القسم الأول

مذهب المَلامتيَّة

نشأتُه التاريخية والصِّلة بين تعاليم المَلامتيَّة وتعاليم الصُّوفيَّة وأهل الفُتوَّة

(١) مَعاني المَلامَة والفُتوَّة والتَّصوُّف والصِّلة بينها

مضى نحو قرْنٍ من الزَّمان على ما كتَبه العلَّامة «فون هامر» في المجلَّة الآسيوية١ في مَوضوع الفُتوَّة الإسلامية وصِلتها بالفُروسيَّة الغربية، وأهميَّة دِراسة الفُتوَّة الإسلامية والحضارة الإسلامية عامَّةً في فَهْم الفُروسيَّة المَسيحيَّة. وكان هذا أول ما كُتِبَ في الموضوع بطريقةٍ علميَّة دقيقة. وكذلك ألقى العلَّامة «كاترمير» بعض الضوء على هذا الموضوع الغامِض المُتشعِّب الأنحاء في بعض تَعليقاته على كِتاب السُّلوك للمَقريزي.٢ ولكن لم يَظهر في الفُتوَّة الإسلاميَّة كِتاب أو مقال ذو بال حتَّى نشَر الدكتور «ثورننج»٣ سنة ١٩١٣ كِتابه الجَامِع الذي ألمَّ فيه بأطرافٍ لم يُعالِجها مَن قَبلَه واستَنَد فيه إلى وثائق تاريخيَّةٍ هامَّة. وقد ظهرت مقالات أخرى قَيِّمة في المَجالات العِلمية الألمانية لأمثال الأساتذة تِشْنَر وفون هارتمان وشاخت؛٤ إلَّا أنَّ هذا المَوضوع الحيَوي العظيم لم يلقَ بعدُ — لسوء الحظِّ — من العِناية بِدارسته دراسةً مُستَفيضة ما هو جدير به. والحقُّ أنه موضوع شاقٌّ عسير، أصعَب ما فيه جمْع مادَّته من بُطون الكُتب التاريخية والأدبيَّة والصُّوفية وكُتب الرَّحلات وغيرها، ولكن قيمتَه لا تُقدَّر في تفسير كثيرٍ من النَّواحي الغامِضة في التاريخ والأدَب والتصوُّف والحياة الاجتماعية الإسلامية، وفي إيضاح العلاقات بين الجماعات التي خضَعَت لنظام الفُتوَّة والتصوُّف وجماعات الفروسيَّة المَسيحيَّة في القُرون الوُسطى.
ولستُ أقصِد في هذا القِسم إلى مُعالَجة هذا المَوضوع الواسِع مُعالجةً تفصيليةً، ولا أن أعرِضَ لمَسألة نشأة نِظام الفُتوَّة في الإسلام أو في الأُمَم ذات الحضارة القديمة التي فتَحها المُسلمون، ولكنِّي آمُلُ أن أوَضِّح — بقدر ما تَسمَح به النُّصوص التي بين يدي — نواحي الشَّبَه وجِهات الفَرْق بين المَعاني الأساسيَّة للتصوُّف والفُتوَّة والمَلامَة، وأُحدِّد الصِّلة بينها منذ نشأة المَلامتيَّة الأوائل في القرن الثالث الهجري؛ وهي مسألة لم يَمَسسْها — إلا من طريقٍ عَرَضي — أحدٌ ممَّن كتَبوا في الفُتوَّة أو في التصوُّف؛ فإنهم دَرَسوا نُظُم الفتوَّة الإسلامية إمَّا من ناحِية صِلتِها بالفروسيَّة المَسيحيَّة كما فعل فون هامر، أو من ناحِية ما تمتاز به الفُتوَّة من صِفاتٍ عامَّة ثُمَّ ظهورها في صورة الفتوَّة الأرستوقراطية في عهد الخُلَفاء العباسيِّين، ثمَّ انتشارها بين طبَقات الشعوب الإسلامية الوسطى في ندَوات أهل الحِرَف والصِّناعات كما فعل فون هامر وثورننج، أو من ناحِية صِلة الفُتوَّة بالتصوُّف في كلِماتٍ عابِرة قد تَخْلو أحيانًا من دِقَّةٍ في التحليل كما فعل «هورتن».٥ ولم يَطرُق أحد موضوع الصِّلة بين الفتوَّة والمَلامَة إلا ريتشارد هارتمان في مَقالٍ خاصٍّ تحت عنوان «الفتوَّة والمَلامة»؛٦ ولكنَّه لم يعرِض للمَوضوع الأساسي لمَقالته إلَّا في الصَّفحتين الأخيرتَين منها مُعتمدًا على بعض فقرات وردَتْ في رسالة المَلامتيَّة للسُّلَمي ورسالة التَّصوُّف للقُشيري.

