يمكن أن يتحقق تدريجيًّا — في رأي الجماعة — عن طريق زيادة نصيب الحكومة في رأسماله دون أن يصل الأمر إلى حد التأميم حتى لا تكون مقاليد أمور البنك المركزي «في أيدي الحكومة وحدها، ذلك أن شئون النقد والائتمان ذات حساسية كبرى، وتحتاج إلى فن ومِران، وحسب الإدارة الحكومية ما هو ملقى عليها من أعباء.»١٧ ورأت أن يكون البنك المركزي شركة مساهمة للحكومة نصيب من أسهمها، كما يجب أن تكون البنوك التجارية المصرية شريكة أيضًا في رأس مال البنك وإدارته. وتُعدَّل طريقة إصدار النقد فتتخذ سندات الحكومة المصرية أساسًا للنقد بدلًا من أذون الخزانة البريطانية، وأن تصدر الحكومة تشريعًا يلزم البنوك التي تعمل في مصر بالاحتفاظ في البنك المركزي برصيد يتناسب مع قيمة تعهداتها (٥٪ من التعهدات تحت الطلب و٣٪ من التعهدات الآجلة) وذلك كي يَتسنَّى للبنك الرقابة والإشراف على تلك البنوك، على أن يكون للبنك المركزي — بالاتفاق مع الحكومة — الحق في تعديل هذه النسبة في حدود معينة، واتخاذ ذلك وسيلة للتأثير في السوق المالية. وبذلك يستطيع البنك الأهلي المصري — بعد تحويله إلى بنك مركزي — أن يؤدي وظيفته كمنظم للائتمان، وأن يحافظ عليه، وبخاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والمالية، وأن يهدف من خلال ذلك إلى المحافظة على مستوى الأسعار، والحد من تقلباتها، وأن يكون سندًا للبنوك الأخرى في أوقات الشدة.١٨

ونلاحظ هنا طابع التردد والحذر الذي اتسمت به آراء الجماعة الاقتصادية والاجتماعية، فهي تريد بنكًا مركزيًّا، ثم تجرد الدولة من الإمكانيات التي تتيح لها فرصة توجيهه، فالدولة تدخل في عداد المساهمين بما لها من حصة في أسهمه، وهي شريكة في إدارته لها نفس ما للبنوك التجارية المساهمة في رأس مال البنك من نفوذ، فكيف تستطيع الحكومة — إذًا — توجيه البنك والإشراف عليه، ولرأس المال الخاص مصالح ممثلة في البنك بقدر قد يتجاوز مصالح الدولة نفسها؟ لقد كانت الجماعة تؤمن بالليبرالية، ولكن مفهومها لليبرالية كان يمثل ليبرالية القرن التاسع عشر عندما كان الفكر الاقتصادي الليبرالي يرى أن اشتغال الحكومة بالاقتصاد يفسده ويضع قيودًا على حرية رأس المال في الحركة، ولعل الجماعة اتخذت هذا الموقف من باب التحرك على طريق الإصلاح «بتؤدة وروية» كما جاء في أدبياتها.

وينسحب نفس الرأي على موقف الجماعة من مشكلة الأرصدة الإسترلينية التي ترجع أصولها إلى الحرب العالمية الأولى عندما أخطر بنك إنجلترا البنك الأهلي المصري عام ١٩١٦م بأن ضروريات الحرب جعلت تقديم الذهب كضمان للنقد المصري أمرًا مستحيلًا، وطلب أن يستبدل بالذهب أذون الخزانة البريطانية، ولما كانت تلك الأذون لا تدفع بالذهب وإنما بالجنيهات الإسترلينية الورقية، فقد أصبح أساس النظام النقدي المصري بالجنيه الإسترليني الورقي، وهو ما يطلق عليه نظام الصرف بالإسترليني. وعملت بريطانيا على تغطية نفقات المجهود الحربي خلال الحربين العالميتين بإصدار المزيد من النقد المصري،١٩ مما جر الاقتصاد المصري إلى الوقوع في مأزق التضخم الذي عانت منه بريطانيا خلال الحربين العالميتين والحقبة الواقعة بينهما، وجعل وقع الكساد العالمي أليمًا على مصر، كما أدَّى إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري نتيجة اتباع نظام سعر الصرف الثابت للجنيه المصري بالجنيه الإسترليني (٩٧٫٥ قرشًا) مما كان له أثره السيئ على قيمة الصادرات والواردات المصرية. كما تراكم للخزانة المصرية استحقاقات مؤجلة لدى الخزانة البريطانية تُمثِّل قيمة السلع والخدمات التي حصلت عليها القوات البريطانية، وقوات الحلفاء خلال الحربين العالميتين، وكذلك قيمة الفرق بين سعر الصرف الثابت للجنيه الإسترليني، وسعره الحقيقي في السوق العالمية الذي كان يَقل كثيرًا عن السعر الثابت، وقُدِّر هذا الدَّين بحوالي ٤٥٠ مليون جنيه مصري.٢٠
وأوْلت الجماعة مشكلة الأرصدة الإسترلينية اهتمامًا خاصًّا، فناقشتها في اجتماعاتها على مدى جلستين، وانتهت إلى أن «ليس ثمة مجالٌ للتفكير في فصل الجنيه المصري عن الإسترليني، والواجب قبل كل شيء تصفية موضوع الأرصدة الإسترلينية ووسيلة ذلك طريقة التبادل التجاري العادية، على أن نستورد من إنجلترا ما نحن في حاجة إليه بالثمن المناسب وفي الوقت الملائم، وفي حل هذه المشكلة ما يعين على حل مسائل مالية أخرى.»٢١ وأنه يجب أن يفسح المجال تدريجيًّا للأوراق المالية الثابتة (سندات الخزانة المصرية) في غطاء أوراق النقد المصري، مع وقف حركة الإصدار النامية في اطراد، وإن كان لا بد منها، فليكن ذلك على أساس غطاء من سندات مصرية تصدرها الخزانة المصرية، وذكرت الجماعة أنها اهتدت إلى هذا الرأي «بعد استشارة كبار الماليين».٢٢

ويلاحظ هنا أن الحل الذي اقترحته الجماعة يتوقف على قبول السلطات البريطانية التي وقفت — في المفاوضات التي دارت خلال الفترة — موقف المماطلة على زعم أن معظم هذه الديون وهمية؛ لأنها ذهبت إلى أفراد وهيئات مصرية لقاء خدمات بُولغ في تقدير قيمتها، وطالبت الحكومة المصرية بالتنازل عن نحو نصف الدَّين للاعتراف بالنصف الآخر. فكيف — إذًا — تتمكن مصر من استيفاء حقوقها الضائعة عن طريق التبادل التجاري؛ أي استيراد ما تحتاجه من سلع مقابل ما لها من أرصدة إسترلينية طرف الحكومة البريطانية؟ وحتى لو وافقت بريطانيا على ذلك — وهو أمر مستحيل الحدوث — فإن السلع التي تستوردها مصر سوف تتولى بريطانيا تحديدها وتحديد أسعارها، فضلًا عن إلزام مصر باستيراد ما تحتاجه من السوق البريطانية وحدها، وحرمانها من التعامل مع السوق العالمية، مما يزيد من إحكام روابط التبعية الاقتصادية، ويجعل الاستقلال الاقتصادي بعيد المنال.

وانتهت جماعة النهضة القومية إلى صياغة ما أسمته بقرار الاستقلال المالي على النحو التالي:٢٣

«لا سبيل إلى الاستقلال الاقتصادي إلا إذا اكتمل استقلالنا المالي، ومن أهم وسائل ذلك قيام بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة يهيمن على السوق المالية.» وبذلك أغفلت الجماعة قضية استقلال العملة المصرية عن دائرة الإسترليني التي كانت تمثل أكثر قيود التبعية ثقلًا ووطأة.

