رؤية الجماعة للمسألة الاجتماعية
يتمثل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحته من أفكار تتعلق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظور تصحيح مسار المجتمع الليبرالي الذي يتمتع فيه المواطنون جميعًا بقدر معقول من الحياة الكريمة عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين، مع إطلاق طاقات البورجوازية المصرية بفتح المجال أمامها لاستثمار أموالها في ميادين جديدة، وهو يتطلب — بالضرورة — تحرير الاقتصاد المصري من روابط التبعية للاقتصاد العالمي، أو — على الأقل — خلق المناخ الملائم الذي يتيح للبورجوازية المصرية لعب دور أكبر في المجال الاقتصادي بمحاولة تخفيف روابط التبعية للرأسمالية العالمية في الطريق نحو بناء اقتصاد مصري وطني تدريجيًّا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك كله إلا من خلال إصلاح النظام السياسي الليبرالي بالشكل الذي يتيح للبورجوازية لعب دور أكبر في رسم السياسات، ووضع الخطط الاقتصادية التي تحقق لها أحلامها، ويتطلب ذلك بالضرورة إصلاح أداة الحكم بدءًا بالدستور، والتخفيف من الصلاحيات التي يعطيها دستور ١٩٢٣م للقصر، وإيجاد نوع من الرقابة على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ويعالج هذا الفصل الإطار العام لأفكار الجماعة المتعلقة بالمسألة الاجتماعية، مركِّزًا على تحليل مضمونها ونقدها، وتحديد مكانها بين الأفكار الإصلاحية التي طرحتها البورجوازية المصرية في تلك الحقبة، متناولًا ثلاث مقولات رئيسية طرحتها الجماعة هي: الإصلاح الزراعي، وبناء الاقتصاد المصري المستقل، وإصلاح أداة الحكم.
الإصلاح الزراعي
وللجماعة فضل السبق في تقديم تصور كامل لإصلاح زراعي يهدف إلى علاج مشكلة الفقر الذي كان يعاني منه السواد الأعظم من المصريين ممثلًا في الفلاحين. حقًّا، لم تكن الجماعة هي أول من دعا إلى الإصلاح الزراعي؛ فقد سبقتها دعوات أخرى قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، بل تجسدت تلك الدعوة في صورة مشروع قرار بتحديد الملكية الزراعية تقدم به محمد خطاب — عضو مجلس الشيوخ — إلى البرلمان في أوائل ١٩٤٤م، ولكنَّ أحدًا لم يضع مشروعًا متكاملًا لإصلاح زراعي يشتمل على تحديد الملكية الزراعية، وتنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة مثلما فعلت جماعة النهضة القومية.
واتخذت فكرة الإصلاح الزراعي التي تبنَّتها الجماعة صورة دراسة متكاملة أعدَّها مريت غالي، ونشرتها الجماعة عام ١٩٤٥م، وصدرت عن دار الفصول التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر — عضو الجماعة — والتي اختصت بنشر رسائل ودراسات الجماعة، وتقع في ٩٧ صفحة من القطع المتوسط.
واستهل مريت غالي دراسته بمقدمة حدد فيها المقصود بالإصلاح الزراعي بأنه علاج لمختلف النظم المتعلقة بحيازة الأراضي الزراعية «علاجًا يمكن كل المساهمين في إنتاجها من أن ينالوا قسطًا من الرزق يسمح بحياة مقبولة.» باعتباره جزءًا من المشكلات القومية العامة، ويأتي في طليعتها، وأنه يهدف في المحل الأول إلى «توزيع الثروة القومية توزيعًا يرفع مستوى المعيشة لدى عامة الشعب.» ورأى أن الملايين من الفلاحين الذين يعيشون دون حد الكَفاف، «لا يمكن أن يُنتَظر منهم — وهم لا يتمتعون بالقدر اللازم من مقتضيات الحياة الإنسانية — أن يكونوا مواطنين حقيقيين يشعرون بمصرتيهم ويعتزون بها.» فهو يسلم بداية بالرابطة الوثيقة بين حصول المواطنين على نصيب عادل من الثروة القومية وشعورهم بالانتماء للوطن الذي يعيشون فيه، ونَعى على كبار الملاك الزراعيين اكتفاءهم بإبداء العطف على الفلاحين في أحاديثهم وخطبهم، دون أن يقدِّموا علاجًا لمعاناتهم، كما نعى عليهم اعتبارهم الأرض الزراعية مجرد سبيل لاستثمار رأس المال، وهجرهم للريف.
وبعد أن استعرض أوضاع الحيازة الزراعية، وبيَّن التناقض الكبير في توزيع الملكيات الزراعية بين ملكيات واسعة في أيدي حفنة من الملاك، وملكيات قزمية دون الفدان الواحد يعيش عليها مليون أسرة، بينما هناك ملايين من المعدمين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، وتلاشت أو كادت الملكيات المتوسطة التي تشكل عنصر التوازن في المجتمع الزراعي، رأى أن الإصلاح الزراعي الأمثل هو «الذي يُوجِد طبقة ثابتة من صغار ملاك الريف، يملك كل منهم مساحة من الأرض تحقق استقلاله الاقتصادي، وكرامته الاجتماعية؛ لأنها تكفي لسد حاجة أسرته من مستلزمات العيش»، وخاصة أن هذه الطبقة من صغار الملاك تقوم بدور هام «في ترقية القرى وبث الحركة فيها».
ورأى أن الخلل الاجتماعي نشأ عن تضاؤل الملكيات الصغيرة وتلاشيها تدريجيًّا، وثبات الملكيات الكبيرة، وزيادة أعداد الفلاحين الفقراء نتيجة زيادة السكان، وندرة الأرض الزراعية، مما أدى إلى تنافسهم على فرص العمل الزراعي المتاحة، ومن ثم حرص الملاك الكبار على زيادة أرباحهم عن طريق إنقاص أجور العمال الزراعيين، مما أحدث خللًا «لا يستقيم معه نظام اجتماعي أو اقتصادي»، وترتب على ذلك كله تدهور مستوى معيشة طبقة الفلاحين «إلى حد مخيف» وهم الذين يمثلون «ثلاثة أرباع الأمة المصرية». وجاءت الحرب العالمية الثانية لتزيد من خطورة المشكلة؛ «لأنها أشعرت كثيرين بحقوقهم على المجتمع، وأتت بأزمات تموينية، وأوبئة فتاكة أبرزت سوء حال سكان الريف، بحيث لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عنها.»، كما أن اختفاء فرص العمل التي أتاحتها ظروف الحرب تزيد المشكلة تفاقمًا.
وهكذا اعتبر مريت غالي، أو بعبارة أدق، اعتبرت جماعة النهضة القومية أن هدف الإصلاح الزراعي جعل الملكية الصغيرة لا تقل عن ثلاثة أفدنة، وهو أمر ينطوي على عدم الدقة في التحديد؛ لأنه لا يدخل في الاعتبار تفاوت درجات الخصوبة بالنسبة للأرض الزراعية، كما أنه أخذ في الاعتبار حجمًا للأسرة الريفية مشكوك في دقته. ومن الملاحظ أن الجماعة كانت على وعي بهذا القصور في تحديد المساحة من الأرض الزراعية اللازمة لإعالة أسرة ريفية، فأكد مريت غالي على ضرورة التزام الحد المقترح، وحذر من رفع هذا الحد إلى ما يزيد على ثلاثة أفدنة «رغبة في رفع مستوى الحياة لدى صغار ملاك الريف» بحجة توفير الأرض — أو بالأحرى — إتاحة فرصة التملك لأكبر عدد ممكن من سكان الريف. وعندما تقدم إبراهيم مدكور بمشروع قانون الإصلاح الزراعي إلى البرلمان (عام ١٩٤٨م) جعل الحد الأدنى للملكية الزراعية فدانين ليس ثلاثة أفدنة، دون تمييز بين درجة الخصوبة، وبالتالي تفاوت غلة الأرض.
على كلٍّ، رأى مريت غالي أنه لا مناص من تدخل الدولة لنشر الملكيات الصغيرة بوسائل مختلفة من بينها: تمليك أراضي الدولة للفلاحين المعدمين، وإلغاء الأوقاف الأهلية وتقسيمها بين المستحقين، وإعادة النظر في الشركات العقارية الزراعية ونظامها، والحد من الملكيات الكبيرة بطريق التشريع.