ونحن لا نزال نَشعُر بالحاجة إلى مَراجِع أغزَرَ مادَّةً في هذا الموضوع، وإن كانت رسالة السُّلَمي في الملامتيَّة قد تُلقي كثيرًا من الضوء على الجزء الأخير من هذا البحث لو حُلِّلَت بعضُ نُصوصها وقُورِنَت بِنصوصٍ أخرى كالتي وردَت في رسالة القُشيري، وفي فُتوحات ابن عربي، وكشف المحجوب للهجويري، وعوارِف المَعارف للسَّهْروَرْدي؛ وهذا ما حاولتُ القيام به في هذا القِسم من الكِتاب.

أما المَلاميَّة — أو المَلامتيَّة على غير قِياس — فيكاد يَنحصِر عِلمُنا بهم فيما أورَدَه السُّلَمي في رسالته وما أورَدَه كُتَّابُ الطبَقات عن مَشايخهم مما أخَذوه عن السُّلَمي. ولا نكاد نَتبيَّن في وضوحٍ شخصيَّة المَلامتيَّة ولا الفكرة الأساسية في مَذهبهم خلال ما ورَد من تعاليمهم في رسالة السُّلَمي لأنَّها في جُملتها مَصبوغة بصِبغةٍ سلبيَّة.

فالصِّفات التي يجِب ألَّا يَتَّصِف بها المَلامَتي أكثرُ من الصِّفات التي يَنبغي أن يكون عليها، والأفعال التي يُطالَبُ بتركِها أهمُّ من تلك التي يُطالَب بالقِيام بها. والتعاليم التي يَفرِضُها المَلامتيَّة على مُريديهم لا تكاد تعدُو سلسلةً من النَّواهي في تحريم كذا أو كراهِيَة كذا أو إنكار كذا. ولكنَّنا بالرَّغم من هذا نَستطيع أن نتبيَّن إلى حدٍّ كبيرٍ بعضَ الفوارِق التي يتميَّز بها المَلامَتي من غيره من الناس، صُوفيِّين كانوا أم غير صُوفيِّين أكثر مما نتبيَّن نَوع الحياة الرُّوحيَّة التي يَحياها.

فالمَلامَتي مثلًا مُطالَبٌ بألَّا يُظهِر عِبادَته أو وَرَعه وزُهدَه أو عِلمَه أو حالَه، وهو لا يتكلَّم في الإخلاص بقدْر ما يتكلَّم في الرِّياء الذي هو نَقيض الإخلاص، ولا يتكلَّم في فضائل النفس وكمالاتها بقدْر ما يتكلَّم في عيوب النفس وآفاتها ورُعوناتها. ولا يُطالِب نفسه بما يُقوِّم النفس ويُهذِّبها بقدْر ما يفرِض على نفسِه اتِّهام النفس وتَحقيرِها ومُصادَرَتها في جميع رَغَباتها ومَطامِعها. وهو يُفضِّل الكلام عن نقائص الأعمال ومَساوِيها على الكلام في مَناقِب الأعمال ومَحاسِنِها.

وإنك لتَجِد هذه الصِّفة السلبيَّة مُنعكِسة حتى في الاسم الذي اختارَتْه هذه الطائفة لنفسها، فاسمُ المَلامتية مُشتقٌّ من المَلامَة التي هي بَخْعٌ وتأنيب للنفس.