وفي مجال الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي أوْلت جماعة النهضة القومية الصناعة اهتمامًا خاصًّا، فذهبت إلى أنه رغم بقاء الزراعة دعامة اقتصاد مصر القومي، فإن شروط إقامة الصناعة متوفرة في مصر وتتمثل في: وفرة المواد الأولية وعلى رأسها الحاصلات الزراعية، ووفرة الأيدي العاملة مع الاعتماد على الخبرة الفنية الأجنبية، ووفرة رءوس الأموال لدى المصريين، إلى جانب فتح الباب أمام رءوس الأموال الأجنبية الراغبة في الاستثمار في مجال الصناعة بعد ما أصبح لا يُخشى ضررها بعد إلغاء الامتيازات، كذلك تتوفر بمصر مصادر الطاقة التي يمكن توليدها من خزان أسوان، ومن مصادر مصر البترولية، فالصناعة «من جانبٍ سبيل إلى إنهاض الاقتصاد القومي، ومن جانبٍ آخر وسيلة للترفيه عن عامة الشعب من المستهلكين.» بتوفير ما يحتاجون إليه، كما أنها تعمل على رفع مستوى المعيشة بما تتيحه من فرص العمل، وتفسح المجال أمام تنشيط التجارة، بما يعود من وراء ذلك كله من فوائد على الاقتصاد القومي.

ورأت الجماعة أن الحكومة تُعدُّ مسئولة عن تحقيق هذا الهدف فعليها أن تنشئ هيئة خاصَّة للتصنيع تُوجِّه النشاط الصناعي عن طريق تقديم الإحصاءات والدراسات الشاملة، وتُوجِّه الصناعات الوجهة التي تخدم الاقتصاد القومي، فتحُول دون قيام صناعات لا تتوفَّر لها عوامل البقاء والاستمرار، وتراقب المنتجات الصناعية من حيث الجودة ومستوى الإنتاج. كذلك على الدولة أن تقوم وحدها بتنفيذ المشروعات الخاصة بتوليد الطاقة الكهربية على أن توفِّرها بسعر التكلفة دون مراعاة لمبدأ الربح، وتعمل على تيسير سبل النقل والمواصلات، وتتولَّى إقامة المشروعات الخاصة بها.٢٤

كذلك يقع على عاتق الحكومة تشجيع بعض الصناعات الناشئة بإعفائها من الضرائب، أو تخفيفها لمدة معينة حتى تقف على أقدامها، ولاحظت الجماعة أن إعفاء الصناعة الناشئة من الضرائب معيب من عدة وجوه، فهو يتنافى مع المبادئ الديمقراطية «الليبرالية»؛ لأنه ينبغي أن يكون الممولون جميعًا أمام الضرائب سواء، كما أن الإعفاء يسمح بالتمييز والتفرقة والاستثناء، وهو أمر لا يجوز اتباعه بأية حال، غير أن هذا الإعفاء يكون إعفاء نظريًّا؛ لأن الصناعة لا تدفع ضريبة إلا مقابل ما تحققه من أرباح، ومتى حققت أرباحًا وجب خضوعها للضريبة.

ووقفت الحكومة موقفًا مشابهًا من فكرة الحماية الجمركية فرأت عدم الأخذ بها؛ لأنها تتعارض — في رأيها — مع «ما قد يقتضيه التعاون الدولي الصحيح من تخفيف القيود والحواجز بين الدول»، ولتأثيرها على هدف خفض تكاليف المعيشة لدى عامة الشعب تأثيرًا سلبيًّا، فلا فائدة تُرجى من وراء حماية جمركية لمصنوعات يتطلبها الاستهلاك الشعبي، «وإلا هدمنا فكرة رفع مستوى المعيشة وقضينا على الغرض الأسمى وهو تيسير سبل العيش لدى عامة الشعب.»٢٥
وهكذا تريد الجماعة بناء صناعة، ثم تتركها نهبًا للمنافسة الأجنبية التي لا تقوى عليها صناعة ناشئة تمسكًا بأفكار ليبرالية تنتمي إلى القرن التاسع عشر، ترى في حماية الصناعة الوطنية قيودًا وحواجز بين الدول. ورغم تعليقها أهمية على دور الدولة فتلزمها بالاضطلاع بعبء مشروعات توفير الطاقة، والنقل والمواصلات إلا أنها تحرص على إبقاء الدولة بعيدة عن ميدان الصناعة «فتجربتنا لا تؤذن بصلاحيتها أن تكون صانعة.» وذلك فيما عدا مجال الصناعات الحربية الخاصة بإنتاج العتاد والذخيرة.٢٦
أما عن قضية توفير مصادر الائتمان الصناعي فكانت فكرة الجماعة عنه غامضة لم تُوفَّ حقها من الدراسة، فهي ترى ضرورة إقامة بنك صناعي لهذا الغرض، ولكنها لا تقدم تصورًا لكيفية إقامته، وإنما حرصت على أن تضع تحفظًا بشأنه نصَّت فيه على أنه «ينبغي أن نتَّقي في إنشائه أخطاءنا في بنك التسليف الزراعي، فلا نجعل لمموليه من الأفراد والهيئات الكلمة العليا في توجيه سياسته ونظامه … ولهذا ينبغي أن تكون الحكومة هي الموجه الأول في التسليف الصناعي.»٢٧ ولكن الجماعة لا تقدم تصورها لكيفية إنشاء البنك، وحجم مساهمة الحكومة فيه، والدور الذي يجب أن يلعبه في خدمة الصناعة الناشئة.

أما عن مشكلة احتكار الأجانب الاشتغال بتجارة مصر الخارجية وسوق الأوراق المالية، فرأت الجماعة أن حل هذه المشكلة يأتي تدريجيًّا — أيضًا — عندما ينفر أصحاب رأس المال من المصريين من استثمار أموالهم في الزراعة، ويطرقون أبواب مجالات الاستثمار الأخرى، وبالتالي يزاحمون الأجانب في ميادين التجارة، وسوق الأوراق المالية حتى تنتقل مقاليدها إلى أيديهم. ولم تقدم الجماعة تصورًا لكيفية تصفية الاحتكارات التجارية الأجنبية بهذه الطريقة السلمية الوئيدة.

على كلٍّ، كانت جماعة النهضة القومية تنشد استقلالًا اقتصاديًّا يقوم على إصلاح بعض جوانب الاقتصاد المصري دون اتخاذ موقف محدد من قضية التبعية الاقتصادية التي غابت عنهم تمامًا على ما يبدو من مضابط اجتماعاتهم ومن أدبياتهم، بينما نجدها ماثلة في أذهان من قدموا نماذج أخرى للنقد الاجتماعي، فنجد يسار الوفد ممثلًا في «صوت الأمة» واعيًا تمامًا لقضية التبعية التي اعتبرها استعمارًا اقتصاديًّا يربط الاقتصاد المصري بعجلة الاقتصاد البريطاني.٢٨ كذلك كانت الجماعات الماركسية التي ظهرت في الأربعينيات واعية تمامًا بهذه المشكلة، وإن لم تقدم بدورها تصورًا لحلها.

وإذا كانت الجماعة قد جعلت للدولة دورًا أساسيًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المنشود، فإن الأمر كان يتطلب — بالضرورة — إعادة تنظيم الإدارة الحكومية على أسس جديدة تؤهل الدولة للعب دورها في تنفيذ ومتابعة خطة الإصلاح. ومن هنا كان اهتمام جماعة النهضة القومية كبيرًا بإصلاح أداة الحكم واعتبارها أساسًا لإقامة نظام جديد، وحياة جديدة.

إصلاح الأداة الحكومية

ولَمَّا كانت جماعة النهضة القومية، قد أفردت للدولة دورًا هامًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المقترح جعَلها محورًا له، فقد كان حجر الزاوية عندهم إصلاح أداة الحكم بما يكفل للأداة الحكومية القدرة على الاضطلاع بالدور المطلوب منها أداؤه، ويضمن للنظام السياسي الليبرالي القائم القوة والثبات.