أما عن تمليك أراضي الدولة للفلاحين، فكانت فكرة قديمة طرحتها العديد من الاتجاهات السياسية المختلفة في فترة ما بين الحربين العالميتين كوسيلة لحل المسألة الاجتماعية حلًّا جزئيًّا دون تحميل البورجوازية المصرية أعباء هذا الحل، ودون تعريضها للتضحية بامتيازاتها، وعندما نفذت بعض الحكومات المتعاقبة على السلطة هذه السياسة قصرتها على توزيع بعض الأراضي الزراعية على خريجي الزراعة، وبعض صغار الفلاحين ممن كانوا أصلًا من صغار الملاك، وتم ذلك على نطاق محدود من قبيل التجربة في الأراضي المستصلحة.
ورأى مريت غالي أن تتولى الشركات العقارية الزراعية عملية إصلاح الأراضي البور التي تستخدم كوسيلة لنشر الملكيات الصغيرة مع تعديل نظمها لتخدم هذه الغاية، فتُعطَى الأرض البور للشركة الزراعية بإيجار اسمي ضئيل لمدة معينة، على أن تعود للدولة بعد إصلاحها دون مقابل، وتُعفى الشركة خلال مدة حيازتها للأرض من جميع الضرائب والرسوم كضرائب الأطيان، والأرباح التجارية، والرسوم الجمركية على ما تستورده، من آلات لازمة للاستصلاح، واقترح أن تحدد مدة حيازة الشركات للأرض بعشرين عامًا تعود بعدها للدولة. والاقتراح برُمَّته صعب التنفيذ عمليًّا؛ لأن الإعفاء من الضرائب لا يكفي وحده كي يكون حافزًا للشركات الخاصة على الإقدام على العمل في ميدان الاستصلاح طالما أنها ستفقد الأرض بعد مدة زمنية محددة، وليس هناك ما يضمن أن تكون الأراضي المستصلحة على درجة كافية من الجودة عندما يحين أجل تسليمها للدولة لتوزعها على الفلاحين.
أما الأراضي الزراعية التي كانت بأيدي الشركات العقارية فاقترح مريت غالي أن تقوم الحكومة بشرائها من الشركات بثمن معقول، أو أن تحدد مهلة زمنية تبيع خلالها الشركات تلك الأراضي لصغار الفلاحين، مع وضع بعض القيود الخاصة بمساحة القطع التي تباع، وثمنها، وطريقة تسديده، وغاب عنه أن ثمة سوقًا حرة للأرض الزراعية تحدَّد الأسعار فيها وفق قانون العرض والطلب، وأن الشركات لن تعدم وسيلة للتهرب من التشريع الذي يلزمها ببيع الأرض بسعر محدَّد، وخاصة أن معظمها كانت شركات أجنبية.
واعتبرت الجماعة أن الوقف الأهلي يقف حجر عثرة في سبيل نمو الإنتاج والتقدم الاقتصادي؛ لأنه يحبس الأعيان الموقوفة عن التداول «فتصبح في حكم المعدومة لا تصلح لضمان ولا تبعث على ثقة.» رغم أن مساحة تلك الأراضي تبلغ نحو عُشر مساحة الأراضي الزراعية في البلاد. ورأت أن إلغاء الوقف الأهلي يحقق الغاية المرجوة؛ فتوفر هذه المساحة من الأراضي الزراعية دون أن تتحمل الخزانة العامة أي أعباء مالية، وتحول المستحقين في الوقف إلى ملاك، مع وضع الضوابط التي تحول دون تحوُّل الملكيات الجديدة إلى ملكيات قزمية دون الحد الذي رأته الجماعة حدًّا أدنى للملكية الزراعية (ثلاثة أفدنة) على النحو الذي سنراه فيما بعد.
ورأت الجماعة أن يتخذ المشروع صورة المستعمرات الزراعية التي تقام على شكل قرى تتوفر فيها المساكن والخدمات، على أن تستفيد الحكومة في ذلك من التجربة التي قام بها الاحتلال البريطاني في عهد كتشنر عندما أُنشئت مستعمرتان زراعيتان في أراضي الدولة في الديبة مركز بيلا عام ١٩١٢م، وشالما مركز كفر الشيخ عام ١٩١٤م كوسيلة لحل مشكلة تلاشي الملكيات الصغيرة، وهي تجربة لم يقدَّر لها الاستمرار بسبب عدم اهتمام كبار الملاك الزراعيين بتوفير سبل النجاح لها، وإلقائهم العبء كله على الحكومة وحدها، فلم تنشأ بعد ذلك إلا مستعمرة صغيرة (٣٠٠٠ فدان) بأبي جنشو بالفيوم عام ١٩٢٨م. ورغم ذلك رأى مريت غالي في هذه التجارب نماذج يمكن أن يُحتَذَى بها عند إنشاء المستعمرات الجديدة.
واقترح أن تشمل المستعمرة الواحدة خمسة آلاف من الأفدنة منها مساحة لا تتجاوز ١٢٪ يخصص نصفها لمزرعة نموذجية، والنصف الآخر للسكن والمنشآت العامة (عملية مياه، مسجد، مدرسة، مستوصف، صالة للاجتماعات، سوق القرية). على أن تقام هذه المنشآت عند بداية تكوين المستعمرة، ويُراعَى فيها البساطة ورخص التكاليف، ويترك للمستفيدين أمر إقامة مساكنهم على أن تُراعَى فيها بعض الاشتراطات الصحية. أما بقية المساحة فتقسم إلى وحدات صغيرة يتم تمليكها للمستفيدين بدلًا من تأجيرها لهم؛ ليكون ذلك حافزًا لهم على العمل، على أن تقدم الحكومة لهم القروض اللازمة لإقامة المسكن، وشراء أدوات الإنتاج، وتضاف تلك القروض إلى ثمن الأرض، ويقسم المجموع على ثلاثين عامًا بفائدة قدرها ٢٪ سنويًّا، ولا يجوز بيع تلك الوحدات أو رهنها أو تأجيرها قبل انتهاء المدة المقررة أو استيفاء الدين. على أن يتم زراعة هذه المستعمرات على أساس تعاوني كلما أمكن ذلك. وتوضع الضوابط التي تكفل عدم تقسيم الأرض من جديد بين الورثة.
ورأى مريت غالي تخصيص إدارة حكومية لهذا الغرض تكون إدارة الفلاح بوزارة الشئون الاجتماعية نواة لها بعد إعادة تنظيمها بما يتناسب مع توسيع نطاق عملها، على أن يؤلف مجلس خاص من الموظفين، والشخصيات العامة من ذوي الخبرة للإشراف على تلك الإدارة، ويمنح رئيس المجلس قسطًا وافرًا من الاستقلال وحرية التصرف. واقترح أن ينشأ صندوق مستقل لنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها يلحق بالإدارة المختصة.
ويَقتضي نجاح المشروع أن يتغير مفهوم الدولة لإصلاح الأرض البور باعتباره خدمة عامة من الخدمات المفروضة عليها؛ ولذلك يجب أن تقوم بتسوية الأرض، وإنشاء وسائل، ومستلزمات الري، وشق الطرق دون مقابل مادي يتحمله المستفيدون، ونوَّه بما يعود على الدولة من وراء هذا المشروع من زيادة في الإنتاج القومي، وتنشيط للحركة التجارية والصناعية.
ونشر الملكيات كحل لمشكلة الفقر يقتضي بالضرورة المحافظة عليها، والحيلولة دون تفتتها وتحولها إلى ملكيات قزمية لا تستطيع الوفاء بحاجات الأسر الريفية، وهو ما أدخلته جماعة النهضة القومية في اعتبارها عند رسمها لخطة الإصلاح الزراعي؛ فطالب مريت غالي في دراسته عن الإصلاح الزراعي بالعمل على منع تضاؤل الملكية الصغيرة في المستقبل بمنع كل تقسيم يؤدي إلى نقص الملكية الواحدة عن الحد الأدنى المقرر، وهو ثلاثة أفدنة، فلا يجب تجزئة الملكية بحق الإرث وإنما يختص بها أحد الورثة أو اثنان منهم (وليكن أكبر الأبناء ومن يليه، أو من يُتفق عليهم بين الورثة) على أن يُعوض الباقون بمبلغ من المال يساوي قيمة أنصبتهم الشرعية، وتقوم الإدارة المختصة بنشر الملكيات الصغيرة وحمايتها — التي سبقت الإشارة إليها — بدفع هذه المبالغ لمستحقيها (من الخزانة العامة طبعًا)، ثم تحصيلها من الذي تنتقل إليه الأرض أسوة بما يُتبع في توزيع الأراضي الحكومية؛ أي تتحول قيمة أنصبة الورثة إلى قرض بفائدة ٢٪ سنويًّا يُسدِّده من آلت إليه الأرض على مدى عشرين عامًا، لا يحق له خلالها التصرف في الأرض بالبيع.