وربما كان لهذا الأسلوب من التعليم ما يُبرِّره — كما سيتَّضِح لك فيما بعد — لأن المَلامتيَّة قوم ثائرون على الكثير ممَّا كان مُقرَّرًا ومُعترفًا به عند الصُّوفيَّة وغيرهم من رجال الدين. فمِن الطبيعي أن يَضعوا ذلك النظامَ السلبيَّ ليُقاوِموا به نظامًا لم يَرضَوا عنه؛ ومن أجل ذلك أطلَقوا هذا الاسم على أنفُسهم في مُقابِل اسم الصُّوفية الذي كان يُسمَّى به أهلُ العِراق أوَّلًا. وقد اختُصَّ بهذا الاسم «المَلامتيَّة» أهل خُراسان. يقول السَّهْروَرْدي صاحِب عوارِف المَعارِف: «ولم يزل في خُراسان منهم طائفة ومَشايخ يُمهِّدون أساسهم ويُعرِّفونهم شُروط حالِهم. وقد رأينا في العِراق من يَسلُك هذا المَسلَك ولكن لم يُشتَهر بهذا الاسم. وقلَّما تتداوَل ألسِنة أهلِ العراق هذا الاسم.»٧
وليس ببعيدٍ أن يكون اسم المَلامتيَّة مُتَّصِلًا ببعض الآيات القرآنية التي ورَد فيها ذِكر اللَّوم، كقوله تعالى: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ،٨ وقوله: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛٩ فإن الآية الأولى تُعْلِي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المُؤنِّبة المُحاسبة له على كلِّ ما يصدُر منه، وهي النفس الكامِلة في الاصطلاح المَلامَتي. وتذكُر الآية الثانية من صِفاتِ عباد الله الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه أنهم أذلَّة على المؤمنين أعِزَّة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومَةَ لائمٍ ولا يَكترِثون بمدح الناس وذَمِّهم. فإذا فهِمنا الجهاد بالمعنى الصُّوفي أو المَلامَتي — أعني جهاد النفس — أدرَكْنا أنَّ الآية تُشير إلى أخصِّ صِفات الملامتيَّة، وأنَّها تصلُح لأن تُتَّخَذ أساسًا لمَذهبهم وتكون مَصدرًا لاسمهم. ومما يُعزِّز هذا الفرض قول حمدون القصَّار — وهو من أكابر مَشايخهم وأوائل مُؤسِّسي فِرقتِهم — وقد سُئل عن طريق المَلامَة فقال: «تركُ التَّزيُّن للخلْق بحالٍ وتركُ طلبِ رِضاهم في نَوعٍ من الأخلاق والأحوال، وألَّا يأخُذَك في الله لومَةَ لائم.»١٠
ولكن ما المُراد بالملامة التي ينتَسِب إليها الملامتيَّة؟ أهيَ لومُ الملامَتِيِّ نفسه، أو لَوم الناس إياه، أم لومُ المَلامَتيِّ الدُّنيا وأهلها؟ أما لومُ الدنيا فليس من نِظام الملامتيَّة في شيءٍ لأنَّ في تعاليمِهم الصَّريحة النَّهْي عن ذَمِّ الدنيا. رأى أبو حَفص النَّيسابوري بعض أصحابه وهو يَذمُّ الدنيا وأهلها فقال: «أظهرتَ ما كان سبيلك أن تُخفِيَه. لا تُجالِسنا بعد هذه ولا تُصاحِبنا.»١١ وأما المَعنَيان الآخَران فيدْخُلان في جَوهر الفكرة الملامتيَّة وإليهما يُشير كثير من تَعريفاتها. ذلك أنَّ المَلامتي لا يرى لنفسه حظًّا على الإطلاق ولا يَطمئنُّ إليها في عقيدةٍ أو عملٍ ظنًّا منه أنَّ النفس شرٌّ مَحضٌ وأنها لا يصدُر عنها إلَّا ما وافَق طبعها من رِياء ورُعونة؛ ولذلك وقفَ منها دائمًا مَوقف الاتِّهام والمُخالَفة، وهذا هو المُراد بلوم النفس.١٢ ومن ناحيةٍ أخرى يرى المَلامَتي أن مُعامَلته مع الله سرٌّ بينه وبين ربِّه لا يَصحُّ أن يطَّلِع عليه غيره، فهو حريص على كِتمان ذلك السِّر، غَيور على مَحبوبه أن يَطَّلع الخلقُ على صِلته به، فهو يَظهر للخلْق بآدابِ العُبوديَّة ويَحفظ سِرَّه مع الله. بل إنَّ الملامتيَّة — خوفًا من أن تنكَشِف أحوالُهم وأسرارُهم التي يَضنُّون بها على الخلق، وخَشيةً من أن يتَسرَّب الغُرور إلى نفوسِهم إذا ظهروا للناس بما يُوجِب مدحَهم — تَعمَّدوا فعل ما يجلُب عليهم من الخلْق السُّخط والازدِراء ويُرسِل ألسنَتهم بالذَّمِّ والتأنيب. وهذا هو لوم الناس إيَّاهُم. ويُشير إلى هذا المعنى قول بعضهم: «المَلامَة ألَّا تُظهِر خيرًا ولا تُضمِر شرًّا.»١٣ وقول الآخر: «وأهل الملامَة أظهروا للخلْق ما يَليقُ بهم من أنواع المُعامَلات والأخلاق وما هو نتائج الطِّباع، وصانُوا ما للحقِّ عندَهم من وَدائعه المكنونة.»١٤ وإلى ملامة النفس وملامَة الغَير تُشير عبارة أبي حَفص وقد سُئل عن مَذهبه فقال: «أهل المَلامة قومٌ قاموا مع الحقِّ تعالى على حِفظ أوقاتِهم ومُراعاة أسرارِهم فلامُوا أنفُسَهم على جميع ما أظهروا من أنواع القُرَبِ والعِبادات، وأظهروا للخلق قَبائح ما هُم فيه وكَتَموا عنهم مَحاسِنَهم، فلامَهم الخلقُ على ظواهِرهم ولامُوا أنفُسَهم على ما يَعرفونه من بَواطِنهم.»١٥ وهذا أكملُ تعريفٍ نعرِفه للفكرة الأساسيَّة في المذهب المَلامَتي، وفيه تظهَر ناحِيَتا المَلامة بكلِّ وضوحٍ كما تَظهَران في تعاليم المَلامتيَّة التي لخَّصَها السُّلَمي في رسالته وشرَحْنا أُمَّهات مسائلها في هذا القِسم عند الكلام على «أصول الملامتيَّة».