وجاءت تصورات الجماعة لأداة حكومية قوية راسخة في كتاب فريد في بابه يُعدُّ من أهم الأدبيات السياسية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، ألَّفه إبراهيم بيومي مدكور، ومريت غالي، وهو من أعمق البحوث والدراسات التي صدرت عن الجماعة، وقد صدر هذا الكتاب بعنوان «الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة» في طبعة خاصة على الإستنسل في أكتوبر عام ١٩٤٣م، ولم يتجاوز عدد النسخ التي طُبعت ١٤٠ نسخة وُزعت على بعض الساسة والبرلمانيين وأصدقاء المؤلفين، وقد دفعهما إلى ذلك وجود الرقابة، واعتراضها على الكثير مما جاء بالكتاب عندما حاول المؤلفان نشره وتقدما به إلى الرقابة. وعندما رُفعت الرقابة على المطبوعات لفترة قصيرة في أعقاب إقالة حكومة الوفد، نشر المؤلفان الكتاب في سبتمبر ١٩٤٥م وصدر عن دار الفصول، ويقع في ٣٣٩ صفحة من القطع المتوسط.

والكتاب تعميق وتفصيل للآراء والأفكار التي أوردها مريت غالي في الباب الأول من كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» الذي صدر عام ١٩٣٨م، وأُعيدت طباعته عام ١٩٤٤م الذي تناول فيه إصلاح مسار التجربة النيابية الليبرالية، والسلطة التنفيذية. وإن كان الكتاب الأخير (الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة) أكثر شمولًا في تناوله للنظام السياسي والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، اتبع فيه المؤلفان منهجًا يقوم على توصيف المشكلة، وتشخيص داء النظام السياسي والإداري والقضائي، ثم اقتراح العلاج الذي يتصوران أن فيه شفاء الداء، وإبراء التجربة الليبرالية مما تعانيه من وهن وضعف.

وهما يصدران الكتاب بمقدمة يؤكدان فيها أن العلاج لن يكون ناجحًا إلا إذا تم «تكوين رأي عام يقظ حول مبادئ صريحة ومقترحات واضحة.» وهو ما اهتم المؤلفان بتقديمه في كتابهما وعقدا الأمل على أن يتبناه «رأي عام يقظ» من المثقفين، فهم الشريحة التي وجهت إليها جماعة النهضة القومية أفكارها وسعت إلى كسب تأييدها لآرائها.

فهما يران أن ليس ثمة نهوض اجتماعي متين، وأن ما ينشدانه من إصلاح اجتماعي واقتصادي «لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وُكل إلى منفذين صادقين ومطبقين مخلصين»، وأنهما لذلك اتجها نحو الأداة الحكومية باعتبارها الوسيلة الأولى لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية، والاجتماعية المنشودة.٢٩ وحذَّرا من أن أحوال الأداة الحكومية قد وصلت إلى حد من السوء يجعل الحاجة ماسَّة إلى تغييرها؛ خشية أن يأتي التغيير على أيدٍ لا تنطلق من موقع التجربة الليبرالية، أو على حد تعبيرها: «إن سير الأعمال الحكومية قد وصل إلى حد إن لم نغيره ونبدله بأنفسنا، فأخشى ما أخشاه أن نسلِّم بتبديله على أيدي غيرنا.»٣٠ فهما هنا يدقَّان ناقوس الخطر، ويحُذران من ثورة تطيح بالنظام، مما يدل على عمق وعيهما السياسي والاجتماعي والطبقي أيضًا، ويعيد إلى أذهاننا ذلك التحذير الذي أطلقه مريت غالي في كتابيه «سياسة الغد» و«الإصلاح الزراعي»، فدعا في الكتاب الأول البورجوازية المصرية إلى تقديم «بعض التضحيات»، ضمانًا لاستمرار مصالحهما، وحذَّر في الكتاب الثاني من إمكانية قيام ثورة تفرض الإصلاح على نحو يضر بمصالح البورجوازية.

وللأداة الحكومية — في رأي المؤلفين — مهمتان رئيسيتان: رقابة وتوجيه يضطلع بها البرلمان والوزراء، وعمل وتنفيذ يقوم بهما الموظفون، فلها جانبان أحدهما سياسي والآخر إداري؛ لذلك انقسم الكتاب إلى بابين متعادلين تقريبًا خُصص كل منهما لعلاج أحد الجانبين بدءًا بالجانب السياسي.

فقد أصبحت الشئون العامة — في رأيهما — من التشعب والتعقد بحيث تستلزم رقابة وتوجيهًا مستمرين، ويقضي النظام النيابي بأن يوكل ذلك إلى البرلمان أولًا، والوزراء ثانيًا الذين هم في الحقيقة مجموعة منحها البرلمان ثقته، وأنابها عنه في تعهد الشئون العامة، والإشراف عليها.٣١

وإذا كان النظام النيابي في مصر يعتمد على دستور يُعدُّ من أحدث الدساتير، وأحكمها صياغة وتحريرًا، إلا أنه مع ذلك قد تحفَّظ في سيره، وصادفته أزمات كادت تودي به، فعُطل الدستور ثلاث مرات في أقل من عشر سنوات، وقامت محاولة لإحلال دستور آخر محله. وخلال إحدى وعشرين سنة حُل مجلس النواب سبع مرات، ومجلس الشيوخ ثلاثًا، ولم يستكمل برلمان واحد كل أدوار انعقاده.

ويرى المؤلفان أن هذه الأزمات في جملتها ترجع إلى عوامل ثلاثة رئيسية: غموض في الدستور، وخطأ في تطبيقه، ونقص في التربية القومية.

فقد ترك الدستور «أهم نقطة في الحكم النيابي دون أن يحددها التحديد الكافي مثل سلطة الوزراء، وصِلتهم بالشعب ممثَّلًا في نوابه من جهة، وإشرافهم على ما يؤدي إليه من خدمات عن طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى، كما أجمل إجمالًا مخلًّا في بيان موقفهم من رئيس الدولة ومليك البلاد.» واكتفى بأن يصوغ ذلك في عبارات غامضة تحتمل كل تأويل؛ فالسلطة التنفيذية يتولاها الملك (وفق المادة ٢٩)، وهو يتولى سلطته بواسطة وزرائه (المادة ٤٨)، وهو الذي يعين الوزراء ويقيلهم (المادة ٤٩)، ورغم ذلك التركيز للسلطة في يد الملك نجد الدستور ينص على أن مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة (المادة ٥٧)، وأن الوزراء مسئولون متضامنون أمام مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة، وكل منهم مسئول عن أعمال وزارته (المادة ٦١). فهذا التناقض في الدستور يمس أركان النظام النيابي كالفصل بين السلطات، وتحديد المسئولية الوزارية. وقد ترتب على هذا خلاف وأزمات عدة، يمكن أن تُلخص في أن الوزارة اعتمادًا على مسئوليتها أمام البرلمان تريد أن تستأثر بكل سلطة، في حين أن رجال السراي يرون في نصوص الدستور ما يحد من هذه السلطة.٣٢
وفوق هذا لم يكن هناك توفيق في تطبيق المبادئ الدستورية التطبيق السليم، ففُسِّرت على غير وجهها، وزُورت الانتخابات وأُهدرت الأغلبية مؤيِّدة كانت أو معارِضة، فإن كانت مؤيِّدة اُستبيح باسمها ما لا يُستباح، وإن كانت معارِضة لم يُعتَد برأيها، واعتُدي على الأداة الحكومية، فعُطِّل سيرها، وتضاءل إنتاجها، وامتد هذا العدوان إلى «حقوق الوطن المقدسة» فأُتيح للإنجليز أن يتدخلوا في شئون مصر بعد أن أعلنوا بُعدهم عنها.»٣٣

وأخيرًا يستدعي النظام النيابي تربية شعبية خاصة، وتكوين رأي عام مستنير، ولكنْ بدلًا من أن يعمل الساسة على تنوير الرأي العام عمَدوا إلى تضليله، وبدلًا من تربية الشعب أفسدوه عندما أضحت استشارة الأمة ضربًا من المساومة، وسوقًا لها سماسرتها ووسطاؤها الذين يَبتزُّون المرشحين والناخبين على السواء، وكانت الانتخابات مجالًا فسيحًا للسباب، والمُهاترة، وسوقًا رابحة لبيع الضمائر والذمم. وأضحت الحزبية تحزبًا أعمى للأشخاص وليس للعقائد والمبادئ، عمادها التضليل والمغالطة، وغايتها المحاباة والمحسوبية. وجاءت البرلمانات مَعيبة في نواحٍ عديدة، في كفاية أعضائها، وحسن اختيارهم، واستقلالهم، ومدى اعتدادهم بآرائهم.

