رؤية الجماعة للمسألة السياسية
كانت مصر تشرف على مرحلة جديدة من تاريخها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ودارت في المنتديات السياسية وعلى صفحات الجرائد على اختلاف اتجاهاتها ومشاربها السياسية مناقشات حول مصير مصر في عالم ما بعد الحرب، ولئن كان معظم الجدل الذي دار في تلك الحقبة حول إعادة النظر في معاهدة ١٩٣٦م التي أثبتت الحرب أنها لم تكن بحال من الأحوال «معاهدة الشرف والاستقلال» وأنها ألقت على عاتق مصر تبعات ثقيلة دون أن يكون لها في الحرب ناقة ولا جمل؛ فعرَّضتها للخطر، وأرهقت اقتصادها، وكان حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م أقوى دليل على أن السلطة الحقيقية في البلاد ظلت — رغم المعاهدة — في يد بريطانيا.
ويرتبط بتحديد العلاقة مع بريطانيا، أو ما سُمي ﺑ «القضية المصرية» المسألة السودانية التي كانت الصخرة التي تحطمت عليها جميع المفاوضات المصرية البريطانية منذ تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م حتى توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وكانت مرونة موقف المفاوض المصري وضغوط الموقف الدولي من العوامل التي ساعدت على إبرام المعاهدة، غير أن حقوق مصر في السودان ظلت بحاجة إلى تحديد، وإلى اعتراف محدد من جانب بريطانيا.
وخلال السنة الأخيرة للحرب بدأت المنطقة كلها تشهد رجْع الصدى لدعوة الوحدة العربية التي تم احتواؤها في صيغة «جامعة الدول العربية» بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ لتبرز على الساحة السياسية المصرية مسألة العلاقات المصرية العربية التي تأرجحت بين تحمُّس للفكرة، والنظر إليها بتحفُّظ، وكان على الأحزاب والهيئات السياسية المصرية أن تحدد موقفها من تلك الصيغة التي انتهت إليها دعوة الوحدة العربية.
ومع نهاية الحرب كان من المتوقَّع أن يكون هناك مؤتمر للسلام، قد تُدعى إليه مصر باعتبارها من الدول التي تحمَّلت تبِعات كبارًا خلال الحرب، وإن كانت لم تشارك فيها سوى مشاركة رمزية عندما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها. كما كان من المتوقع أن تقوم منظمة دولية جديدة تَخلُف عُصبة الأمم، وتضع نظامًا جديدًا للسلام والأمن الدولي. ودار جدل في الأوساط السياسية المصرية حول جدوى مساهمة مصر في وضع أسس السلام، وتنظيم المجتمع الدولي في عالم ما بعد الحرب.
لذلك كان على جماعة النهضة القومية أن تحدد موقفها من تلك القضايا، وأن تقدم رؤيتها الخاصة لها، طالما كان هدفها رسم طريق مصر فيها بعد الحرب. وإذا كانت الجماعة قد ركَّزت على السياسة الداخلية التي قادها إليها اهتمامها بالإصلاح الاجتماعي، وإصلاح أداة الحكم، فإن ارتباط السياسة الداخلية بالسياسة الخارجية، جعل الجماعة في وضع يدعوها إلى تحديد موقفها من القضايا السياسية المطروحة على الساحة المصرية.
وهكذا عبَّرت جماعة النهضة القومية عن رؤيتها لِمَا أسميناه بالمسألة السياسية والتي تمثل القضايا السياسية التي دار الجدل حولها في مصر عند نهاية الحرب، ونعني بها موقف مصر من النظام الدولي الجديد، والعلاقة بين مصر وبريطانيا، والمسألة السودانية، والعلاقات المصرية العربية. وجاء هذا التعبير في المناقشات التي دارت في اجتماعات الجماعة، وفي المطبوعات التي صدرت عنها، وساهم فيها ثلاثة من أعضاء الجماعة من أساتذة القانون هم: وحيد رأفت، وزهير جرانة، ووديع فرج، والتي تمثِّل حصاد أربع محاضرات ألقاها ثلاثتهم ضمن سلسلة المحاضرات التي نظَّمتْها الجماعة بالتعاون مع مركز الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في ربيع عام ١٩٤٩م، وصدرت تلك المطبوعات عن دار الفصول التي عُنِيت بنشر مطبوعات الجماعة، والتي كان يمتلكها محمد زكي عبد القادر أحد مؤسسي الجماعة.