ولا تكاد تخرُج التَّعريفات العديدة التي أورَدَها السُّلَمي لمَذْهب الملامتيَّة عن هذا المعنى الذي أشار إليه أبو حفص. أما المَعاني الصوفيَّة التي تفرَّعَت عن هذه الفكرة الأساسية كالإخلاص في الطريق، والرِّياء في القول والعمل والنيَّة، ونحو ذلك، فقد عالجْناها بشيءٍ من التَّفصيل في جُزءٍ آخر من هذا البحث.

ويذهَب ابنُ عربي الذي أفرد للمَلامتيَّة صفَحات عدَّة في كتابه «الفتُوحات المكيَّة» إلى أنهم اختَصُّوا بهذا الاسم لأمْرَين: «الواحد يُطلَق على تلامِذَتِهم لكونِهم لا يزالون يَلومون أنفسهم في جنْبِ الله ولا يُخلِصون لها عملًا تفرَح به تربيَةً لهم؛ لأن الفرَح بالأعمال لا يكون إلَّا بعدَ القَبول وهذا غائبٌ عن التلامِذة. وأما الأكابر فيُطلَق عليهم لسَتْر أحوالِهم ومكانَتِهم من الله حِين رأوا الناس إنما وقَعُوا في ذَمِّ الأفعال واللَّوم فيها فيما بينهم لكونِهم لم يَرَوا الأفعال من الله وإنما يَرونها ممَّن ظهرَت على أيديهم، فأناطوا اللَّوم والذمَّ بها، فلو كُشِفَ الغِطاء ورأوا الأفعال لله لما تعلَّق اللَّوم بمن ظهَرَت على يديه، وصارت الأفعال عندَهم في هذه الحالة كلُّها حسنةً شريفة.»١٦ ولا يَخفى ما في عبارة ابن عربي هذه من إشارةٍ إلى مذهبِه في وِحدة الوُجود التي يَهضِم فيها فِكرة المَلامتيَّة كما هضَم غيرَها من أفكار المَذاهب الأخرى الصوفيَّة وغير الصُّوفية.
ويَضع ابن عربي الملامتيَّة في أعلى دَرَجات السَّالِكين من أهل الله ويَعتبِرُهم الكاملين من أهل الطريق؛ ولهذا يلتمِس لاحتِجابِهم عن الخلق وظُهورهم فيهم بما يُنطِقُ الناس بِلَومِهم سببًا آخر غير الذي ذَكرناه: ذلك «أنهم لو ظهرَت مكانتُهم من الله للنَّاس لاتَّخَذوهم آلهة.» فلما احتَجَبوا عن العامَّة بالعادَة انطلَق عليهم في العادة ما يَنطلِقُ على العامَّة من الملام فيما يَظهر عنهم مما يُوجِب ذلك. ثم يقول: «وهذه الطريقة مَخصوصة لا يَعرِفها كلُّ أحد، انفرَد بها أهل الله.»١٧
والملامتيَّة فِرقة مُتميزة من فِرَق زُهَّاد المُسلمين، لها طابَعها الخاصُّ وحياتها الرُّوحية الخاصَّة بالرغم من أنهم يُعتَبرون عادةً من بين طوائف الصوفية. وقد تنبَّه إلى الفُروق الواضحة بين المَلامَتي والصُّوفي بعض رجال التصوُّف ومؤرِّخيهم؛ فأشار إليها السُّلَمي في رسالته وابن عربي في فتوحاته والسَّهْروَرْدي في عوارِف المعارف والتَّهانوي في كشَّافه. أما السُّلَمي فيُقَسِّم أرباب العلوم والأحوال؛ أي أهل العِلم الظاهر والعِلم الباطن أو أهل الرُّسوم وأهل الحقائق، إلى ثلاثة أقسام: عُلَماء الشريعة المُشتَغِلين بظواهر الأحكام وهؤلاء هم الفُقهاء، وأهل المَعرفة بالله المُنقطِعين إلى الله الزاهِدين فيما فيه الخلْق من أسباب الدُّنيا الذين جَعَلوا همَّهم في الله فكانوا له وبه وإليه، وهؤلاء هم الصُّوفية. والطائفة الثالثة هم أولئك الذين زَيَّن الله بواطِنَهم بالقُرب والاتِّصال به فلم يكُن للافتِراق إليهم سبيل، وقد غار الحقُّ عليهم لئلا يَعرِف الخلقُ أحوالَهم فأظهرَ للخلْق منهم صِفاتِهم الظاهِرة التي تدلُّ على معنى الافتِراق لكي يَسلَم لهم حالُهم معه تعالى، وجعل من أسْنى أحوالهم ألَّا يُؤثِّر باطِنُهم في ظاهِرِهم لئلا يَفتَتِن بهم الناس، وهؤلاء هم المَلامتيَّة، فالصُّوفية مع الله أشبَه بموسى عليه السلام لما ظهَر أثرُ باطِنِه في ظاهره عندما كلَّمه ربُّه فلم يُطِق أحد النَّظر إليه. والملامتيَّة مع الله أشبَهُ بمُحمَّدٍ عليه السلام، لم يُؤثِّر باطِنُه في ظاهِره بعد ما نالَه من القُرب والدُّنُوِّ عندما رُفِعَ إلى المَحلِّ الأعلى، فلمَّا رجَع إلى الخلق تكلَّم معهم في أمور دُنياهُم كما لو كان واحدًا منهم، وهذا أكمل العُبودية.١٨
فالفرق الأساسي بين الصُّوفي والملامَتي في نظر السُّلَمي هو أنَّ الصوفي يَنِمُّ ظاهره عن باطِنِه وتظهَر عليه أنوار أسراره في أقواله وأفعاله؛ لذلك لا يتحرَّج الصوفيُّ عن إظهار الدَّعاوى كما فعل الحلَّاج وغيره، ولا عن إعلان ما يفتَح الله به عليه من أسرار الغَيب، ولا عن الخُروج إلى الناس بكرامةٍ يُظهِرها الله على يديه. أما المَلامَتي فحفيظ على سِرِّ الله يكتُم في نفسه ما بينَه وبين ربِّه. ثم هو فوقَ ذلك لا دعوى له لأنَّ الدعاوى في نظرِه رُعونات وجَهل، ودليل على عدَم التحقُّق من التقصير. ولا يُظهِر الملامَتي كرامةً خَوفًا من أن تكون الكرامة ابتلاءً من الله يَمتحِن بها غرور النَّفس وعُجْبها، وخوفًا من أن يُفتَتَن الناس به.١٩