ورأى المؤلفان أن «النظام النيابي» الصالح «هو الذي يعتمد أولًا على حكومة قوية مستقرة، ويصدر ثانيًا عن سلطة شعبية محترمة … ولا يمكن أن تكون الحكومة النيابية قوية إلا إذا اعتمدت على أغلبية صحيحة، واضطلعت بكل الأعباء الملقاة على عاتقها، ويجب أن تكون مسئولة أمام هذه الأغلبية دون أن ترجع إلى سلطة أخرى.» ولذلك طالَبَا بوضع حد لإقالة الوزارات التي تتمتع بثقة الأغلبية، وحينذاك يصبح الوزراء مسئولين أمام ممثلي الشعب وحدهم.٣٤

ومن هذا التشخيص لأمراض النظام الليبرالي في مصر، ينطلق المؤلفان إلى رسم خطة العلاج، فلا بد من تفسير المادة ٤٨ من الدستور التي جاء فيها «الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه.» تفسيرًا يقضي بحصر السلطة التنفيذية في أيدي الوزارة وحدها المسئولة أمام البرلمان وحده. كذلك ينبغي تعديل المادة ٤٩ من الدستور التي تقول بأن «الملك يعين وزراءه ويقيلهم» بحيث يراعي في هذا التعيين أو الإقالة رغبة الأمة، وإرادتها الممثلة في البرلمان، مع تعديل المادة ٣٨ التي تعطي الملك حق حل البرلمان ولا يسمح بتطبيقها إلا إذا أصبحت أغلبية المجلس لا تمثل الأمة، والحد من الاستفتاء عند كل أزمة وزارية ما دام رأي الأمة في الأغلبية لم يتغير.

وكذلك يجب تحديد مهمة الوزير البرلماني بنص الدستور؛ كي تسير السلطة الإدارية سيرًا مطردًا لا يعوقه عُدوان السلطة السياسية، والحد من صلاحيات الوزارة الخاصة بإصدار قوانين بمراسيم في فترة عدم انعقاد البرلمان؛ لتظل للأخير سلطته التشريعية.٣٥
ولا بد أن يكون النواب طليقين من كل قيد، بعيدين عن كل تأثير، لا يدينون لأحد في مهمتهم إلا للأمة التي أقامتهم رقباء على تدبير شئونها المختلفة، ومن ثم يجب تحديد الدوائر الانتخابية بقانون لا يقبل التعديل، ووضع الإشراف على الانتخابات في يد هيئة قضائية مستقلة، ورد الفصل في الطعون في صحة العضوية إلى المحاكم وليس إلى المجالس النيابية.٣٦
كما يجب تقليل عدد ممثلي الأمة برفع نسبة التمثيل البرلماني، وتقليل عدد ممثلي الأمة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، بحيث تشتمل دائرة النواب على مائة وعشرين ألفًا من السكان ودائرة الشيوخ على ثلاثة أمثال ذلك.٣٧ على ألا يُرشح شخصان ينتميان إلى حزب واحد في دائرة واحدة، ولا يُسمح بترشيح شخص واحد في أكثر من دائرة، ولتكن الكفاية، والمواهب الشخصية، والشعور بالمصلحة العامة هي المعيار في تقديم مرشح على آخر. ولا بد من صدور تشريع خاص ينظم الدعاية الانتخابية، ويحول دون ما يصاحبها من مُهاترة وسباب، أو رشوة وإسراف.٣٨
كذلك يجب تدعيم المجالس القروية والمحلية وإنعاشها؛ كي يُربى الشعب جميعه تربية ديمقراطية مباشرة، ويصبح للأقاليم استقلال يحول دون طغيان الحكومة المركزية عليها.٣٩
ولاحظ المؤلفان أن الأحزاب القائمة — عندئذٍ — «لم تولد تحت ضغط الحاجة وتأثر الظروف الاجتماعية، بل على العكس بعضها وليد الخلافات الشخصية، وبعضها الآخر إنما جاء؛ تلبية لرغبات خاصة أو تحقيقًا لميول جماعة تتنافس في مضمار النفوذ والسلطان.» ورأَيا أن يكون للأحزاب برامج تعالج الواقع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي تطرحها على الشعب لتكون المفاضلة على أساس البرامج لا الشخصيات، وتنبآ بأن الفترة التي تعقب الحرب العالمية الثانية سوف تشهد قيام أحزاب جديدة، وحياة حزبية جديدة تعتمد على برامج ثابتة، وخطط واضحة، ورأَيا أن ما يحتاجه النظام النيابي لكي يسير سيرًا مجديًا قيام حزبين رئيسيين، يتبادلان الحكم فيما بينهما، يشرف كل منهما على الآخر ويراقبه مراقبة نزيهة فعالة.٤٠

والرقابة والتوجيه ليسا مقصورين — في رأي المؤلفَين — على البرلمان، بل تقاسم فيهما الوزارة البرلمان بنصيب كبير، فالوزير يرْقُب في وزارته الخدمات العامة في أدائها والسهر عليها، ويرسم الخطط ويضع السياسة العامة. ولكنهما لاحظَا أن الوزراء البرلمانيين لم يقنعوا بذلك، وأبَوا إلا أن يتدخلوا في كل جزئية ويوقعوا على كل ورقة، وحرصوا كل الحرص على أن يختصوا أنفسهم بالتعيين والعزل والترقية والنقل، وأثقلوا كاهلهم بأعباء لا داعي لها، وفتحوا على أنفسهم بابًا من الشفاعة والرجاء لا يريدون سدَّه، وبذلك قصَّروا في مهمتهم الأساسية، وعملهم الرئيسي.