النظام الدولي الجديد
ورأى أعضاء الجماعة أن مصر يجب ألا تكون بمنأى عن الجهود التي قد تُبذل بعد انتهاء الحرب لوضع أسس السلام الدولي، سواء إذا عُقد مؤتمر للصلح تُسوَّى فيه مشاكل المحاربين وحدهم، أو عُقد مؤتمر ينظم شئون العالم ويعمل على صيانة السلام؛ لأنها بكل المعايير كانت طرفًا في الحرب، وإن لم تكن من بين المحاربين فعليًّا؛ لأن ما قد تُسفر عنه تلك المؤتمرات من قرارات ومواثيق سوف يمس مصالح مصر، بالتالي يجب أن تلعب مصر دورًا في وضع أسس نظام ما بعد الحرب بحكم موقعها الجغرافي، ومركزها في البحر المتوسط، ومكانها من وادي النيل ومنابعه، وصلتها بالعالم العربي.
ورأى أعضاء الجماعة أن لمصر مصالح خاصة تدفعها إلى الاشتراك في المؤتمرات التي تعقُب الحرب، فهي تساعد على إبراز مركز مصر الدولي الذي حرصت عليه باشتراكها في عصبة الأمم؛ توطيدًا لاستقلالها، وإظهارًا له في مظهر دولي سليم، كما أن من مصلحتها أن تراعي مصالحها فيما يوضع للعالم من نظم اقتصادية تمس الإنتاج، والتبادل التجاري، والمواصلات العالمية، فضلًا عن حاجتها الماسَّة إلى أن يكون لها شأن في كل ما يتصل بالوضع السياسي في البلاد المتاخمة لوادي النيل ومنابعه، والبلاد الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وواجبها تجاه العالم العربي.
لذلك رأت الجماعة ضرورة التحرك لتدعيم حق مصر للاشتراك في وضع أسس النظام الدولي الجديد اشتراكًا فعليًّا، باتباع وسائل من أهمها تهيئة الرأي العام المصري لاعتناق هذه الفكرة والتمسك بها، باعتبارها مسألة قومية بالغة الحيوية، وإقناع الرأي العام الدولي — وخاصة في بريطانيا، وأمريكا، والاتحاد السوفيتي — بما لمصر من مركز دولي خاص، وحقوق خاصة، وضرورة أن تعلن مصر فورًا أنها لن تقر أي اتفاق دولي يمس مصالحها لا تساهم في صياغته. لذلك ترى الجماعة دعوة المسئولين في مصر إلى أن يُعيروا هذه المسألة اهتمامًا أكبر من ذي قبل، وأن يمهِّدوا لاشتراك مصر في وضع النظام الدولي الجديد بالوسائل الدبلوماسية.
القضية الوطنية
ومن ثم رأت الجماعة ضرورة البدء بمحاولة الاتفاق مع بريطانيا عن طريق المفاوضات، وهو أمر ممكن إذا أُعد له إعدادًا جيدًا، فيجب أن نعرف أولًا ماذا نريد، ويجب أن يكون أساس تحديد الهدف المصلحة الوطنية المصرية وحدها بحيث نُقصي العاطفة إقصاء تامًّا، وأن نكون عمليين في تحديد تلك الأهداف، على أن يكون هناك حد أدنى لا يجب النزول عنه يتولى الساسة تحديده قبل الدخول في أي مفاوضة، على أن يتضمن عدم تمكين الإنجليز — تحت أي ستار كان — من العودة إلى حكم مصر حكمًا غير مباشر سواء من خلال الوجود العسكري، أو التحكم في مياه النيل، أو الدفاع المشترك أو غيره من الوسائل. كما يجب التعرف على الحد الأقصى الذي يستطيع الإنجليز الالتقاء مع مصر عنده، مع مراعاة المرونة في المفاوضات.