أما ابنُ عربي فيَستعمِل اسم «الملامتيَّة» في معنًى أوسعَ بكثيرٍ مما يَفهمُه السُّلَمي، فهو لا يدلُّ عنده على طائفةٍ مُعيَّنة من طوائف الزُّهَّاد، ولا يُشير إلى وجهة نظر مُعيَّنة في الدِّين أو في حياة الطريق الصُّوفي، بل هو اسمٌ لصِنف من أهل الله يَعيشون في كلِّ زمانٍ ومكانٍ لهم صِفات خاصَّة يَتميَّزون بها من غيرهم: يزيدون وينقُصون بحسب الوقت الذي يظهرُون فيه. وليسَ مَوطنُهم خُراسان ولا نَيسابور ولا شيخهم حمدونًا القصَّار ولا أبا حَفص أو أبا عُثمان الحِيري، على الرغم من أنَّه يذكُر من مشايخ نَيسابور ممَّن تَحقَّق بمقام الملامتيَّة حمدونًا القصَّار خاصَّة، كما يذكُر من بين من تحقَّق بهذا المَقام أبا سعيدٍ الخرَّاز وأبا يَزيد البَسطامي وأبا السُّعود بن الشِّبل وعبد القادر الجِيلاني وغيرَهم من مشايخ الصوفيَّة على اختِلاف طبَقاتهم وبِلادِهم، ويعدُّ نفسَه واحِدًا من الملامتيَّة إذ يقول: «وهو (أي مَقام الملامتيَّة) حالُنا.»٢٠ بل إنَّ ابن عربي يَتوسَّع في معنى «المَلامَتي» إلى حدِّ إطلاقِه على النبي بِدعوى أن مقام المَلامتيَّة هو مقام القُرب من الله، وهو مَقام ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.٢١ وهو في هذا أكثر جُرأةً من السُّلَمي الذي اكتفى بتشبيه المَلامَتي بمحمدٍ والصُّوفي بمُوسى عليهما السلام بعد أن تجلَّى لهما ربُّهما.
ويُقَسِّم ابن عربي السَّالِكين إلى الله إلى ثلاثة أقسام لا تختلِف كثيرًا عن الأقسام التي ذكرَها السُّلَمي. الأول العُبَّاد الذين غلَب عليهم الزُّهد وأفعال الظاهِر المَحمودة وتطهير النَّفس من مَرذول الأفعال. وهؤلاء لا عِلم لهُم بالأحوال والمَقامات والعُلوم الدِّينيَّة والأسرار. وإن قرأ أحدٌ منهم شيئًا كان كِتابه «الرِّعاية» للحارِث المُحاسبي أو ما يَجري مَجراه.٢٢ الصِّنف الثاني هُم الصوفيَّة الذين يرَون الأفعال كلَّها لله وأنه لا فِعل لهم أصلًا. وهم مثل العُبَّاد في الوَرَع والزُّهد والتوَكُّل، أهل خُلُق وفُتوَّة، يَظهرون في العامَّة بما ينالُونه من الكرامات وخَوارِق العادات ولا يُبالُون بإظهار أيِّ شيءٍ يُؤدِّي إلى معرفة النَّاس بمَنزلتِهم من الله لأنَّهم لا يُشاهِدون — في زَعمِهم — إلَّا الله. وهم بالنسبة إلى الملامتيَّة أهل رُعوناتٍ وأصحاب نفوس، وتلامِذَتُهم مِثلُهم أصحاب دَعاوى يُظهِرون الرِّياسة على عباد الله.٢٣ والصِّنف الثالث الملامتيَّة وهم رِجالٌ قَطَعهم الله إليه وصانَهم صيانةَ الغيرة عليهم لئلا تَمتدَّ إليهم عينٌ فتشغَلَهم عن الله: «قد انفرَدوا مع الله راسِخين لا يَتزلزَلون عن عُبودِيَّتهم طرفةَ عين، لا يَعرفون للرِّياسة طعمًا لاستِيلاء الرُّبوبيَّة على قُلوبهم، وليس ثَمَّ من حازَ مقامَ الفتوَّة والخُلُق مع الله دُون غيره سوى هؤلاء …»٢٤
أما الصِّفات التي اختُصَّ بها الملامتيَّة كما يَفهمُهم ابن عربي فهي أنهم رجال لا يَتميَّزون عن سائر المؤمنين المُؤدِّين فرائض الله بحالةٍ زائدة يُعرفون بها، فهم لا يزيدون على الصَّلوات الخمس إلَّا الرَّواتِب، يَمشُون في الأسواق ويتكلَّمون مع الناس، يؤدُّون الفرائض مع الخلْق ويدخُلون في كلِّ بلدٍ بِزيِّ أهل ذلك البلد، لا يتوَطَّن أحد منهم في المَسجِد، وتختلِف أماكِنُهم في المسجد الذي تُقام فيه الجُمعة حتى يَضيعوا في غِمار الناس، وإذا تكلَّموا راقَبوا الله في كلامِهم، يُقلِّلون من مُجالسة الناس إلَّا من جِيرانهم حتى لا يَشعُر أحدٌ بهم، ويَقضون حاجة الصَّغير والأرملة، ويُلاعِبون أولادَهم وأهلَهم بما يُرضي الله، ويَمزَحون ولا يقولون إلَّا حقًّا.»٢٥
وهذا وصفٌ لا يختلِف عن وصْف السُّلَمي للملامتيَّة؛ ممَّا يُرجِّح أنَّ ابن عربي أخذ مادَّته منه، وإن كان ابن عربي — كعادته — يتَّخِذ من الملامتيَّة شِيعةً لمذهَبه في وِحدة الوجود. ومن الواضح أنه خالَف كلَّ من سواه في فَهْمه لمَعنى «المَلامَتي» حيث فَهِم «الملامة» على أنها مَقام من مقاماتِ الصُّوفية، بل اعتَبرَها أعلى المَقامات، كما اعتَبر الملامتيَّة أكابِر أهلِ الله «الذين حلُّوا من الولاية في أقصى دَرَجاتها، وما فَوقَهم إلا دَرَجة النُّبوَّة.»٢٦
وأمَّا أبو حَفص عُمر السَّهْروَرْدي فالظاهر من مُقارنته بين الصُّوفية والمَلامتية أنه يُفضِّل الصُّوفية ويَضعُهم في مَنزلةٍ من الحياة الرُّوحية فوقَهم؛ لأن حال فناء الصُّوفي عن كلِّ ما سوى الله — بما في ذلك نفسه — أفضل في نظرِه من حال المَلامَتي الذي لا تزال تربِطُه بالخلْق وبنفسه رابِطة وهي شُعوره بنفسه وبالخلْق. وقد أشرْنا في غير ما مَوضعٍ من هذا البحث إلى كراهِيَة المَلامتيَّة للدَّعاوى وإنكارِهم أحوال الجذْب والسُّكر ونَحوهما، فمن الطبيعي لقومٍ هذا شأنُهم ألَّا يَتكلَّموا عن «الفناء» وهو أقصى حالات الجذْب، ولا أن تَبدُر منهم الدَّعاوى التي تبدُر من زُملائهم الصُّوفية في مثل هذه الحالات. وإذا ادَّعى الصُّوفي الفناء عن الخلق أو عن نفسه وأعمالِها، فإنه شاعِر أبدًا بالخلْق وبنفسه قَوي المُلاحَظة لهما، لا يغفل عن نفسه وتأنِيبها واتِّهامها؛ لأنه — كما يقول السَّهْروَرْدي — «عظَّم وَقْع الإخلاص ومَوضِعه وتمسَّك به، والصُّوفي غاب في إخلاصِه.»٢٧ فالإخلاص حال المَلامتي، ومُخالَصَة الإخلاص حال الصُّوفي، وثَمرة مُخالَصَة الإخلاص فناء العبْد عن رُسُومه برؤية قِيامِه بقَيُّومه، بل غَيبتُه عن رُؤية قِيامه، وهو الاستِغراق في العَين عن الآثار.٢٨