ولم يكن مجلس الوزراء بكامل هيئته أقل إسرافًا في هذا من الوزير في وزارته، فيعرض لمسائل تستطيع الوزارات بل المصالح أن تستقل بها، ويملأ جدول أعماله بأمور لن يعز على بعض الرؤساء الفصل فيها، وربما شُغل بتسوية بعض المعاشات أو النظر في بعض الاستثناءات من المشروعات الكبرى والخطط العامة.٤١
وعلاجًا لهذا القصور المَعيب رأى المؤلفان أن الحاجة ماسَّة إلى تشريع يوضح المادة ٥٧ من الدستور، ويحدد مهمة الوزراء بالوقوف عند حد الرقابة والتوجيه، ويمنعهم من الدخول في ممارسات يجب أن تكون من اختصاص الوكيل الدائم لكل وزارة ومعاونيه، بحيث يكل التشريعُ أمْر التولية، والعزل، والترقية، والنقل إلى وكيل الوزارة، ويحمل الأخير على تطبيق القانون وحده دون شفاعة أو رجاء طالما شعر أن الوزير يراقب كل ما يصدر عنه من قرارات.٤٢
كذلك رأَيا ضرورة تعزيز سلطة رئيس الحكومة، وأن تكون هناك هيئة استشارية دائمة لرئاسة مجلس الوزراء تضم مكتبًا للأبحاث يقف على المقترحات الوزارية الهامة، ويتتبع الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ويحاول دراسة ذلك كله؛ ليرسم خطة عامة، ويضع برنامجًا إصلاحيًّا دائمًا. كذلك يجب أن تضم رئاسة الوزراء مكتبًا آخر للرقابة والإحصاء يكون على اتصال وثيق بالوزارات المختلفة، ويلم بالتصرفات والإجراءات الإدارية الهامة، ويتابع تنفيذها، ويشرف على مدى تطبيق القوانين، ودرجة النجاح في إنجاز المشروعات، على أن تمد الوزارات هذا المكتب بما يطلبه من بيانات، كما توافيه بتقارير دورية عن نشاطها، فرئيس الحكومة يجب أن يكون شبيهًا «برئيس لمؤسسة مالية أو صناعية كبرى، لا يعدو على اختصاص أعوانه، ولكنه في الوقت نفسه يلم دائمًا بالاتجاهات العامة، والسير الحقيقي لشركاته ومصانعه.» ويجب أن يُلحق برئاسة الوزارة مكتب ثالث للنشر والدعاية، يُحسن التعبير عن سياسة الدولة، ويقدمها في صورتها الصحيحة، «ويدعو إلى الإصلاح، والأخذ بعناصر المشروعات الهامة دعوة خالصة لله وللوطن» ويحمل على تربية الرأي العام تربية قومية. ولا ينبغي أن تتم دعاية داخلية أو خارجية إلا تحت إشراف هذا المكتب، يضطلع بها، وينظمها في جملتها، ويرسم لها خطة مرتبطة متضامنة. وبهذه المكاتب الثلاثة يتمكن رئيس الحكومة من طبع شئون الدولة بطابع مشترك، ويرسم السياسة العامة، ويهيمن على سير الأداة الحكومية كلها.٤٣
ويجب أن يقتصر اختصاص مجلس الوزراء على المسائل الكبرى والشئون الهامة، وعندئذٍ قد لا ينعقد في الشهر إلا مرة واحدة، اللهم إلا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك، وبذلك يتفرغ كل وزير لمهامه، ويتمكن رئيس الحكومة من إشرافه العام على الأداة الحكومية، وإذا ما تحدد عمل مجلس الوزراء على هذه الصورة فلن يكون في حاجة إلى سكرتارية خاصة، وإنما تُعِد له وتغذِّيه سكرتارية رئاسة الحكومة التي تشرف على المكاتب الثلاثة التي اقترحها المؤلفان.٤٤
ورأى المؤلفان أن ثمة حلقة مفقودة في النظام القائم بين سلطة الرقابة ممثلة في البرلمان، والوزارة، والسلطة التنفيذية هي مجلس الدولة الذي طالب المؤلفان بإنشائه ليعد مشروعات القوانين واللوائح إعدادًا فنيًّا، ويُغذِّي الإدارة والبرلمان بالآراء الفنية والفتاوى القانونية، ويمارس سلطة قضائية تضمن حسن سير الخدمات العامة، فينظر في بعض المنازعات التي تنتج عن تعقُّد الأداة الحكومية وكثرة فروعها، أو عن سوء استعمال رجال الإدارة لصلاحياتهم؛ لأن هذه الهيئة بما لها من وحدة ودوام وكفاية تساهم في تنظيم الاتصال الضروري بين من يضطلعون بالرقابة والتوجيه، ومن يقومون بالعمل والتنفيذ، وتضمن للسلطة التنفيذية استشارة دائمة ونزيهة، كما تحقق التنسيق، والنظام، والتواصل في أعمال الدولة، وترعى علاقات الجمهور بالسلطة الإدارية.٤٥

وتمثل السلطة الإدارية الشق الثاني من الكتاب، وهي — على حد تعبير المؤلفَين — مظهر الأداة الحكومية وجانبها المتصل بالشعب، كما أنها سبيل النهوض الحقيقي، ومعيار النجاح الصحيح، فهي ترمي إلى أداء الخدمات العامة على وجهها الصحيح، وتيسيرها لأبناء الشعب على السواء.

ولاحظ المؤلفان أن الخدمات العامة موزعة توزيعًا سيئًا، وأن الإشراف عليها غائب أو يكاد، فهناك إدارات ومصالح في غير موضعها، ووزارات خُلقت على عجل دون دراسة كافية، وتعديل وتبديل لا ينقطع في الوزارة الواحدة، أما الإشراف الإداري فلا يكاد ينال اهتمامًا؛ لأنه موكول إلى من ليسوا أهلًا له، فإذا توفرت لديهم الكفاءة لم تتوفر لهم السلطة الكافية ولم يحاسبوا الحساب الدقيق، وذهب المؤلفان إلى أن النظام الإداري في حاجة إلى صياغة جديدة لا تقل أهمية عن صياغة النظام السياسي؛ فالنظام السياسي «لا يستطيع أن يحقق غايته إلا إذا توفرت بجانبه سلطة إدارية رشيدة محببة إلى الشعب بقدر ما هي محترَمة منه.»٤٦ لذلك يجدر بالسلطة الحاكمة أن تلقي — من حين لآخر — نظرة على إداراتها ومصالحها؛ لتتأكد من أنها تستوعب كل حاجات الأمة وتعمل على سدها.
كما لاحظ المؤلفان أيضًا أن الإنتاج الإداري مَعيب في كَمِّه، فلا يتناسب مطلقًا مع ما يُبذَل في سبيله من نفقات، ومَعيب في نوعه فلا يعرف الإجادة ولا يقدرها حق قدرها، ومعيب في أسلوبه؛ فهو يبالغ في القيود والشكليات، وأصبح مضرب المثل في البطء والتأخير. ويرجع ذلك إلى ما طُبِع عليه النظام الإداري من مركزية طاغية، ولوائح وإجراءات بالية، وإهمال ملحوظ من جانب العاملين به والمشرفين عليه.٤٧
واقترح المؤلفان علاجًا للنظام الإداري يتمثل في إعادة النظر بوجه شامل في توزيع الخدمات العامة بين الوزارات والمصالح بحيث يُنَسق بينهما، ويُدمج بعض الإدارات في بعضها البعض أو يُختزل ما لا داعي إليه منها، على ألا تنشأ مستقبلًا مصلحة أو وزارة إلا بقانون يصدِّق عليه البرلمان. كما يجب تنظيم الإشراف الإداري، وربط حلقاته بعضها ببعض، بحيث يصبح وكيل الوزارة الدائم المشرف الأعلى على وزارته، والمهيمن على العمل والتنفيذ، على أن يُحرَّم تعدد الوكلاء، ولا يُباح إنشاء وظائف الوكلاء المساعدين إلا بقانون يُقرِّه البرلمان، كذلك دعا المؤلفان إلى إلغاء المركزية الإدارية، أو تخفيفها ما أمكن؛ كي توزع المسئولية، وينشأ جيل من الإداريين الصالحين، وإلى التخلص من تلك اللوائح القديمة المطولة المعقدة الجامدة، وإحلال لوائح جديدة مختصرة واضحة محلها، على ألا تقل ساعات العمل الحكومي عن سبع ساعات تُوزَّع بين طرفي النهار فتُؤدَّى أربع منها صباحًا وثلاثة مساء، وتُمنع الزيارات الشخصية لصغار الموظفين منعًا باتًّا، وتُخفَّض العطلات الرسمية إلى قدر مقبول؛ ضمانًا لحسن سير العمل.٤٨
بيد أن العمل الإداري يتوقف أولًا على الموظفين الذين هم روحه ودعامته القوية. ويرى المؤلفان أن مشكلة الموظفين في مَظهريها الإداري والمالي قد تعقَّدت إلى درجة كبيرة فيما بين العشرينيات والأربعينيات؛ فطغت الوساطة والمحسوبية على كثير من التعيينات، وتحكَّم النسب والقرابة في بعض الترقيات، وأضحت الكفايات لا وزن لها، والشهادات لا اعتداد بها. وأصبح بعض البرلمانيين طلاب وظائف، وسماسرة استخدام، يقضون وقتًا طويلًا في التردد على المصالح والدواوين؛ ليقتنصوا الوظائف الخالية لأتباعهم، وعين الوزراء الأصهار والأنصار والمحاسيب، وشَكَّلت قضية الاستثناءات سِمة سيئة للنظام الإداري، وبَذرت الحزبية بذور الشقاق بين أبناء الوطن وملأت القلوب حقدًا وحسدًا.٤٩ وأثقلت المرتبات كاهل الدولة، وأضحت عبئًا تئن منه الخزانة العامة، وتضخَّمت اعتمادات الباب الأول فيما بين العشرينيات والأربعينيات إلى أربعة أمثالها أو يزيد بسبب الإسراف في التعيينات، وإغداق العلاوات، والتفنن في الاستثناءات، واستخدام المال العام في الدعاية الحزبية باسم الإنصاف تارة، أو إصلاح الكادر تارة أخرى.٥٠
واقترح المؤلفان أن يُعالج هذا الخلل في الوظائف عن طريق سحب سلطة التعيين والترقية والنقل من الوزراء وردها لوكلاء الوزراء الذين يصبحون مسئولين عنها أمام الوزراء، وتضييق دائرة تلك السلطة الاستثنائية الخاصة بالوظائف، والموظفين، والممنوحة لمجلس الوزراء بحيث تقتصر على كبار الموظفين الذين يُعيَّنون بمرسوم، وإقرار مبدأ المسابقة في التعيينات الحكومية عامة، على أن يشرف على المسابقات جميعها هيئة مستقلة كل الاستقلال تسمى «مجلس اختيار الموظفين»، ولا يُعزل موظف إلا بعد تحقيق ومحاكمة، على أن يُنشَأ مجلس الدولة؛ ليتولى حماية حقوق الموظفين، ويرعى تطبيق القوانين تطبيقًا عادلًا، وإعداد العدة لوضع كادر جديد للموظفين يقوم على أسس مالية وإدارية سليمة تتمشى مع موارد الدولة العادية، وإنشاء صندوق للمعاشات على أساس تأميني تعاوني، مستقل عن ميزانية الدولة، يساهم فيه جميع الموظفين.٥١