واقترح مريت غالي أن يكون لمن يأخذون نصيبهم في التركات في صورة مبلغ من المال الأولوية في الاشتراك في المستعمرات التي تنشئها الحكومة؛ فيحصلون على ملكية صغيرة من الأراضي المستصلحة على أن يكون نصيب كل منهم من قيمة التركة بمثابة مقدم لقيمة الأرض التي يحصلون عليها، فلا تدفع لهم الحكومة — في حقيقة الأمر — مالًا، على أن يقسط الباقي عليهم لعدد من السنين بنفس سعر الفائدة، وبذلك يتحول التعويض المالي في كثير من الأحيان إلى مجرد عملية حسابية في سجلات الإدارة المختصة.
ولما كانت الملكيات القزمية (التي تقل عن الفدان) تقدر — عندئذٍ – بحوالي المليون وثلث المليون من الأفدنة (أي أكثر قليلًا من خُمس مساحة الأراضي المزروعة في البلاد)، فقد وجب اتخاذ إجراءات لعلاج تضاؤل الملكيات الصغيرة، ورأى مريت غالي أن تقوم الحكومة بضم تلك الملكيات الضئيلة بعضها إلى بعض؛ لتتكون منها ملكيات صغيرة لا تقل عن الحد الأدنى المقرر. ولما كان ضم تلك الملكيات القزمية إلى بعضها البعض من الصعوبة بمكان فقد اقترح مريت غالي تشجيع أصحاب تلك الملكيات على التخلص منها بالبيع أو بالبدل على أن تقدم الحكومة سلفيات لأصحاب القطع الضئيلة المساحة؛ لتيسر لهم شراء قطع ضئيلة أخرى للوصول بمساحة ملكياتهم إلى الحد الأدنى للملكية الزراعية، أو تعطيهم الحكومة ملكية صغيرة في المستعمرات الزراعية التي تقيمها الدولة، ويستخدمون ثمن الأرض المباعة في تسديد جزء من قيمة الأرض الجديدة.
وهكذا تضع الجماعة العبء كله على عاتق الدولة، ولا تُلقي بالًا لما يتطلبه هذا البرنامج الخيالي من موارد مالية لتغطية أعبائه التي لا تستطيع خزانة الدولة تحملها، ولم تدخل في اعتبارها احتمال قيام الورثة الذين يتنازلون عن نصيبهم في الإرث مقابل مبلغ من المال — ولا يرغبون في الانتقال إلى المستعمرات الزراعية — بتبديد ما يحصلون عليه من مال على نفقات غير أساسية استهلاكية أو غير استهلاكية (كالزواج مثلًا) ما دامت ليست هناك ضوابط تلزمهم بالقبول بالحلول التي اقترحتها الجماعة.
وعلى كلٍّ، لم ينسَ مريت غالي تأكيد ضرورة تجميع الملكيات القزمية التي يملكها شخص واحد والتي تتجزأ إلى عدد من القطع المتفرقة الموزعة في أنحاء زمام القرية عن طريق البدل، حتى يكون استغلالها كقطعة واحدة ذا جدوى اقتصادية، وضرب مثلًا على إمكانية تحقيق ذلك بالقانون الذي صدر بلبنان عام ١٩٢٤م لتجميع الملكيات الزراعية بالبقاع.
وعندما طرح مريت غالي فكرة تقييد الملكية الكبيرة عالجها من زاوية ما يترتب على غياب كبار الملاك عن الريف، واعتبارهم الأرض مجرد وسيلة لاستثمار الأموال من أضرار اقتصادية واجتماعية، أبرزها تبديد رءوس أموالهم في التكالب على شراء المزيد من الأطيان، وأن ثمة مجالات أخرى في الصناعة والتجارة تعود عليهم بربح أكبر لو وجهوا إليها رءوس أموالهم، كما تعود على الاقتصاد الوطني بالخير.
وتتمشى فكرة تقييد الملكية الكبيرة مع مشروع محمد خطاب الذي تقدم به إلى مجلس الشيوخ في أوائل ١٩٤٤م فيما عدا الحد الأعلى للملكية الكبيرة، فرأى محمد خطاب ألا تزيد الملكية عن خمسين فدانًا، بينما رأت الجماعة أن تكون الملكية الكبيرة ضعف هذا الحد، بينما اتفقت الجماعة مع مشروع محمد خطاب في تجميد الملكيات الكبيرة، وعدم السماح لأصحابها بشراء أراضٍ جديدة ما عدا ما يَئول إليهم بحق الإرث، دون أن يفكر أيٌّ منهما في انتزاع الأراضي التي تزيد عن الحد الأعلى للملكية وتوزيعها على الفلاحين المعدِمين. ورغم ذلك رفض البرلمان مشروع محمد خطاب، كما رفض مشروع إبراهيم مدكور الذي قدمه بعد ذلك بأربعة أعوام، ولم يشفع للمشروع الأخير ارتفاعه بالحد الأمثل للملكية الكبيرة إلى مائة فدان.
وإلى جانب تقييد الملكيات الكبيرة رأت الجماعة أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على ضرائب الأطيان بحيث تزيد فئاتها مع زيادة الملكية عن الحد الأعلى المقرر، وبذلك ينقص عائد الأرض كلما زادت مساحتها مما يشجع أصحابها على بيعها، والاتجاه نحو استثمار أموالهم في الصناعة والتجارة. على أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على جميع الأنشطة الاقتصادية مما يؤدي إلى زيادة موارد الدولة، وتوجيه تلك الموارد إلى تمويل خطة الإصلاح الاجتماعي.
ولكن كيف يمر التشريع الخاص بالضرائب التصاعدية في برلمان تتكون غالبيته القصوى من كبار الملاك؟! لقد عُرض على البرلمان مشروع قانون في ١٩٤٤م يقرر زيادة تصاعدية على مجموع الضريبة العقارية التي يدفعها المالك الواحد كلما تجاوز مجموع الضريبة العقارية قدرًا معينًا، وتصدى الأعضاء للمشروع دفاعًا عن مصالحهم الضيقة دون النظر إلى ما يترتب على إبقاء التناقضات الاجتماعية على ما كانت عليه من أخطار على مصالحهم. وانتهى الأمر بإقرار القانون الخاص بالضرائب التصاعدية على الأطيان بعد إدخال تعديل جذري على شرائح الضريبة جعلها ضئيلة القدر لا تحقق الغرض المرجو من ورائها. فإذا كان غياب الوعي الاجتماعي عند البورجوازية المصرية قد أدى إلى هذه النتيجة، فكيف نتوقع منها أن تقبل بضرائب تصاعدية على الأطيان إلى الدرجة التي تجعل عائد الاستثمار في الزراعة أقل من غيره من مجالات الاستثمار، فيدفعها ذلك إلى التخلص من الأرض بالبيع؟!
وحظيت مشكلة الديون العقارية بجانب من اهتمام الجماعة، ومريت غالي صاحب الدراسة التي أقرتها الجماعة؛ لما لهذه المشكلة من ارتباط وثيق بحيازة الأرض الزراعية، فالنظام المحصولي، واعتماد الإنتاج الزراعي على محصول واحد (القطن) جعل الفلاح في حاجة مستمرة إلى مصدر للائتمان الزراعي، وقد بُذلت محاولات تشريعية لتجنيب الفلاحين مغبة الوقوع بين براثن المرابين وتعرض أطيانهم للحجز عند العجز عن سداد الديون، كما قامت الحكومة بتبنِّي إنشاء بنك التسليف الزراعي (عام ١٩٣١م)، ولكن هذه المحاولات لم تُؤتِ أكلها، فعجز قانون الخمسة أفدنة الذي صدر قبل الحرب العالمية الأولى عن تجنيب الملكيات الصغيرة خطر الوقوع في أيدي المرابين الذين كان معظمهم من الأجانب وأقلهم من كبار الملاك المصريين؛ لعدم وجود مصدر ائتماني بديل عن الربا يُمد الفلاح بحاجته من القروض، كما فشلت تجربة بنك التسليف الزراعي؛ لأن مجال الاستفادة منه كان محدودًا، فلم ينتفع بقروضه سوى متوسطي الملاك؛ ولذلك ظلت مشكلة الائتمان العقاري حادة ومزمنة، وظل سيف انتزاع الملكية بسبب عدم الوفاء بالدَّين مسلطًا على رقاب صغار الملاك ومتوسطيهم على حد سواء.