وإنَّني أرى أن عدَم ذلك الاستِغراق في الله، وعدَم الغَيبة عن النَّفس والعالَم المُحيط بها قد كانا الحائل المَنيع الذي سدَّ على الملامتيَّة باب القَول بِوِحدة الوجود أو بالحُلول أو الاتِّحاد أو المَزْج أو ما شاكَل ذلك من الأقوال التي شاعَت على ألسِنة الصُّوفية الذين تكلَّموا في الفناء، وبخاصَّة صُوفيَّة العِراق والشَّام؛ فإنهم باستِرسالِهم في الكلام عن الفناء عن الخلْق والبقاء بالحَق، وباستِغراقهم التامِّ في الحقِّ وغَفلتِهم التامَّة عن كلِّ مَن سواه وما سواه، زلَّت أقدامُهم من حيث لا يَشعرون فوقَعوا في القول بوِحْدة الوجود أو ما شابَهَه. ويظهَر أنَّ القول بالاتِّحاد والحلول ووِحدة الوجود كان في مُعظَم الحالات من لَوازِم القول بالفناء؛ ولذلك لا نجِد في كلام رِجال الملامتيَّة — الأوَّلين على الأخَصِّ — شيئًا عن الفناء ولا عن وِحدة الوجود ونظائرها.