واختتم المؤلفان الكتاب بمعالجة أوضاع السلطة القضائية فلاحظا أن النظام القضائي لم يخلُ من العيوب والمآخذ، فجهات القضاء متعددة تعددًا لا مثيل له في أي بلد من البلاد الراقية، فهناك المحاكم الأهلية، والمحاكم الشرعية، والمجالس المِلِّية، والمجالس الحِسبية. ولا يشعر القضاة بالاستقلال الكافي لأداء مهمتهم على الرغم من صدور قانون استقلال القضاة. والإنتاج القضائي شبيه تمامًا بالإنتاج الإداري، فهو بطيء في سيره، ناقص في كَمه ونوعه، مما يستوجب إصلاحًا عاجلًا.

وطالب المؤلفان بإلغاء الاختصاص القضائي للمجالس المِلِّية، والمحاكم الشرعية، وتوحيد قضاء الأحوال الشخصية، حتى لا يوزع أبناء الشعب الواحد إلى طوائف وفرق، بل يجب الربط بين أبناء البلد الواحد بتوحيد القضاء، ولا علاقة لهذا بالدِّين، فقد «درجنا على التشبُّث بالدِّين حين لا نجد سندًا سواه للدفاع عن أشياء لا تمت إليه بصلة، وأشد ما يُؤسف له أنَّا كثيرًا ما نحتمي بحماه؛ لنستر غرضًا شخصيًّا، أو غاية جماعة معيَّنة.»٥٢

فيجب أن يقف المصريون أمام محكمة واحدة، وأن يُعاد النظر في قانون استقلال القضاء بحيث تتحقق لمجلس القضاء سلطة لا تقِل عن سلطة الجمعية العمومية في المحاكم المختلطة. وأن يُعيَّن المشتغلون في القضاء بمسابقة عامة، فتطبق المسابقة على اختيار أعضاء النيابة في أول درجاتها فلا يُسمح بالتعيين في تلك الوظائف دون مسابقة عامة، محددة الشروط، وعلنية النتائج، وفيما وراء هذه المسابقة ليس ثمة تعيين آخر، إنما هو نقل وترقية، على أن يُوكَل لمجلس القضاء أمر الإشراف على التنقلات والانتدابات بين رجال القضاء بما يحقق ضبطها، والبعد بها عن أهواء السياسة والساسة، كما يجب تحصين القضاة ضد العزل، ولا يُحالوا على المعاش إلا عند بلوغ سن التقاعد.

وحتى تستقيم السلطة القضائية طالب المؤلفان بتعديل قوانين المرافعات مما ييسر الإجراءات، ويضع حدًّا لزيادة التكاليف، ومد أجل التقاضي، وتعطيل مصالح الجمهور.٥٣
واختتم المؤلفان كتابهما بدَق ناقوس الخطر كما فعلا في بداية الكتاب، والتحذير مما قد يأتي به الغد «لأن الغد بما يخبئ من تقلبات وتطورات يشخص إلينا، ومن الحكمة أن نسبق الحوادث قبل أن تفاجئنا … فإن للحرب آثارها ونتائجها التي يجب أن نُعد لها عدتها.»٥٤ ووجها الدعوة إلى جيل الشباب؛ ليسعى إلى إقامة «أبنية كلها بهاء وروعة» على أنقاض مؤسسات اليوم البالية، ويضطلع بالمصالح القومية ويعمل على إنهاضها.
ويتضح من رؤية الجماعة للنظام السياسي التوجه الليبرالي الخالص لدى أعضائها، فهم يريدون إصلاح النظام القائم انطلاقًا من الدستور الذي يمثل إطار النظام، والإصلاح الدستوري الذي دعوا إليه من شأنه أن يثبت أركان البورجوازية المصرية ويطلق يدها في السلطة، وبذلك تستطيع في ظل الوضعية الجديدة المنشودة أن تحمي النظام بخطة إصلاح اجتماعي واقتصادي يحقق قدرًا من التوازن الاجتماعي من ناحية، ويفتح آفاقًا جديدة أمامها من ناحية أخرى، فتحكم سيطرتها على اقتصاديات البلاد، وتكسب أرضًا جديدة على حساب المصالح الاقتصادية الأجنبية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا توفر للنظام أداة حكومية رصينة تشكِّل أداة فعالة في يد النظام الليبرالي، وتعمل على حمايته وتدعيمه. فلا عجب أن نجد تعليق مراسل التايمز بالقاهرة على تأسيس الجماعة يحمل عنوان «الطبقة الوسطى أمل مصر الوحيد» واعتبر أعضاء الجماعة مُعبِّرين عن التيار الليبرالي التقدمي بين البورجوازية المصرية.٥٥
ولما كان كتاب إبراهيم مدكور ومريت غالي قد درسَا قضية إصلاح نظام الحكم دراسة وافية، فإنه لم يستغرق من أعضاء الجماعة سوى جلسة واحدة لمناقشته،٥٦ على عكس الجوانب الإصلاحية الأخرى التي ناقشتها الجماعة في النواحي الاجتماعية، والاقتصادية التي استغرقت عدة جلسات. وانتهى النقاش إلى الموافقة التامة على الأفكار التي طرحها المؤلفان في الكتاب، وأسفر الاجتماع عن اتخاذ قرار صِيغ على النحو التالي:

«يقتضي إصلاح نظم الدولة، أولًا: إدعام النظام النيابي، وذلك بتقليل عدد ممثلي الأمة، وضمان نزاهة الانتخاب والفصل في الطعون، وتوسيع اختصاص المجالس الإقليمية والمحلية وإنعاشها، وإنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات. وثانيًا: إدعام النظام الإداري، وذلك بمنح وكيل الوزارة الدائم سلطة كافية تجعله الرئيس الفعلي لوزارته في كل ما يتصل بالعمل والتنفيذ، وتحديد مسئولية الموظفين، وتوسيع اختصاصهم بما يتناسب ودرجتهم في السلم الإداري، ووضع التوظيف على أساس مسابقة عامة تبعد به عن المؤثرات «الحزبية والشخصية، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الإدارة الحكومية، وتوحيد جهات القضاء توحيدًا يبرز العدالة على وجهها اللائق ويسوي بين أبناء الوطن.»