ويلاحَظ هنا أن الجماعة لم تكن تدرك أن قضايا التحرر الوطني كل لا يتجزَّأ، فلم يكن من المعقول أن تؤيد هولندا، وفرنسا، وأثيوبيا مصر إذا أبدت عدم اكتراثها بقضايا التحرر الوطني في إندونيسيا، والمغرب العربي، وإريتريا لمجرد وقوفها هذا الموقف، ويبدو أن الجماعة لم تدرك أن الاستعمار كان يحارب معركة وجوده في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأن ما كان يعني الدول الاستعمارية إقامة نوع من التوازن بينها يكفل لمصالحها الاستعمارية الاستمرار والبقاء.
فالاستقلال في رأي الجماعة — إذًا — يفتح الطريق لدور إيجابي تلعبه مصر بانضمامها إلى الكتلة الغربية. وهنا تنفرد الجماعة بهذا الموقف بين الأحزاب السياسية المصرية، والتيار العام للحركة الوطنية المصرية التي وقفت موقف المعارضة من الدخول في الأحلاف العسكرية، أو مشروعات الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط.
ولعل عدم مناقشة الجماعة لمسألة عرض القضية المصرية على مجلس الأمن يرجع إلى توقف اجتماعاتها في أوائل ١٩٤٧م، وإن كانت لم تصدر بيانًا أيضًا يحدد موقفها من المسألة.
وكما رأت الجماعة أن تضع الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في عنق الحكومة، كذلك رأت ترْك أمر تسوية العلاقات المصرية — البريطانية للحكومة أيضًا، فهي ترى أن يدير «الساسة» دفة المفاوضات، ولا تحدد دورًا للقوى الشعبية يتسم بالإيجابية ويمثل ظهيرًا للمفاوض المصري، وكان كل ما استوعبته الجماعة من دروس ثورة ١٩١٩م ذلك الموقف الشعبي المعارض للجنة مونرو، فلم ترَ للنضال الشعبي مكانًا في مساندة جهود المفاوضات بدليل أنها أغفلته تمامًا عند تحديد الوسائل التي تُتَّبع لتحقيق الاستقلال بطريق التفاوض. وكيف تقتنع بريطانيا بأن مصلحتها في كسب صداقة مصر إذا أحسَّت أن ليس ثمة ما يُكدِّر صفو وجودها في مصر، ويجعل في التماسها صداقة المصريين كسبًا؟ ناهيك عن قيام التسوية على أساس تدويل القناة، وهو أمر لم يكن مقبولًا على الساحة السياسية المصرية وعلى مستوى الرأي العام المصري، كما أن ظروف بريطانيا التي خرجت من الحرب منتصرة، لم تكن لتجعلها تقبل بهذا الحل حتى لو أجمع المصريون عليه.
أضف إلى ذلك فكرة انضمام مصر إلى الأحلاف العسكرية الغربية التي ألحت على أذهان رجال جماعة النهضة القومية، وبُنيت على تصور أن لمصر دورًا تقليديًّا في منطقة شرق البحر المتوسط يجب أن يستمر وربط هذه الفكرة بقضية الاستقلال وبقاء الجيش، دون أن تضع الجماعة في اعتبارها أن دخول مصر في مواثيق عسكرية مع الغرب يلزمها بداهة بالقبول بوجود قواعد عسكرية لحلفائها على أراضيها بالنظر لموقعها الاستراتيجي الهام، كما يلزمها باتباع سياسة خارجية تتفق مع مصالح حلفائها، فتصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار، تستبدل استقلالًا منقوصًا باستقلال وهمي.
المسألة السودانية
اهتمت جماعة النهضة القومية عشية تأسيسها بمسألة السودان، فخصصت جلسة كاملة لمناقشتها (في ٧ نوفمبر ١٩٤٤م) بل قدمتها على مناقشة القضية المصرية، فعلى حين ناقشت القضية المصرية في الجلسة الخمسين، تداولت حول مسألة السودان في الجلسة الرابعة، مما يبين لنا مدى اهتمام الجماعة بالسودان، وانتهزت الجماعة فرصة زيارة عضوين من أعضائها للسودان هما: محمد زكي عبد القادر، ووديع فرج، وكلفتهما بدراسة الأوضاع هناك على الطبيعة، ثم عادت وناقشت تقريرهما عن الزيارة في جلسة خاصة (الجلسة السادسة والأربعين) في ١٢ فبراير ١٩٤٦م. وامتدت المناقشة إلى الجلسة التالية لها. كما كلفت الجماعة زهير جرانة بإعداد محاضرة عن المسألة السودانية ألقاها ضمن سلسلة المحاضرات التي نظمتها الجماعة لشرح وجهة نظرها بالتعاون مع مركز الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية في ربيع ١٩٤٩م.
