تصدير
ظهرَت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بمدينة نيسابور بخُراسان فرقة من فِرَق الصوفية أُطلِق عليها اسم المَلامَتيَّة أو المَلاميَّة، أسَّسها رجالٌ من أصدَق رجال الطريق في ذلك القرن الذي امتاز في تاريخ التصوُّف الإسلامي بالوَرَع والتقوى الحقيقيَّين، كما امتاز بقوَّة العاطِفة الدِّينية وجهاد النَّفس العنيف، ومُحارَبتها ومُحاسبَتها على كلِّ ما فرَط منها وما يُحتمَل أن يفرُط منها. وليس مَسلك المَلامَتيَّة إلَّا صورة من صُور الزُّهد الغالِبة في ذلك العهد، لها خصائصها ومُميِّزاتها الإقليمية، إن صحَّ هذا التَّعبير. أقول من صُور الزُّهد، ولا أقول من صُوَر التصوُّف؛ لأنَّ مسلك المَلامتيَّة مسلك عمليٌّ من أوَّلِه إلى آخره، ومجموعة من الآداب يُقصَد بها إلى مُجاهَدة النفس ورياضتها مُجاهدةً ورياضةً تؤدِّيان بالسَّالك إلى إنكار الذات، ومحو علائم الغُرور الإنساني، وإطفاء جَذوة الرِّياء في القلب، أكثر من تأدِيَتِهما إلى أحوال الجَذْب والمَحْو والفناء والاتِّصال والسُّكر والجمع، وما شاكل ذلك من الأحوال التي تكلَّم فيها غيرهم من الصُّوفيَّة ورَسَموا الطريق لتحقيقها. بل إن كانت مِيزة يَمتاز بها مَذهب المَلامتيَّة حقًّا، فهي مُحارَبَتُهم في تعاليمِهم كلَّ مظاهر التَّصوُّف السابقة، ومُحاولتُهم الرُّجوع بالزُّهد الإسلامي إلى سِيرتِه الأولى البسيطة.
وليس للمَلامَتيَّة كُتب مؤلَّفة كما يقول السُّلَمِي صاحِب الرسالة التي سننشُرُها في القِسم الثاني من هذا البحث؛ فإنه لم يُؤثَر عن أحدٍ من أشياخِهم أنه كتَب في طريقتِهم كِتابًا، أو على الأقلِّ لم يصِل إلينا عِلم بمِثل هذه الكُتب على افتِراض وجودِها. وأكبر الظنِّ أنَّه لم تكُن لهم طريقةٌ منظَّمة وقواعِد ثابتة مُقرَّرة وأتباع يَنتمون إلى المَشايخ انتماءَ أهل الطُّرق المُتأخِّرين، ولكن كانت لهم صِفاتٌ وآدابٌ تكفي في التَّمييز بينهم وبين طوائف الصُّوفيَّة الأخرى مِمَّن عاصَرُوهم أو عاشوا بعدَهم. وكان لشُيوخِهم أتباع غيرُ قليلين في البيئة التي نشأ فيها مَذهَبهم: أعني خُراسان، ونَيسابور منها خاصَّة. وإنما الذي أُثِرَ عن المَلامتيَّة أقوال لها طابَعٌ خاصٌّ، نجِد بعضها في رسالة السُّلَمي المذكورة، وبعضها في تراجِم رجال المَلامتيَّة في كُتب طبقات المَشايخ، وفي مَعرِض التَّمثيل والاستِشهاد في مصادر التَّصوُّف الأخرى ككتاب اللُّمَع للسراج، والتعرُّف لمَذهب أهل التَّصوُّف للكلاباذي، والرِّسالة للقُشَيري، وقُوت القلوب لأبي طالِب المَكِّي، وعَوارِف المَعارِف للسَّهْروَرْدي، وكشف المَحجوب للهَجويري، والفُتُوحات المكِّيَّة لمُحيي الدِّين بن عربي، وخصوصًا في هذا الأخير الذي خَصَّ مُؤلِّفُه المَلامتيَّة بكثيرٍ من العِناية، ورفَعَهم إلى مقامٍ في الولاية لا يُدانِيهم فيه أحد. أمَّا الإشارة إلى شُيوخ المَلامتيَّة وأقوالِهم وآدابِهم في الكُتب التي أُلِّفَت قبل السُّلَمِي فقليلة مُقتضَبة، وفي أغلب الأحيان عرَضِيَّة. والأمر على خِلاف ذلك في كُتُب التصوُّف التي ظهرت بعد عصر السُّلَمي وبعد كتابَتِه لرسالته في هذه الطائفة وأصول مذهبها، أمثال كشْف المَحجوب، وعوارِف المَعارف، والفتوحات؛ فإنَّ في هذه الكتُب عباراتٍ وافِية ضافِية في شرْح معنى «الملام» و«المَلامتيَّة»، وإشارات عديدة إلى أقوال حمدون القصَّار وأبي حفص الحدَّاد وأبي عُثمان الحيري وغيرهم من رجال هذه الطائفة