ولما كانت جماعة النهضة القومية تَنشد بإصلاحها الزراعي إقامة نوع من التوازن بين الملكيات الزراعية، وتثبيت الملكيات الصغيرة، فقد كان لها رؤيتها لمشكلة الديون العقارية، ورأى مريت غالي أن حل المشكلة يجب أن يقع على عاتق الدولة، فتتوسط بين المدين والدائن، على أن يكون ذلك بطلب من المدين، تتفق الحكومة بموجب ذلك مع الدائن على تخفيف الدين المتجمد، وتعرض على المدين ثمنًا مناسبًا لأخذ جزء من أرضه بما يعادل مبلغ الدين بعد تسويته، فإذا قبل ذلك حلت محله أمام الدائن، وقامت بتسديد الدين، أما الأرض التي تحصل عليها الدولة بهذه الطريقة فتضم إلى المساحات الأخرى المخصصة للتوزيع على صغار المزارعين. ورأى في هذا الإجراء ضمانًا لعدم هبوط قيمة الأطيان، ولعدم تسربها إلى أيدي الأجانب، وأن يكون تدخل الدولة بموجب تشريع خاص يصدر لهذا الغرض.
وهنا نلاحظ صعوبة تحقيق هذا الاقتراح في ضوء الظروف السائدة عندئذٍ؛ فمعظم الملكيات الصغيرة كانت مرهونة لدى المرابين مقابل قروض حصل عليها صغار المزارعين، فإذا دخلت الحكومة وسيطًا — على فرض توفر الموارد المالية اللازمة — واشترت الأرض كان في ذلك ما يتناقض مع فكرة المحافظة على الملكيات الصغيرة وتثبيتها. ولعل مريت غالي كان يقصد حل مشكلة الدائنين من متوسطي الملاك وكبارهم، أما الشريحة الأولى فكانت تستفيد من التسهيلات الائتمانية التي يقدمها بنك التسليف الزراعي، وأما الشريحة الثانية فلم تكن تعاني كثيرًا من تلك المشكلة؛ إذ ساعدت الأرباح التي حققها كبار الملاك خلال الحرب على التخلص من الديون، وبذلك يُصبح الحل المطروح خاصًّا بالملكيات الصغيرة أساسًا، وهو ما يتنافى مع الهدف الأساسي للإصلاح الزراعي وهو العمل على تثبيت الملكيات الصغيرة ونشرها.
كذلك أدخلت الجماعة في تصورها للإصلاح الزراعي ضرورة تنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة، وخاصة أن صغار المستأجرين والعمال الزراعيين كانوا يمثلون وعائلاتهم — عندئذٍ — ثلثي الأمة المصرية، فإصلاح أحوالهم، ورفع مستوى معيشتهم من شأنه تحسين القوة الشرائية في السوق المصرية، وبذلك تروج سوق الصناعة المصرية في بعض الصناعات الاستهلاكية التي يزيد الطلب عليها عند الطبقات الشعبية كالمنسوجات، والأحذية، والأثاث المنزلي، وما إلى ذلك، التي لا يمكن أن تروج إلا إذا زاد الدخل عند هذه الطبقات، مما يخدم هدف توجيه رءوس الأموال إلى الاستثمار في الصناعة.
وقد لاحظ مريت غالي أن إيجارات الأطيان الزراعية كانت مرتفعة عن الحد المعقول إلى درجة أنها تكاد تعود على المالك بنفس الربح الذي تحققه الزراعة على الذمة، بل تزيد عنه في بعض الأحيان. ولما كان من المفروض أن يحظى المستأجر بقدر من الربح علاوة على ثمن عمله بعد تسديد قيمة الإيجار، وتكاليف الزراعة فإن الأمر يتطلب إرساء تأجير الأرض الزراعية على قواعد تحقق قدرًا من العدالة الاجتماعية.
كما لاحظ أن كثيرًا من كبار الملاك يؤجرون أطيانهم جملة أو في صورة قطع كبيرة المساحة، ويقوم المستأجرون الكبار بتجزئتها وتأجيرها لصغار المستأجرين مما يزيد من شقاء المستأجر الصغير. كما أن صغار المستأجرين لا يتمتعون بالاستقرار؛ لأن الإيجارات تعقد لسنة واحدة، وكثيرا ما تقتصر على زراعة واحدة، فلا يمكن أن يشعروا برابطة بينهم وبين الأرض التي يفلحونها، ولا يستطيعون الاعتماد على دخل ثابت.
لذلك استهدف إصلاح نظام تأجير الأراضي الزراعية توفير بعض الربح للمستأجر الصغير، وتحقيق قدر من الاستقرار له، وذلك عن طريق إصدار تشريع يضع حدًّا أعلى للمساحة التي يمكن تأجيرها؛ للحد من تأجير أراضي كبار الملاك جملة لشخص واحد، وأن ينص على أن يقتصر تأجير الأرض على من يفلحونها بأنفسهم، واقترح أن يكون الحد الأعلى للمساحة التي يتم تأجيرها عشرة أفدنة، فلا يُسمح لمالك بأن يؤجر أكثر من عشرة أفدنة لشخص واحد، كما لا يُسمح لشخص واحد أن يستأجر أكثر من عشرة أفدنة، كما يحظر على من يمتلك أكثر من عشرة أفدنة استئجار الأراضي الزراعية. على أن تُعقد الإيجارات لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات شمسية قابلة للتجديد ما لم يخطر أحد الطرفين الطرف الآخر بغير ذلك، على أن تكون المدة صافية، فلا تُحتسب إلا عند تسلُّم الأرض، ولا تنتهي بوفاة المالك ولا بوفاة المستأجر، بل ينتقل حق الإيجار إلى الورثة. أما قيمة الإيجار فيجب أن تُحسب على أساس الضريبة العقارية فلا يزيد الإيجار عن أضعاف معينة للضريبة المفروضة على الأرض. على أن تُعدَّل القيمة الإيجارية كلما حدث تغيير كبير في الظروف الاقتصادية، وأثمان الحاصلات الزراعية، ويحسن أن يُعاد تقدير الضريبة على الأطيان كل عشر سنوات بدلًا من مدة الثلاثين عامًا التي كان معمولًا بها عندئذٍ. ويتم تسجيل عقود الإيجارات حتى لا يُخل أحد الطرفين المتعاقدين بشروط التعاقد، وأن ينص القانون على فرض عقوبات صارمة على من يخالف شروط العقد.
ولعل تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة هو أهم ما تضمنه مشروع الإصلاح الزراعي كما طرحته جماعة النهضة القومية، وهم يتميزون به عن غيرهم ممن طرحوا أفكارًا خاصة بالإصلاح الزراعي، كما أن مطالبتهم بحماية العمل في الزراعة لم يسبقهم إليها غيرهم.
وتنطلق فكرة حماية العمل الزراعي عندهم من نفس الأساس الذي قامت عليه فكرة تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة، فالقصد منه رفع مستوى معيشة العامل الزراعي باتخاذ التدابير اللازمة لمنع تدهور أجور عمال الزراعة عن الحد المناسب، وتنقسم تلك التدابير — عندهم — إلى قسمين: أولهما قسم مشترك بين عمال الزراعة، وعمال الصناعة وهو المتصل بالناحية الاجتماعية، وثانيهما قسم متصل بالناحية الاقتصادية الخاصة بالزراعة.