وقد بيَّن السَّهْروَرْدي في مُقارنته بين الصُّوفية والمَلامتيَّة اختِلاف الطائفتَين في الغايَةِ من الحياة الرُّوحية: فغايَةُ الصُّوفية الفناء في الله ورؤية الخلْق بِعَين الزَّوال ومُعايَنة سِرِّ قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. وهؤلاء لا تَعنيهم النفسُ ولا إخلاصُها ولا الخلْق وآراؤهم لأنهم استولى عليهم سُلطان الحقيقة فلم يُشاهدوا عينًا ولا رَسْمًا. وهذه حال أبي يَزيد البَسطامي الذي يقول: «نظرتُ فإذا في باطِني زُنَّار (وهو الرَّابِطة التي تَربِطه بالخلْق) فعملتُ في قَطعِه خمسَ سنين أنظرُ كيفَ أقطعُه، فكُشِف لي فنظرتُ إلى الخلْق فإذا هُم مَوتى فكَبَّرت عليهم أربَعَ تكبيرات.»٢٩ وهذا أيضًا هو المَعنى الذي أشار إليه بعضُهم عندما قال: «صِدق الإخلاص نِسيان رُؤية الخلْق بدَوام النَّظر إلى الخالق.»٣٠
أما المَلامتيَّة فأهل صَحوٍ وإدراك، يرَون أنَّ الغاية من الطريق الإخلاص في الأعمال وتحريرها من كلِّ معنًى من معاني الرِّياء. وهذا يَقتضي مُراقَبةً دقيقة للنفس وعدم «الفناء» عنها. وإلى ذلك يُشير السَّهْروَرْدي بقوله: «إن المَلامتي أخرَج الخلْق من عملِه وحاله، ولكنَّه أثبتَ نفسَه فهو مُخلِصٌ، والصُّوفي أخرج نفسَه من عمله وحاله كما أخرَج غيرَه فهو مُخَلَّصٌ. وشتَّان بين المُخلِص الخالِص والمُخلَّص.»٣١ قال الدَّقَاق: «لا بدَّ لكلِّ مُخلِصٍ من رؤية إخلاصِه وهو نُقصان عن كَمال الإخلاص.»٣٢ ولكن ليس هذا مَذهب الملامتيَّة.
ويظهَر الفَرق جَليًّا بين المَلامتيَّة والصُّوفية في مسألة الإخلاص فيما ذكره القُشيري عن أبي علي الدَّقَّاق أنه قال: «لما دخل الواسطي نَيسابور سأل أصحاب أبي عُثمان (الحيري): بماذا كان يأمُرُكم شَيخكم؟ فقالوا: كان يأمُرنا بالتِزام الطاعات ورؤية التَّقصير فيها، فقال: أمَرَكم بالمَجوسيَّة المَحْضة، هلا أمَرَكم بالغَيبة عنها بِرؤية مُنشئها ومُجريها؟»٣٣ ومعنى ذلك أنَّ إخلاص المَلامَتي هو رُؤيته التَّقصير في عمله، وإخلاص الصُّوفي هو عدَم رؤية الأعمال على الإطلاق، أو بِعبارةٍ أخرى الفناء عن الأعمال.