ويلاحظ على هذا القرار إغفاله التام لركن هام من أركان إصلاح نظام الحكم، وهو تعديل مواد الدستور التي تطلِق يد الملك في الحكم وتَغل النظام البرلماني الليبرالي. ومن عجب أن يُغفل أعضاء الجماعة مناقشة هذا الموضوع الهام في الاجتماع الذي خُصص لدراسة «نظام الدولة» رغم أنه ركن أساسي في الإصلاح المنشود. ولا نملك تفسيرًا لهذا الموقف إلا أن يكون طابع الحذر والحيطة والحرص على التحرك بتؤدة قد أملى على أعضاء الجماعة هذا الموقف حتى لا يثيروا غضب القصر.

ويرتبط بإصلاح نظام الحكم ثلاث مسائل هامة بحثتها الجماعة في اجتماعاتها بحثًا مستفيضًا، هي: التعليم، والجنسية، والدفاع الوطني، وهي نفس الموضوعات التي اختتم بها مريت غالي حديثه عن إصلاح نظام الدولة في كتابه «سياسة الغد» الذي سبقت الإشارة إليه.

وقد حظي موضوع التعليم بجلستين كاملتين من جلسات جماعة النهضة القومية؛ لارتباطه الوثيق بركن هام من أركان إعادة بناء النظام الليبرالي — من وجهة نظر الجماعة — ونعني به الاهتمام بالتربية القومية باعتبارها شرطًا أساسيًّا لنجاح التجربة الليبرالية.

وأبرزت المناقشات التي دارت حول قضية التعليم رؤية الجماعة لها، فهم يرون أن التجربة النيابية البرلمانية قد بدأت والتعليم يعاني نقصًا من نواحٍ عدة، ولا يكوِّن العقلية القومية المنشودة، ولا يخضع لتوجيه موحَّد يُرسم له بسياسة شاملة، وهو أمر أدركه واضعو دستور ١٩٢٣م فنصوا على أن يشرع للتعليم جميعه من جديد، وعلى كونه إلزاميًّا ومجانيًّا في مرحلته الأولى. وأن خطوات هامة اتُّخذت في هذا الصدد، فبُذلت جهود مختلفة تشريعية، وإدارية لنشر التعليم، واستكمال بعض فروعه، وإصلاح الكثير من مناهجه، وحدث توسع في التعليم الأولي، وأُخذ بمبدأ توحيد الإشراف الفني على التعليم ورده إلى وزارة المعارف.

ولكن لاحظ أعضاء الجماعة أن التعليم في حاجة إلى إصلاح ما يشوبه من عيوب أهمها غياب سياسة قومية تعليمية ثابتة، مما جعل محاولات الإصلاح تتعارض مع بعضها البعض، وخضعت تلك الإصلاحات للأهواء الحزبية؛ ففقدت عنصر الاستقلال الذي يتطلبه النظام التعليمي، كما أن النظام التعليمي يُعنى بالكم وحشو أذهان الطلاب بالمعلومات أكثر من عنايته بالكيف وتحقيق المستوى اللائق، مما هبط بالتعليم هبوطًا بدَا أثره في دواوين الحكومة والأعمال الحرة، كما أن فكرة التوحيد الثقافي في مرحلة التعليم الهام مهمَلة، فهناك تعليم ديني وآخر علماني، وتعليم مصري وآخر أجنبي، وأنظمته تكاد تتعارض ولا تلتقي عند معالم يجب أن يلتقي عندها أبناء الشعب الواحد. ولم يُراع تقديم الأهم على المهم، فبينما يستنفد التعليم العالي جانبًا كبيرًا من الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم، لا يحظى التعليم الأولي بنفس الاهتمام.

لذلك يجب البدء — دون تردد — في إصلاح نظام التعليم وعلاج عيوبه مع ضرورة رسم سياسة قومية للتعليم يؤمن بها المصريون جميعًا، ووضع خطة تعليمية مستقرة لا تتغير بتغير الحكومات. ويجب البدء بتوحيد مرحلة الثقافة العامة للمصريين جميعًا دون استثناء، فيُعمَّم التعليم الأولي بحيث يمر به أبناء مصر جميعًا، ولتكن المرحلة الأولية «مدرسة الشعب الوحيدة» مع مراعاة رفع مستوى التعليم في تلك المرحلة، واتفاقه مع حاجات الوطن وظروفه، فينال الإعداد العملي جانبًا من الاهتمام دون أن يطغى على الإعداد النظري. أما التعليم الجامعي فيجب أن يكون أساسه الكفاية والتخصص، فلا يُفتح بابه إلا للجديرين به، ولا يفسح مجاله إلا حيث تدعو الحاجة العملية لذلك.٥٧
وخصص أعضاء الجماعة جلسة كاملة لمناقشة التعليم الجامعي، وانتهوا فيه إلى رأي مؤداه المطالبة بتوسيع نطاق التعليم العالي الفني على ألا يلتحق به إلا الأكْفَاء، وتتحمل الدولة جانبًا كبيرًا من نفقاته. أما التعليم العالي المتصل بالثقافة العامة (الآداب والحقوق) فلا يُفسح مجاله إلا في حدود مقدرة الدولة المالية على أن يتحمل الراغبون فيه معظم أعبائه.٥٨
وأكد أعضاء الجماعة ضرورة العناية بإعداد المعلم في مرحلة التعليم العام؛ لأن ما يعانيه هذا القطاع من قطاعات التعليم يرجع في قسم كبير منه إلى نقص إعداد المعلمين.٥٩

أما عن موضوع الجنسية، فقد انتهى أعضاء الجماعة من دراسته إلى ضرورة أن يُعاد النظر في القانون الخاص بالجنسية الذي صدر عام ١٩٢٩م بما يتلاءم وظروف أمة مستقلة، مع مراعاة أن يقترن تشريع الجنسية بتشريع آخر ينظم الهجرة والإقامة في مصر، على أن يرتبط التشريعان ببعضهما البعض، وبقدر التوسع في تيسير وسائل التجنس ينبغي الاحتياط في أمر الهجرة والإقامة بالنظر لظروف الحرب وآثارها.

ولاحظت الجماعة أن الأمر يتطلب تطبيق نظام البطاقات الشخصية الذي وضع فيه تشريع لم ينفذ، وأن تيسر سبل التجنس لكل أجنبي «اتصل بالحياة المصرية اتصالًا يجعله جديرًا بأن يقاسم المصريين حقوقهم وواجباتهم.» على أن يضبط أمر الهجرة والإقامة ضبطًا يتمشى مع ظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية.٦٠
أما عن قضية الدفاع الوطني فلاحظت جماعة النهضة القومية أن الجيش المصري لم ينمُ النمو المطلوب خلال الفترة بين الحربين العالميتين، وأن حالته بعد معاهدة ١٩٣٦م أصبحت أسوأ منه قبلها، بسبب ما أُدخل عليه من رقابة وقيود، كما أن مصر لم تستفد من ظروف الحرب الفائدة المرجوة لدعم الجيش واستكمال عدته. ولَمَّا كان مركز مصر في حوض البحر المتوسط يقتضي أن توضع للجيش سياسة وطنية واضحة وخاصة أن نظام الأمن الأوروبي قد يفرض على مصر بحكم موقعها الجغرافي بعض الواجبات الحربية التي يساعد القيام بها على تحقيق مطالب البلاد القومية، ويضعها في مصاف الأمم التي تشرف على سلامة العالم، فإن الدفاع عن البلاد يجب أن يكون وافيًا بحاجاتها متمشِّيًا مع استقلالها، ملائمًا لموقعها الجغرافي، على أن يكون الجيش وطنيًّا في روحه ودعائمه.٦١

وموقف الجماعة من قضية الدفاع الوطني مرتبط — كما سنرى — برؤيتها للسياسة الخارجية، وموقفها من القضية الوطنية.