أما عن القسم الأول؛ فقد طالبت الجماعة بأن تسري على العمال الزراعيين جميع تشريعات العمل التي صدرت، أو التي تصدر لتحديد التعويض عن إصابات العمل، أو لتنظيم العلاج من إصابات العمل، والتأمين الاجتماعي، أو غير ذلك من قوانين حماية العمل، ولا يُستثنى منها إلا ما يصعُب تطبيقه على العمل الزراعي بالتدابير والالتزامات الخاصة بإنشاء المساكن لعمال الصناعة، وتوفير وسائل الصحة، والنظافة، والراحة، والتسلية لهم، فيسري كل ذلك على معاملة أصحاب العزب الذين يجب أن يُعامَلوا كأصحاب المصانع فيما يتعلق بالعمال الزراعيين الذين يعملون عندهم. وهي فكرة تَقدُّمية إذا أخذنا في الاعتبار أن جميع التشريعات العُمالية تضمنت موادَّ تستثني عمال الزراعة من الخضوع لأحكامها بزعم أن العلاقة بين المالك والعامل الزراعي علاقة ذات طابع عائلي، فجاء اقتراح الجماعة لسد النقص في التشريع، ولكن يلاحظ أن مريت غالي أغفل قانون النقابات عندما عدَّد القوانين التي يجب أن تسري على عمال الزراعة، ويبدو أنه رأى في هذه الخطوة محاذير كثيرة لا يجب التورط فيها حتى لا ينفر كبار الملاك من الإقدام على تنظيم علاقات العمل في الزراعة، وخاصة أنهم كانوا يمثلون أغلبية أعضاء البرلمان، أو لعل هذا الموقف يرجع إلى عدم إيمان الجماعة بحق عمال الزراعة في تكوين النقابات.
أما عن القسم الثاني الخاص بعمال الزراعة، فهو وضع حد أدنى للأجور الزراعية، ولَمَّا كان الإنتاج الزراعي يتفاوت من منطقة إلى أخرى؛ لذلك يجب أن يكون هناك تحديدٌ للأجور الزراعية في كل مديرية على حدة، فتشكل لجنة خاصة في كل مديرية لتحديد الحد الأدنى للأجور الزراعية يُراجع في بداية كل سنة زراعية، على أن توضع قواعد خاصة تتبعها تلك اللجان في تقديراتها كي تكون على أسس واحدة، وتُكلَّف هيئة حكومية خاصة بمراقبة عمل هذه اللجان حتى لا تخرج عن الحدود المعقولة سواء في زيادة الأجور أو إنقاصها.
أما القواعد التي تتبعها اللجان في عملها فتتلخص في دراسة تكاليف الإنتاج، وأسعار الحاصلات الزراعية، ومتوسط أيام العمل، وتكاليف المعيشة، ثم الموازنة بين هذه العوامل كلها للوصول إلى الحد الأدنى للأجر الذي يراعي مصلحة العمال مع عدم الإخلال بمقتضيات الإنتاج الزراعي، ويقصد بذلك مصلحة الملاك الزراعيين أصحاب العمل. على أن يُراعى في تشكيل اللجان تمثيل جميع العناصر اللازمة فيها (بما فيها عنصر العمل) وأن تتوفر الضمانات لاستقلالها.
ويتوقف نجاح مثل هذا النظام — في رأي مريت غالي— على دقة الإشراف على اللجان، وعلى تربية الرأي العام اجتماعيًّا (أي على درجة الوعي الاجتماعي عند الملاك طبعًا)، وأيضًا على نوع العقوبة التي تُفرض على من يُخل بالقانون، وعلى الحزم في تطبيقها.
ويتَّفق مشروع القانون تمامًا مع ما جاء بكتاب مريت غالي «الإصلاح الزراعي» فيما عدا تحديد الحد الأدنى للملكية الزراعية الذي لا يجب أن تنخفض عنه، فعلى حين رأى مريت غالي أن ثلاثة أفدنة تمثل الحد الأمثل لتوفير المستوى المعيشي المعقول للأسرة الريفية، هبط مشروع القانون بالحد الأدنى إلى فدانين، وجاء بمذكرته التفسيرية أن تلك المساحة كافية لإعالة أسرة ريفية لو أُحسن استغلالها. واعتبرها وحدة ملكية غير قابلة للتقسيم، وأخذ بفكرة مريت غالي الخاصة بالتخارج بين الورثة، وحظر التنازل عن جزء من تلك الملكية أو التصرف فيها بالبيع، ونص على أنه في حالة عدم الاتفاق بين الورثة يُقدَّم أبناء المورث وبناته على من عداهم من الورثة، ويُقدَّم البنون على البنات، ويُقدَّم الأبناء الكبار على الصغار، والمشتغلون بالزراعة على غير المشتغلين بها.
وحَدد مشروع القانون الحد الأعلى للملكية بمائة فدان، وترك أمر التصرف فيما زاد على هذا الحد للملاك أنفسهم دون تدخل من جانب الدولة (على نحو ما جاء بكتاب مريت غالي)، ولكنه نص على ألا تتجاوز الملكية الفردية ثلثي مساحة زمام القرية، وترك للمالك أمر التخلص مما يزيد عن ثلثي زمام القرية خلال ثلاث سنوات على أن تُباع للأهالي في وحدات لا تتجاوز عشرة أفدنة للشخص الواحد وأعطى للدولة حق نزع ملكية المساحة التي تزيد على ثلثي الزمام في حالة انتهاء المهلة دون أن يتصرف المالك في الزيادة.
وفيما يتعلق بتحديد الإيجارات الزراعية نص المشروع على تحديدها باثني عشر مثلًا للضريبة المربوطة على الأطيان، ولما كانت أعلى ضريبة عندئذٍ جنيهين للفدان، فإن ذلك يعني أن أعلى إيجار للفدان سوف يكون أربعة وعشرين جنيهًا في السنة، ونص المشروع على ألا تقل مدة الإيجار عن ثلاث سنوات وأن تسجل عقود الإيجار، ونص على معاقبة المالك الذي يخالف أحكام القانون في هذا الصدد بغرامة لا تزيد عن عشرين جنيهًا عن كل فدان وقعت عنه المخالفة.
كذلك حدد مشروع القانون الحد الأدنى لأجر العامل الزراعي بعشرة قروش يوميًّا، ونص على معاقبة من يخالف ذلك من الملاك بغرامة لا تزيد على خمسة جنيهات، كما نص على ضرورة تعديل الحد الأعلى لإيجارات الأطيان، والحد الأدنى لأجر العامل الزراعي على أساس الرقم القياسي العام لأثمان الحاصلات الزراعية إذا حدث تغيير فيها بلغ متوسطه ٢٠٪ في مدة ستة شهور زيادة أو نقصًا عمَّا كانت عليه من قبل.
ويُلاحظ أن مشروع القانون أغفل تمامًا الأخذ بفكرة الضريبة التصاعدية على الأطيان الزراعية، كما أغفل النص على ضرورة خضوع عمال الزراعة لقوانين العمل فيما يتعلق بالخدمات، والتأمين ضد الإصابة، وغير ذلك من أمور، رغم أن هذين الأمرين ضروريان بالنسبة للإصلاح الزراعي كما رسم ملامحه مريت غالي، كما يلاحظ أن الغرامات التي نص المشروع على فرضها في حالة مخالفة أحكام القانون كانت هينة للغاية على كبار الملاك خاصة فهي لا تتجاوز عشرين جنيهًا في حالة مخالفة الإيجارات الزراعية للحد الأعلى المقرر، ولا تتجاوز خمسة جنيهات في حالة مخالفة الأجور الزراعية للحد الأدنى المقرر، هذا إذا فرضنا أن المستأجِر أو الأجير — وهو الطرف الضعيف في العلاقة الإنتاجية — سوف يجرؤ على إبلاغ السلطات بتجاوز المالك للقانون، ويضحِّي بذلك باستقراره، وبعمله، وربما بحياته، إذا أخذنا في الاعتبار ما كان يتمتع به الملاك الكبار من سطوة في الريف المصري عندئذٍ.
ولعل إغفال النص على فكرة الضريبة التصاعدية، وخضوع عمال الزراعة لقوانين العمل كان يقصد به إقناع أعضاء البرلمان بالمشروع وتشجيعهم على تمريره، وخاصة أنه كان رفيقًا بهم إلى حد كبير، ورغم ذلك لم يحظَ المشروع بموافقة البرلمان، فكان لا بد من ثورة لتحقيق الإصلاح الزراعي، وحل المسألة الاجتماعية حلًّا جذريًّا.
نحو اقتصاد مصري مستقل
كان من أهم الأفكار التي طرحتها جماعة النهضة القومية فكرة تصحيح مسار الاقتصاد المصري في الاتجاه نحو الاستقلال، وتقوم هذه الفكرة على فك الارتباط بين الاقتصاد المصري، والاقتصاد البريطاني المهيمن على اقتصاديات مصر بتحقيق الاستقلال المالي عن بريطانيا من ناحية، وتنويع مصادر الدخل القومي بالاتجاه نحو التصنيع من ناحية أخرى، وكذلك دخول رأس المال المصري في ميدان التجارة، وسوق الأوراق المالية؛ لزحزحة الأجانب من المواقع التي اكتسبوها على مدى قرن من الزمان (منذ منتصف القرن التاسع عشر) تمهيدًا لتمصير هذا القطاع الاقتصادي الهام.