وركزت الجماعة في مناقشاتها الأولى للمسألة السودانية على الأساس الذي يجب أن تقوم عليه مطالب مصر في السودان، وما إذا كان حق الفتح يصلح كأساس لتلك المطالب، أم ظروف مصر الاقتصادية والاجتماعية التي تفرض عليها الإشراف مباشرة على مشروعات النيل، وتوجيه نشاطها نحو تعمير السودان «القُطر الشقيق» والعمل على النهوض به باعتبارها أقدر من غيرها على ذلك.
ولاحظت الجماعة ضرورة البحث في رغبات السودانيين أنفسهم بعيدًا عن أي مؤثر أجنبي، ومن هنا كانت مهمة محمد زكي عبد القادر، ووديع فرج التعرف عن تلك الرغبات على الطبيعة حتى تستطيع الجماعة تحديد موقفها منها.
وانتقلت الجماعة بعد ذلك إلى دراسة الوضع الإثني للسودان، وما إذا كان يمثل كتلة واحدة، أم أن هناك فوارق تجعل بعض أجزاء السودان ألصق بمصر من بعضها الآخر.
وانتهت الجماعة من دراستها لحصاد الزيارة إلى أن للسلطة الروحية أثرًا واضحًا في حياة السودان الشعبية، وأن في إمكان مصر أن تنفذ إلى السودان عن هذا الطريق بإيفاد العلماء ورجال الدين. كما رأت أن من العبث فصل جنوب السودان عن شماله؛ لأن حياة الشمال متوفقة على الجنوب، ولو فُصل الجنوب لأصبح السودان عبئًا على من يضطلع بمسئولياته، وخاصة أن في جنوب السودان مواردَ لم تُستغل بعد، قد تكون الهدف الحقيقي الذي يدفع بالإنجليز إلى محاولة فصله عن الشمال والتظاهر بالتشبث به أكثر من غيره. ورأت أيضًا أن الاستفتاء لا يصلح أساسًا لتقرير مصير السودان؛ لأن الدعائم التي يقوم عليها الرأي العام لم تكتمل بعد، والمثقفين السودانيين على قلة عددهم عرضة للتأثير، وخاصة أن الإنجليز أكثر اتصالًا بالحياة السودانية — على مدى ربع قرن — من المصريين.
وإذا كانت الجماعة قد نهجت منهجًا وحدويًّا بالنسبة للسودان بدافع من مصلحة مصر في مياه النيل، فقد كان لها موقف مغاير من فكرة الوحدة العربية تتضح معالمه من رؤيتها للعلاقات المصرية — العربية.
العلاقات المصرية العربية
فقد ناقشت جماعة النهضة القومية ما أسمته «مسألة صلة مصر بالعالم العربي» في جلسة خُصصت لهذا الغرض، ودارت المناقشة حول تحديد المعنى المراد من العالم العربي، ولاحظت الجماعة أن العالم العربي في مفهوم الناس — في تلك الأيام — لم يكن محددًا تحديدًا دقيقًا، فكثيرًا ما يتم الخلط بينه وبين العالم الإسلامي، ورأت أنه لا مفر من «إدخال فكرة الجنس في تحديد العالم العربي» لأن الدولة الإسلامية في حرصها على استقلالها لا تدع للدين مجالًا كبيرًا في تفسير المراد منه، ورأت أن دائرة العالم العربي تنحصر — إذًا — في البلاد الناطقة باللغة العربية التي تؤلف بينها مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية، وأنها على وجه التحديد مصر والشام (سوريا، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن) والعراق، وجزيرة العرب (المملكة العربية السعودية واليمن) واعتبرت بلاد شمال أفريقيا (ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى) تدخل ضمن إطار العالم العربي، ولكن ظروفها — عندئذٍ — تحول دون الاتصال ببلاد المشرق العربي، ومن ثم فهي بعيدة — مؤقتًا — عن الجهود التي تُبذل لإيجاد نحو من «التآلف والارتباط» بين بلاد العالم العربي.