•••

وهكذا كانت رؤية جماعة النهضة القومية للمسألة الاجتماعية ذات طابع إصلاحي ليبرالي ينشد النجاة بالتجربة الليبرالية مما يتهددها من أخطار نشأت عن ازدياد حدة التناقضات الاجتماعية وتفاقمها خلال الحرب العالمية الثانية، في محاولة للوقوف في وجه ثورة اجتماعية كان احتمالها كبيرًا، ما لم يُقَم نوع من التوازن الاجتماعي يحقق قدرًا من الاستقرار الاجتماعي، وهو توازن لا يتم إلا إذا قدمت الشرائح العليا من البورجوازية تنازلًا — ولو جزئيًّا — عن بعض امتيازاتها.

غير أن البرنامج الإصلاحي للجماعة اتسم بالتردد، واستجداء عطف البورجوازية على فكرة الإصلاح أكثر من تنويرها وتنشيط وعيها الاجتماعي، كما اتسم بإلقاء العبء كله على عاتق الدولة دون تقديم تحديد واضح للموارد التي تتمكن الدولة عن طريقها من الاضطلاع بعبء الإصلاح.

ولم يغب عن الجماعة أن ترسم خطة لإصلاح نظام الحكم الليبرالي يخلصه من مثالبه، ويفتح المجال أمام البورجوازية المصرية للإمساك بزمامه بعد تخفيف وطأة الميول الأوتقراطية للقصر، ولم يغب عنها أيضًا أن تقدم رؤية سياسية لعلاقات مصر بالعالم من حولها، وتقترح حلولًا للمسألة الوطنية في إطار عام لخطة رأت فيها الجماعة نهوضًا بمصر، وتدعيمًا لدورها السياسي والحضاري.

١  مريت غالي: سياسة الغد، ص٧٤–٧٥.
٢  نفس المرجع، مقدمة الطبعة الثانية، ص٦.
٣  مريت غالي: الإصلاح الزراعي، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٥م، ص ج، د.
٤  المرجع السابق، ص١٣، ١٤.
٥  نفس المرجع، ص١٥.
٦  نفس المرجع، ص١٦.
٧  المرجع السابق، ص٢٥–٢٦.
٨  المرجع السابق، ص٣١ هامش ١.
٩  نفس المرجع، ص٣٣.
١٠  المرجع السابق، ص٥٧.
١١  المرجع السابق، ص٦٠.
١٢  نفس المرجع، ص٦٢.
١٣  انظر الملاحق.
١٤  مقابلة شخصية في ٢٤ / ٥ / ١٩٨٣م.
١٥  سجل محاضر الجلسات، جلسة ٢٤، ٣ / ٥ / ١٩٤٥م، ص٤١–٤٢.
١٦  أحمد إبراهيم: البنك المركزي، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م، ص٥٥–٦١.
١٧  نفس المرجع، ص٦٢.
١٨  نفس المرجع، ص٦٣–٦٤.
١٩  ارتفع حجم البنكنوت المصري من ٢٫٤ مليون جنيه في ٣ يونيو ١٩١٤م إلى ٤٦ مليونًا في ٣١ ديسمبر ١٩١٨م، وارتفع النقد المتداول من ٢٫٠٦٩ مليون جنيه إلى ٤٤٫٤٩ مليون جنيه في الفترة ذاتها بزيادة قدرها ٥٤ ضعفًا. وزاد إصدار البنكنوت من ٢٨ مليونًا في ١٩٣٩م إلى ١٤٨ مليونًا في ١٩٤٥م إلى ٢٠٩ مليون في ١٩٥٢م، وبلغ صافي النقد المتداول ٩٥٫٦ مليونًا في ١٩٣٩م، قفز إلى ٢٠٥٫٧ ملايين في الفترة ١٩٤٣–١٩٥٢م (راجع، محمد رشدي: التطور الاقتصادي في مصر، دار المعارف ١٩٧٢م، ج١، ص٢١٩، ج٢، ١٥٩).
٢٠  سني اللقاني: الأرصدة الإسترلينية، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م، ص١٨.
٢١  سجل المحاضر، الجلسة ٢٦، ٢٤ / ٥ / ١٩٤٥م، ص٤٥.
٢٢  نفس الجلسة.
٢٣  سجل المحاضر، الجلسة ٢٧، ٧ / ٦ / ١٩٤٥م، ص٤٧.
٢٤  سجل المحاضر، الجلسة ٢٦، ١٤ / ٣ / ١٩٤٥م، ص٢٦–٢٧.
٢٥  نفس الجلسة، ص٢٧.
٢٦  نفس الجلسة.
٢٧  المحاضر، الجلسة ٢٧، ٧ / ٦ / ١٩٤٥م، ص٤٧.
٢٨  انظر مقال الدكتور محمد مندور بعنوان «الاستعمار الاقتصادي» في صوت الأمة، ٢٨ / ٣ / ١٩٤٧م.
٢٩  نفس المرجع، ص١٧.
٣٠  نفس المرجع، ص١٨.
٣١  نفس المرجع، ص٢٩–٣٠.
٣٢  نفس المرجع، ص٣٤–٣٧.
٣٣  نفس المرجع، ص٣٩–٤٥.
٣٤  نفس المرجع، ص٥٠.
٣٥  نفس المرجع، ص٥٣–٥٤.
٣٦  نفس المرجع، ص٧٨–٨١.
٣٧  نفس المرجع، ص٩٥–١٠٠.
٣٨  نفس المرجع، ص٨٠.
٣٩  نفس المرجع، ص٧٧–٧٨.
٤٠  نفس المرجع، ص٩٤.
٤١  نفس المرجع، ص١٣٤–١٤٧.
٤٢  نفس المرجع، ص١٣٦.
٤٣  نفس المرجع، ص١٣٩–١٤٣.
٤٤  نفس المرجع، ص١٤٤–١٤٥.
٤٥  نفس المرجع، ص١٥١–١٧٩.
٤٦  نفس المرجع، ص١٨٤.
٤٧  نفس المرجع، ص٢١٢–٢١٣.
٤٨  نفس المرجع، ص٢٠٥–٢٣٤.
٤٩  نفس المرجع، ص٢٤٣–٢٤٨.
٥٠  نفس المرجع، ص٢٦٤–٢٨٠.
٥١  المرجع، ص٢٦٢–٢٧٨.
٥٢  المرجع السابق، ص٣١٣.
٥٣  نفس المرجع، ص٣١٦–٣٢٦.
٥٤  نفس المرجع، ص٣٣٧.
٥٥  The Egyptian Gasette, 18/11/1945.
٥٦  محاضر الجلسات، جلسة ٢٢، ١٩ / ٤ / ١٩٤٥، ص٣٥–٣٦.
٥٧  محاضر الجلسات، جلسة ١٩، ٥ / ٤ / ١٩٤٥م، ص٢١–٢٢.
٥٨  نفس المصدر، جلسة ٢١، ١٢ / ٤ / ١٩٤٥م، ص٢٤.
٥٩  نفس المصدر، جلسة ٢٢، ١٩ / ٤ / ١٩٤٥م، ص٢٥.
٦٠  المصدر السابق، جلسة ٢٨، ١٤ / ٦ / ١٩٤٥م، ص٤٨.
٦١  نفس المصدر، نفس الجلسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