وعبرت الجماعة عن هذه الأفكار في اجتماعاتها فخصصت أربع جلسات لمناقشة هذا الموضوع، كما تضمنت مطبوعاتها دراسة عن البنك المركزي أعدها الدكتور أحمد إبراهيم، ودراسة عن الأرصدة الإسترلينية أعدها سُنِّي اللقاني وكيل وزارة المالية وعضو الجماعة، وكانت خطتها تتضمن إعداد دراسة عن الصناعة أُسنِد أمر تأليفها إلى محمد رشدي، ولكن لم يُقدَّر لها الصدور، ونشر بعض أعضائها عددًا من المقالات حول هذا الموضوع بمجلة الفصول.
على أن مناقشات الجماعة حول توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال بُنيت على أساس ورقة عمل لم تقع في أيدينا كتبها محمد علي الغتيت لهذا الغرض، وقد وقفنا على خطوطها الرئيسية من سجل محاضر اجتماعات الجماعة، وتتضمن مشكلات محددة هي: الاحتكار، والائتمان الصناعي، وعلاقة الجنيه المصري بكتلة الإسترليني، وديون مصر لدى بريطانيا، والبنك المركزي.
والمشكلتان الأخيرتان تمثلان حجر الزاوية في فكرة الاستقلال الاقتصادي عند الجماعة، فهم ينظرون إلى المسألة من زاوية تبعية النقد المصري للإسترليني، وسيطرة البنوك الأجنبية على سوق الائتمان، وهي زاوية ضيقة تنظر إلى بعض ظواهر القضية الأساسية وهي تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد الرأسمالي العالمي، تلك التبعية التي نصبت شباكها على الاقتصاد المصري منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما تحولت مصر إلى بلد متخصص في إنتاج مادة أولية أساسية للصناعة الأوروبية عامة، والإنجليزية خاصة هي القطن، وعندما كُبِّلت الدولة بالديون المالية للبنوك والبيوت المالية الأجنبية، وترتب على ذلك تطور هيكل الاقتصاد المصري بصورة جعلته اقتصادًا تابعًا للرأسمالية العالمية لا يملك من أسرها فكاكًا، وجاء ارتباط النقد المصري بالإسترليني نتاجًا لهذه التبعية التي بلغت ذروتها بالسيطرة السياسية الأجنبية على مقدرات البلاد من خلال الاحتلال البريطاني. ولذلك كان توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال يقتضي إدخال تغيير جذري على البنية الهيكلية للاقتصاد المصري يرتكز على تحقيق التنمية الاقتصادية الذاتية، عندئذٍ يكون فُك ارتباط العملة المصرية بكتلة الإسترليني، وتسوية الديون المصرية في ذمة بريطانيا نتاجًا لهذه التغيرات الهيكلية في بنية الاقتصاد المصري.
ونلاحظ هنا طابع التردد والحذر الذي اتسمت به آراء الجماعة الاقتصادية والاجتماعية، فهي تريد بنكًا مركزيًّا، ثم تجرد الدولة من الإمكانيات التي تتيح لها فرصة توجيهه، فالدولة تدخل في عداد المساهمين بما لها من حصة في أسهمه، وهي شريكة في إدارته لها نفس ما للبنوك التجارية المساهمة في رأس مال البنك من نفوذ، فكيف تستطيع الحكومة — إذًا — توجيه البنك والإشراف عليه، ولرأس المال الخاص مصالح ممثلة في البنك بقدر قد يتجاوز مصالح الدولة نفسها؟ لقد كانت الجماعة تؤمن بالليبرالية، ولكن مفهومها لليبرالية كان يمثل ليبرالية القرن التاسع عشر عندما كان الفكر الاقتصادي الليبرالي يرى أن اشتغال الحكومة بالاقتصاد يفسده ويضع قيودًا على حرية رأس المال في الحركة، ولعل الجماعة اتخذت هذا الموقف من باب التحرك على طريق الإصلاح «بتؤدة وروية» كما جاء في أدبياتها.
ويلاحظ هنا أن الحل الذي اقترحته الجماعة يتوقف على قبول السلطات البريطانية التي وقفت — في المفاوضات التي دارت خلال الفترة — موقف المماطلة على زعم أن معظم هذه الديون وهمية؛ لأنها ذهبت إلى أفراد وهيئات مصرية لقاء خدمات بُولغ في تقدير قيمتها، وطالبت الحكومة المصرية بالتنازل عن نحو نصف الدَّين للاعتراف بالنصف الآخر. فكيف — إذًا — تتمكن مصر من استيفاء حقوقها الضائعة عن طريق التبادل التجاري؛ أي استيراد ما تحتاجه من سلع مقابل ما لها من أرصدة إسترلينية طرف الحكومة البريطانية؟ وحتى لو وافقت بريطانيا على ذلك — وهو أمر مستحيل الحدوث — فإن السلع التي تستوردها مصر سوف تتولى بريطانيا تحديدها وتحديد أسعارها، فضلًا عن إلزام مصر باستيراد ما تحتاجه من السوق البريطانية وحدها، وحرمانها من التعامل مع السوق العالمية، مما يزيد من إحكام روابط التبعية الاقتصادية، ويجعل الاستقلال الاقتصادي بعيد المنال.
«لا سبيل إلى الاستقلال الاقتصادي إلا إذا اكتمل استقلالنا المالي، ومن أهم وسائل ذلك قيام بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة يهيمن على السوق المالية.» وبذلك أغفلت الجماعة قضية استقلال العملة المصرية عن دائرة الإسترليني التي كانت تمثل أكثر قيود التبعية ثقلًا ووطأة.
وفي مجال الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي أوْلت جماعة النهضة القومية الصناعة اهتمامًا خاصًّا، فذهبت إلى أنه رغم بقاء الزراعة دعامة اقتصاد مصر القومي، فإن شروط إقامة الصناعة متوفرة في مصر وتتمثل في: وفرة المواد الأولية وعلى رأسها الحاصلات الزراعية، ووفرة الأيدي العاملة مع الاعتماد على الخبرة الفنية الأجنبية، ووفرة رءوس الأموال لدى المصريين، إلى جانب فتح الباب أمام رءوس الأموال الأجنبية الراغبة في الاستثمار في مجال الصناعة بعد ما أصبح لا يُخشى ضررها بعد إلغاء الامتيازات، كذلك تتوفر بمصر مصادر الطاقة التي يمكن توليدها من خزان أسوان، ومن مصادر مصر البترولية، فالصناعة «من جانبٍ سبيل إلى إنهاض الاقتصاد القومي، ومن جانبٍ آخر وسيلة للترفيه عن عامة الشعب من المستهلكين.» بتوفير ما يحتاجون إليه، كما أنها تعمل على رفع مستوى المعيشة بما تتيحه من فرص العمل، وتفسح المجال أمام تنشيط التجارة، بما يعود من وراء ذلك كله من فوائد على الاقتصاد القومي.
كذلك يقع على عاتق الحكومة تشجيع بعض الصناعات الناشئة بإعفائها من الضرائب، أو تخفيفها لمدة معينة حتى تقف على أقدامها، ولاحظت الجماعة أن إعفاء الصناعة الناشئة من الضرائب معيب من عدة وجوه، فهو يتنافى مع المبادئ الديمقراطية «الليبرالية»؛ لأنه ينبغي أن يكون الممولون جميعًا أمام الضرائب سواء، كما أن الإعفاء يسمح بالتمييز والتفرقة والاستثناء، وهو أمر لا يجوز اتباعه بأية حال، غير أن هذا الإعفاء يكون إعفاء نظريًّا؛ لأن الصناعة لا تدفع ضريبة إلا مقابل ما تحققه من أرباح، ومتى حققت أرباحًا وجب خضوعها للضريبة.
أما عن مشكلة احتكار الأجانب الاشتغال بتجارة مصر الخارجية وسوق الأوراق المالية، فرأت الجماعة أن حل هذه المشكلة يأتي تدريجيًّا — أيضًا — عندما ينفر أصحاب رأس المال من المصريين من استثمار أموالهم في الزراعة، ويطرقون أبواب مجالات الاستثمار الأخرى، وبالتالي يزاحمون الأجانب في ميادين التجارة، وسوق الأوراق المالية حتى تنتقل مقاليدها إلى أيديهم. ولم تقدم الجماعة تصورًا لكيفية تصفية الاحتكارات التجارية الأجنبية بهذه الطريقة السلمية الوئيدة.