ويلاحظ على هذا التعريف طابع التعميم دون التحديد فهو لا ينظر إلى ارتباط مصر بالعالم العربي من زاوية أن ثمة أمة عربية ذات تاريخ مشترك، وآمال وأهداف مشتركة، بل لا يَعتبر العرب يكوِّنون أمة واحدة؛ فهناك أمة مصرية، وأخرى عراقية، وثالثة شامية، وهلم جرًّا. ويَعتبر إيجاد نوع من الرابطة بين ما أسماه «بلاد العالم العربي» تمشِّيًا مع الاتجاه العالمي لتكتل «المجموعات الدولية المتجاورة»، وينظر إلى تلك الرابطة من منظور براجماتي محض، فالتبادل التجاري والثقافي، وفوق ذلك النفوذ السياسي هي أهم عوامل ذلك «التآلف والارتباط» على حد تعبير الجماعة التي لم تستخدم — مثلًا — مصطلح «الوحدة»، أو الاتحاد. ولعل ذلك راجع إلى أن جماعة النهضة القومية كانت ذات توجه قومي مصري، وكانت تؤمن بانتماء مصر إلى عالم البحر المتوسط حضاريًّا، وهي بذلك تُعَد امتدادًا للتيار القومي المصري الذي بلغ أشده في مصر في العشرينيات والثلاثينيات، ولا أدل على ذلك من نظرتها إلى العلاقة المنشودة بين مصر وبلاد العالم العربي.
فلمصر — إذًا — شخصية مستقلة، وقومية مستقلة يجب ألا تطغى عليها الجهود المبذولة لإيجاد تآلف بين بلاد العالم العربي، وهذا التآلف لا بد أن يسخر لخدمة مصالح مصر وحدها. وهو الاتجاه الذي تجلى بوضوح عند الجماعة في أعقاب حرب فلسطين عام ١٩٤٨م.
وهكذا جاءت رؤية جماعة النهضة القومية للمسألة السياسية تعبيرًا عن هويتها السياسية كجماعة ليبرالية ذات توجه قومي مصري ترى أن لمصر دورًا قياديًّا في منطقة الشرق الأوسط متصل الحلقات بتراثها التاريخي الذي يربطها بحوض النيل، ومنطقة شرق البحر المتوسط، ويرشحها للعب دور إيجابي في النظام العالمي الذي يوضع لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكنها عندما راحت ترسم أبعاد هذا الدور تصورت ضرورة إيجاد رابطة ما بالكتلة الغربية، قد تضع على عاتق مصر نصيب المشاركة في النظام الدفاعي لتلك الكتلة. ومن هنا كان اهتمامها بتقوية الجيش وتحسين قدراته الدفاعية مرتبطًا بهذا الجانب من رؤيتها السياسية. ولا تختلف عن التيار العام في الحركة الوطنية المصرية من حيث التمسك بوحدة وادي النيل وحل القضية الوطنية بطريق التفاوض إلا في أنها لا تدخل القوى الشعبية الجماهيرية في حسابها، بل تترك أمر تحديد العلاقة مع بريطانيا على أسس الاستقلال لجهود الساسة من أبناء البورجوازية المصرية وحدهم، وتركز على ما ليقظة الرأي العام بين تلك الطبقة من أهمية في تحقيق الاستقلال المنشود.
ولم تعِ الجماعة — بحكم انتمائها الأيديولوجي — البعد العربي لدور مصر السياسي، فنظرت إليه من زاوية مصلحة مصر القومية وحدها؛ فأنكرت انتماء مصر العربي، وقللت من أهمية هذا الانتماء. ولكنها بتقديمها لرؤيتها لدور مصر السياسي استكملت جوانب تصورها لمسيرة مصر في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.