الأوَّلِين، كما أنَّ فيها دِفاعًا حارًّا أحيانًا عن أساليب المَلامتيَّة وآدابِهم في الطريق الصُّوفي، ومُقارنة بينهم وبين الصُّوفيَّة وما إلى ذلك. وليس لهذه الظاهرة تَعليل عِندي إلَّا أنَّ الكُتَّاب الذين كَتبوا في المَلامتيَّة بعد ظهور رسالة السُّلَمي قد اقتبسوا مما كتَبَه في هذا الموضوع، وأفاضوا في شَرْح ما أجمَلَ في كلامِه عن أصول تعاليم هذه الفِرقة، فكانوا في ذلك عِيالًا على السُّلَمي ورسالته التي لا مناص من اعتبارِها المَرجِع الأول والمصدر الأساسي في دراسة المَلامتيَّة. وليس الدَّليل على صِحَّة ما ذهبتُ إليه بعزيز؛ فإن الشَّواهد التي تدلُّ على اعتِماد أولئك الكُتَّاب على رسالة السُّلَمِي وأخذِهم عنه كثيرة وقوِيَّة، كما سَيتبيَّن للقارئ عندما نعرِض للكلام عن مَذهب المَلامتيَّة في هذا البحث.
وإذا كان للمَلامتيَّة، من حيث هُم فِرقة من فِرَق التصوُّف بمعناه العام، مَنزلة لا تُجحَد في تاريخ الفِرق الإسلامية، وإذا كان لتَعالِيمهم وآدابِهم أثرٌ ظاهر في تَطوُّر الحياة الرُّوحية في بعض نواحي العالَم الإسلامي على الأقل، وهو أثر تَجاوز مَوطِن الملامتيَّة الأصلِيَّ في خُراسان إلى غيره من بلاد المُسلمين، وظل يلعَب دَورًا هامًّا في بعض الأقطار الإسلامية الشرقية — لا سيما تُركيا — إلى عهد قريب. إذا كان كلُّ ذلك أمكنَ أن يُدرِك القارئ القِيمة العلمية والتاريخية لهذه الوَرَقات التي نَنشُرها في الِقسم الثاني من هذا الكِتاب، وهي رسالة السُّلَمي عن فِرقة المَلامتيَّة وأصول مَذهبهم.
وبالنَّظر الدَّقيق في الأقوال المأثورة عن رجالهم، ممَّا رَواه السُّلَمي في رسالته، وما نجِده في تراجِم مشايخ خُراسان، نستطيع أن نُؤلِّف صورةً عامَّة — قد يُعوزها الكثير من التفاصيل — عن طريقة المَلامتيَّة وتعاليمهم. ولم يعمل السُّلَمي أكثرَ من أنَّه جمع ما وصَل إليه من أقوال هؤلاء المشايخ، وما عرَفه من تقاليدهم وعقائدهم وأحوالهم التي تميَّزوا بها من غيرهم، ووضَع كلَّ ذلك في صورة «أصول» توضِّح الأسُسَ التي قامت عليها طريقتهم، تاركًا أقوالًا أخرى كثيرة لهم يَتَّفِقون في جَوهرها مع غيرهم من رجال التصوُّف، مُعزِّزًا هذه الأصول بشواهِد من القرآن أو الحديث أو أقوال بعض الصَّحابة وقُدَماء المشايخ. كما أنَّه لم يذكُر — على حدِّ قوله — إلَّا أطرافًا من هذه الأقوال «يُسْتَدَلُّ بها على ما وراءها» تاركًا للقارئ البحث عمَّا هنالك من المعاني المُستَتِرة وراء تلك الأقوال، والبحث عن أقوالٍ أُخرى للمَلامتيَّة لم يصِل إليها عِلمه، أو عَلِمَها ولم يشأ أن يذكُرها. وكأنَّ السُّلَمي يُشير بذلك إلى أنه يُخاطب برسالته عامَّةَ الناس الذين يَقنَعون من الأقوال بظواهرها، تاركًا تَفهُّم دقائق المَذهب المَلامَتي وتَعرُّف الرُّوح الحقيقي فيه إلى خَواصِّ القُرَّاء الذين لهم ذَوق في إدراك معاني القوم ونِكاتِهم. وقد كان له فضل السَّبْق في هذا المَيدان — كما قُلنا — لأنَّه أُتيح له من الفُرَص ما لم يُتَح لغَيره من مُؤرِّخي التصوُّف: فقد كان — إلى جانِب عِلمه الواسِع بتاريخ الصُّوفية ومَذاهبهم — حفيدًا لشَيخٍ من أكبر مَشايخ المَلامتيَّة هو أبو عمرو إسماعيل بن نُجيد السُّلَمي، آخِر مَنْ مات من أصحاب أبي عُثمان الحِيري النَّيسابوري. وقد لزِم السُّلَمي جدَّه وهو في صِباه، وعرَف منه أسرار المَلامتيَّة، وإن كان معروفًا أنه لم يكن في وقتٍ من الأوقات مَلامتيًّا.