وإذا كانت الجماعة قد جعلت للدولة دورًا أساسيًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المنشود، فإن الأمر كان يتطلب — بالضرورة — إعادة تنظيم الإدارة الحكومية على أسس جديدة تؤهل الدولة للعب دورها في تنفيذ ومتابعة خطة الإصلاح. ومن هنا كان اهتمام جماعة النهضة القومية كبيرًا بإصلاح أداة الحكم واعتبارها أساسًا لإقامة نظام جديد، وحياة جديدة.
إصلاح الأداة الحكومية
ولَمَّا كانت جماعة النهضة القومية، قد أفردت للدولة دورًا هامًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المقترح جعَلها محورًا له، فقد كان حجر الزاوية عندهم إصلاح أداة الحكم بما يكفل للأداة الحكومية القدرة على الاضطلاع بالدور المطلوب منها أداؤه، ويضمن للنظام السياسي الليبرالي القائم القوة والثبات.
وجاءت تصورات الجماعة لأداة حكومية قوية راسخة في كتاب فريد في بابه يُعدُّ من أهم الأدبيات السياسية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، ألَّفه إبراهيم بيومي مدكور، ومريت غالي، وهو من أعمق البحوث والدراسات التي صدرت عن الجماعة، وقد صدر هذا الكتاب بعنوان «الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة» في طبعة خاصة على الإستنسل في أكتوبر عام ١٩٤٣م، ولم يتجاوز عدد النسخ التي طُبعت ١٤٠ نسخة وُزعت على بعض الساسة والبرلمانيين وأصدقاء المؤلفين، وقد دفعهما إلى ذلك وجود الرقابة، واعتراضها على الكثير مما جاء بالكتاب عندما حاول المؤلفان نشره وتقدما به إلى الرقابة. وعندما رُفعت الرقابة على المطبوعات لفترة قصيرة في أعقاب إقالة حكومة الوفد، نشر المؤلفان الكتاب في سبتمبر ١٩٤٥م وصدر عن دار الفصول، ويقع في ٣٣٩ صفحة من القطع المتوسط.
والكتاب تعميق وتفصيل للآراء والأفكار التي أوردها مريت غالي في الباب الأول من كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» الذي صدر عام ١٩٣٨م، وأُعيدت طباعته عام ١٩٤٤م الذي تناول فيه إصلاح مسار التجربة النيابية الليبرالية، والسلطة التنفيذية. وإن كان الكتاب الأخير (الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة) أكثر شمولًا في تناوله للنظام السياسي والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، اتبع فيه المؤلفان منهجًا يقوم على توصيف المشكلة، وتشخيص داء النظام السياسي والإداري والقضائي، ثم اقتراح العلاج الذي يتصوران أن فيه شفاء الداء، وإبراء التجربة الليبرالية مما تعانيه من وهن وضعف.
وهما يصدران الكتاب بمقدمة يؤكدان فيها أن العلاج لن يكون ناجحًا إلا إذا تم «تكوين رأي عام يقظ حول مبادئ صريحة ومقترحات واضحة.» وهو ما اهتم المؤلفان بتقديمه في كتابهما وعقدا الأمل على أن يتبناه «رأي عام يقظ» من المثقفين، فهم الشريحة التي وجهت إليها جماعة النهضة القومية أفكارها وسعت إلى كسب تأييدها لآرائها.
وللأداة الحكومية — في رأي المؤلفين — مهمتان رئيسيتان: رقابة وتوجيه يضطلع بها البرلمان والوزراء، وعمل وتنفيذ يقوم بهما الموظفون، فلها جانبان أحدهما سياسي والآخر إداري؛ لذلك انقسم الكتاب إلى بابين متعادلين تقريبًا خُصص كل منهما لعلاج أحد الجانبين بدءًا بالجانب السياسي.
وإذا كان النظام النيابي في مصر يعتمد على دستور يُعدُّ من أحدث الدساتير، وأحكمها صياغة وتحريرًا، إلا أنه مع ذلك قد تحفَّظ في سيره، وصادفته أزمات كادت تودي به، فعُطل الدستور ثلاث مرات في أقل من عشر سنوات، وقامت محاولة لإحلال دستور آخر محله. وخلال إحدى وعشرين سنة حُل مجلس النواب سبع مرات، ومجلس الشيوخ ثلاثًا، ولم يستكمل برلمان واحد كل أدوار انعقاده.
ويرى المؤلفان أن هذه الأزمات في جملتها ترجع إلى عوامل ثلاثة رئيسية: غموض في الدستور، وخطأ في تطبيقه، ونقص في التربية القومية.
وأخيرًا يستدعي النظام النيابي تربية شعبية خاصة، وتكوين رأي عام مستنير، ولكنْ بدلًا من أن يعمل الساسة على تنوير الرأي العام عمَدوا إلى تضليله، وبدلًا من تربية الشعب أفسدوه عندما أضحت استشارة الأمة ضربًا من المساومة، وسوقًا لها سماسرتها ووسطاؤها الذين يَبتزُّون المرشحين والناخبين على السواء، وكانت الانتخابات مجالًا فسيحًا للسباب، والمُهاترة، وسوقًا رابحة لبيع الضمائر والذمم. وأضحت الحزبية تحزبًا أعمى للأشخاص وليس للعقائد والمبادئ، عمادها التضليل والمغالطة، وغايتها المحاباة والمحسوبية. وجاءت البرلمانات مَعيبة في نواحٍ عديدة، في كفاية أعضائها، وحسن اختيارهم، واستقلالهم، ومدى اعتدادهم بآرائهم.
ومن هذا التشخيص لأمراض النظام الليبرالي في مصر، ينطلق المؤلفان إلى رسم خطة العلاج، فلا بد من تفسير المادة ٤٨ من الدستور التي جاء فيها «الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه.» تفسيرًا يقضي بحصر السلطة التنفيذية في أيدي الوزارة وحدها المسئولة أمام البرلمان وحده. كذلك ينبغي تعديل المادة ٤٩ من الدستور التي تقول بأن «الملك يعين وزراءه ويقيلهم» بحيث يراعي في هذا التعيين أو الإقالة رغبة الأمة، وإرادتها الممثلة في البرلمان، مع تعديل المادة ٣٨ التي تعطي الملك حق حل البرلمان ولا يسمح بتطبيقها إلا إذا أصبحت أغلبية المجلس لا تمثل الأمة، والحد من الاستفتاء عند كل أزمة وزارية ما دام رأي الأمة في الأغلبية لم يتغير.
والرقابة والتوجيه ليسا مقصورين — في رأي المؤلفَين — على البرلمان، بل تقاسم فيهما الوزارة البرلمان بنصيب كبير، فالوزير يرْقُب في وزارته الخدمات العامة في أدائها والسهر عليها، ويرسم الخطط ويضع السياسة العامة. ولكنهما لاحظَا أن الوزراء البرلمانيين لم يقنعوا بذلك، وأبَوا إلا أن يتدخلوا في كل جزئية ويوقعوا على كل ورقة، وحرصوا كل الحرص على أن يختصوا أنفسهم بالتعيين والعزل والترقية والنقل، وأثقلوا كاهلهم بأعباء لا داعي لها، وفتحوا على أنفسهم بابًا من الشفاعة والرجاء لا يريدون سدَّه، وبذلك قصَّروا في مهمتهم الأساسية، وعملهم الرئيسي.
وتمثل السلطة الإدارية الشق الثاني من الكتاب، وهي — على حد تعبير المؤلفَين — مظهر الأداة الحكومية وجانبها المتصل بالشعب، كما أنها سبيل النهوض الحقيقي، ومعيار النجاح الصحيح، فهي ترمي إلى أداء الخدمات العامة على وجهها الصحيح، وتيسيرها لأبناء الشعب على السواء.