على أن السُّلَمي لم يُصوِّر مذهب المَلامتيَّة بالصُّورة التي يرتَضِيها الباحث المُتعطِّش لمَعرفة هذا المَذْهب، وإن نجَح — إلى حدٍّ ما — في تأليف طائفة من الأصول تبلُغ نَيْفًا وأربعين أصلًا، تكفي في تمييز أهل المَلامَة من غيرهم من رِجال التصوُّف المُعاصِرين لهم، كما تَضعُ حدًّا فاصِلًا بين تعاليم المَلامتيَّة الأوَّلين ومَذهب المَلامتيَّة المُتأخِّرين الذين نَزَلوا بهذا المذهَب إلى أحطِّ دَرَجات الفساد والتَّدهْوُر. وهذا المذهب الأخير — لسُوء الحظِّ — هو الذي يَفهمُه الناس عادةً من اسم المَلامتيَّة، وهو مَقرون بمَعنى العبَث بأمور الدِّين والتَّراخي في العبادات، والمُباهاة بالفُجور والمَعاصي، كما يُقرَن اسمُ الكَلبِيِّين من اليونان بما كان عليه مُتأخِّروهم من انحطاطٍ في الأخلاق وانغِماسٍ في جميع ألوان الرَّذيلة، ويُنْسى ما كان عليه سلَفُهم من نُبل المبادئ وبُعد النظر الفلسفي.
وهنالك مسألة أخرى وهي: هل الصُّورة التي وضَعَها السُّلَمي في رسالته — على نقصِها — صُورة حقيقية تُعبِّر تعبيرًا صادِقًا عن طائفة المَلامتيَّة وآدابهم وتعاليمهم؟ أم هي من نَسيج خيال المُؤلِّف ومن وَضْعِه، وليس لها أساسٌ تاريخي تَستنِد إليه؟ الحقُّ أن جوابًا قاطِعًا عن هذا السؤال مُتعذِّر — إن لم يكن مُستحيلًا — في وقتِنا الحاضِر الذي يَجِب أن نعتَرِف فيه بجَهلِنا بكثيرٍ من حقائق التصوُّف وتاريخه. فمن المُستحيل أن نَقطَع بأن الأقوال التي رَواها السُّلَمي لشيوخ المَلامتيَّة كانت حقًّا من ألفاظ أولئك المَشايخ؛ لأنَّ كثيرًا منها لا وجود له في غير كُتُبه التي منها رسالتُه هذه، أو لا وجود له إلا في الأقوال التي رَواها عنه بإسناداته بعض تلاميذه كالقُشَيري وأبي نعيم. على أنَّنا إذا افترَضنا أن بعض هذه الأقوال ليس بالفعل من العِبارات التي فَاهَ بها شُيوخ الملامتيَّة — بالرغم من نِظام الرِّواية الدَّقيق الذي يَتَّبِعه المُؤلِّف وما يَذكره من الأسانيد — فإن هذا لا يقدَح في أنَّ المعاني التي تُعبِّر عنها هذه الأقوال، والتعاليم التي تُشير إليها هي في صميم مَذهبهم. ولكن عدَم توافُر المَراجِع الأخرى التي قد نستطيع عن طريقها تحقيق رواياته يُفسِح المجال للتُّهَم التي وجَّهَها إليه من يَرميه بأنه مُؤرِّخ غير ثِقَةٍ من شأنه أن يضَع للصُّوفية الأقوال والأحاديث، وهذه مسألة سنعرِض لها عند ترجَمتِه.