واختتم المؤلفان الكتاب بمعالجة أوضاع السلطة القضائية فلاحظا أن النظام القضائي لم يخلُ من العيوب والمآخذ، فجهات القضاء متعددة تعددًا لا مثيل له في أي بلد من البلاد الراقية، فهناك المحاكم الأهلية، والمحاكم الشرعية، والمجالس المِلِّية، والمجالس الحِسبية. ولا يشعر القضاة بالاستقلال الكافي لأداء مهمتهم على الرغم من صدور قانون استقلال القضاة. والإنتاج القضائي شبيه تمامًا بالإنتاج الإداري، فهو بطيء في سيره، ناقص في كَمه ونوعه، مما يستوجب إصلاحًا عاجلًا.
فيجب أن يقف المصريون أمام محكمة واحدة، وأن يُعاد النظر في قانون استقلال القضاء بحيث تتحقق لمجلس القضاء سلطة لا تقِل عن سلطة الجمعية العمومية في المحاكم المختلطة. وأن يُعيَّن المشتغلون في القضاء بمسابقة عامة، فتطبق المسابقة على اختيار أعضاء النيابة في أول درجاتها فلا يُسمح بالتعيين في تلك الوظائف دون مسابقة عامة، محددة الشروط، وعلنية النتائج، وفيما وراء هذه المسابقة ليس ثمة تعيين آخر، إنما هو نقل وترقية، على أن يُوكَل لمجلس القضاء أمر الإشراف على التنقلات والانتدابات بين رجال القضاء بما يحقق ضبطها، والبعد بها عن أهواء السياسة والساسة، كما يجب تحصين القضاة ضد العزل، ولا يُحالوا على المعاش إلا عند بلوغ سن التقاعد.
«يقتضي إصلاح نظم الدولة، أولًا: إدعام النظام النيابي، وذلك بتقليل عدد ممثلي الأمة، وضمان نزاهة الانتخاب والفصل في الطعون، وتوسيع اختصاص المجالس الإقليمية والمحلية وإنعاشها، وإنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات. وثانيًا: إدعام النظام الإداري، وذلك بمنح وكيل الوزارة الدائم سلطة كافية تجعله الرئيس الفعلي لوزارته في كل ما يتصل بالعمل والتنفيذ، وتحديد مسئولية الموظفين، وتوسيع اختصاصهم بما يتناسب ودرجتهم في السلم الإداري، ووضع التوظيف على أساس مسابقة عامة تبعد به عن المؤثرات «الحزبية والشخصية، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الإدارة الحكومية، وتوحيد جهات القضاء توحيدًا يبرز العدالة على وجهها اللائق ويسوي بين أبناء الوطن.»
ويلاحظ على هذا القرار إغفاله التام لركن هام من أركان إصلاح نظام الحكم، وهو تعديل مواد الدستور التي تطلِق يد الملك في الحكم وتَغل النظام البرلماني الليبرالي. ومن عجب أن يُغفل أعضاء الجماعة مناقشة هذا الموضوع الهام في الاجتماع الذي خُصص لدراسة «نظام الدولة» رغم أنه ركن أساسي في الإصلاح المنشود. ولا نملك تفسيرًا لهذا الموقف إلا أن يكون طابع الحذر والحيطة والحرص على التحرك بتؤدة قد أملى على أعضاء الجماعة هذا الموقف حتى لا يثيروا غضب القصر.
ويرتبط بإصلاح نظام الحكم ثلاث مسائل هامة بحثتها الجماعة في اجتماعاتها بحثًا مستفيضًا، هي: التعليم، والجنسية، والدفاع الوطني، وهي نفس الموضوعات التي اختتم بها مريت غالي حديثه عن إصلاح نظام الدولة في كتابه «سياسة الغد» الذي سبقت الإشارة إليه.
وقد حظي موضوع التعليم بجلستين كاملتين من جلسات جماعة النهضة القومية؛ لارتباطه الوثيق بركن هام من أركان إعادة بناء النظام الليبرالي — من وجهة نظر الجماعة — ونعني به الاهتمام بالتربية القومية باعتبارها شرطًا أساسيًّا لنجاح التجربة الليبرالية.
وأبرزت المناقشات التي دارت حول قضية التعليم رؤية الجماعة لها، فهم يرون أن التجربة النيابية البرلمانية قد بدأت والتعليم يعاني نقصًا من نواحٍ عدة، ولا يكوِّن العقلية القومية المنشودة، ولا يخضع لتوجيه موحَّد يُرسم له بسياسة شاملة، وهو أمر أدركه واضعو دستور ١٩٢٣م فنصوا على أن يشرع للتعليم جميعه من جديد، وعلى كونه إلزاميًّا ومجانيًّا في مرحلته الأولى. وأن خطوات هامة اتُّخذت في هذا الصدد، فبُذلت جهود مختلفة تشريعية، وإدارية لنشر التعليم، واستكمال بعض فروعه، وإصلاح الكثير من مناهجه، وحدث توسع في التعليم الأولي، وأُخذ بمبدأ توحيد الإشراف الفني على التعليم ورده إلى وزارة المعارف.
ولكن لاحظ أعضاء الجماعة أن التعليم في حاجة إلى إصلاح ما يشوبه من عيوب أهمها غياب سياسة قومية تعليمية ثابتة، مما جعل محاولات الإصلاح تتعارض مع بعضها البعض، وخضعت تلك الإصلاحات للأهواء الحزبية؛ ففقدت عنصر الاستقلال الذي يتطلبه النظام التعليمي، كما أن النظام التعليمي يُعنى بالكم وحشو أذهان الطلاب بالمعلومات أكثر من عنايته بالكيف وتحقيق المستوى اللائق، مما هبط بالتعليم هبوطًا بدَا أثره في دواوين الحكومة والأعمال الحرة، كما أن فكرة التوحيد الثقافي في مرحلة التعليم الهام مهمَلة، فهناك تعليم ديني وآخر علماني، وتعليم مصري وآخر أجنبي، وأنظمته تكاد تتعارض ولا تلتقي عند معالم يجب أن يلتقي عندها أبناء الشعب الواحد. ولم يُراع تقديم الأهم على المهم، فبينما يستنفد التعليم العالي جانبًا كبيرًا من الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم، لا يحظى التعليم الأولي بنفس الاهتمام.
أما عن موضوع الجنسية، فقد انتهى أعضاء الجماعة من دراسته إلى ضرورة أن يُعاد النظر في القانون الخاص بالجنسية الذي صدر عام ١٩٢٩م بما يتلاءم وظروف أمة مستقلة، مع مراعاة أن يقترن تشريع الجنسية بتشريع آخر ينظم الهجرة والإقامة في مصر، على أن يرتبط التشريعان ببعضهما البعض، وبقدر التوسع في تيسير وسائل التجنس ينبغي الاحتياط في أمر الهجرة والإقامة بالنظر لظروف الحرب وآثارها.
وموقف الجماعة من قضية الدفاع الوطني مرتبط — كما سنرى — برؤيتها للسياسة الخارجية، وموقفها من القضية الوطنية.
•••
وهكذا كانت رؤية جماعة النهضة القومية للمسألة الاجتماعية ذات طابع إصلاحي ليبرالي ينشد النجاة بالتجربة الليبرالية مما يتهددها من أخطار نشأت عن ازدياد حدة التناقضات الاجتماعية وتفاقمها خلال الحرب العالمية الثانية، في محاولة للوقوف في وجه ثورة اجتماعية كان احتمالها كبيرًا، ما لم يُقَم نوع من التوازن الاجتماعي يحقق قدرًا من الاستقرار الاجتماعي، وهو توازن لا يتم إلا إذا قدمت الشرائح العليا من البورجوازية تنازلًا — ولو جزئيًّا — عن بعض امتيازاتها.
غير أن البرنامج الإصلاحي للجماعة اتسم بالتردد، واستجداء عطف البورجوازية على فكرة الإصلاح أكثر من تنويرها وتنشيط وعيها الاجتماعي، كما اتسم بإلقاء العبء كله على عاتق الدولة دون تقديم تحديد واضح للموارد التي تتمكن الدولة عن طريقها من الاضطلاع بعبء الإصلاح.
ولم يغب عن الجماعة أن ترسم خطة لإصلاح نظام الحكم الليبرالي يخلصه من مثالبه، ويفتح المجال أمام البورجوازية المصرية للإمساك بزمامه بعد تخفيف وطأة الميول الأوتقراطية للقصر، ولم يغب عنها أيضًا أن تقدم رؤية سياسية لعلاقات مصر بالعالم من حولها، وتقترح حلولًا للمسألة الوطنية في إطار عام لخطة رأت فيها الجماعة نهوضًا بمصر، وتدعيمًا لدورها السياسي والحضاري.