وستَتَّضِح للقارئ فُروقٌ أخرى كثيرة بين الصُّوفية والمَلامتيَّة عند عرضِنا لأُصول المَلامتيَّة وتعاليمهم.

وأمَّا «الفتوَّة» فاسم أُطلِق على مجموعةٍ من الفضائل، أخَصُّها: الكرَم والسَّخاء والمُروءة والشَّجاعة، تُميِّز المُتَّصِف بها عن غيره من الناس. وبهذا المعنى الخُلُقي وُجِدَت الفُتوَّة قبل الإسلام وفي الصَّدر الأول منه في بلاد العرَب وفارس. وبها لُقِّبَ عليُّ بن أبي طالب وأهلُ بَيته. ولكنَّها كانت إلى ذلك العهد أمرًا فرديًّا لا وجود له في جماعةٍ مُنظَّمة، ولا يُعرَف نِظامٌ اجتماعي لأهل الفُتوَّة إلَّا في عصرٍ مُتأخِّر.

وقد اتَّصَلَت الفُتوَّة بالتَّصوُّف منذ ظهور التصوُّف تقريبًا وانصَبَغَت بِصِبغتِه، وكان ذلك على الأخَصِّ في البلاد الإسلامية ذات الحضارات القديمة لا سيما فارس، حتى إنك لتجِد آثارًا واضحةً للأفكار الصُّوفية في تعاليم أصحاب الفُتوَّة في كلِّ العصور الإسلامية تقريبًا. والعكس صحيح أيضًا، أي إنَّ آثارًا كثيرةً للفُتوَّة قد تسرَّبَت إلى بيئات الصوفية. ويدلُّك على ذلك الاتِّصال المُتبادَل بين الفتوَّة والتصوُّف أنَّ كثيرًا من الفِتيان الذين نعرِف شيئًا عن تاريخ حياتِهم كانوا إما صُوفيَّةً أو مِمَّن لهم مَيل إلى الطريق الصُّوفي كما يظهَر ذلك من قِصَّة نُوح العيَّار مع حمدون القصَّار.٣٤ ومن ناحيةٍ أخرى نرى أنَّ كثيرًا من رِجال الصُّوفية المَشهورين ذَوي المكانة العالِية كانوا من الفِتيان قبل أن يدخُلوا الطريق الصوفي، وذلك مِثل علي بن أحمد البوسنجي وأحمد بن خضرويه وغيرهما.

كان الفتى قبل الإسلام فردًا غايَتُه المُحافَظة على شَرَفِه الذي هو شرَف قبيلته، فأصبَحَ بعد الإسلام عُضوًا في جماعةٍ يعمَل من أجلها. ولكن الصِّفات التي يَجِب أن يتحلَّى بها الفتى كان لها أثر ظاهر في الحالَتَين.

ويظهَر أنَّ أول اتِّصالٍ بين الفُتوَّة المُنظَّمة داخل هيئات اجتماعيةٍ وبين الصُّوفية كان في العراق المُتَّصِل اتِّصالًا وَثيقًا ببلاد فارس. وكان ذلك في دائرة الحَسَن البَصري الذي أطلَقَ عليه أيُّوب بن أبي تَميمة «سيِّدَ الفِتيان». والحَسَن كما نعرِف كان من أوائل من مَهَّدوا لظهور التصوُّف في الإسلام، ومن الذين اعتبرَهم مُتأخِّرو الصُّوفيَّة من الأقطاب. ويظهَر كذلك أنَّ الانتِقال كان إلى عهد الحسَن البصري من نِظام الفُتوَّة إلى الطريق الصُّوفي كما تدلُّ عليه عِبارة الحسَن نفسه التي يقول فيها: «كان الفتى إذا نَسَك لم نَعرِفه بمنطقه وإنما نعرفه بعمله وذلك العلم النافع.»٣٥ ولما ظهَر التصوُّف ظهرَت فيه مع فضيلة التقوى مجموعةٌ من الفضائل الأخرى المُستمدَّة من الفتوَّة، فلمَّا كَمُل نموُّه في القرنَين الثالث والرابع قَوِيَت فيه الفِكرة الأساسيَّة التي امتازت بها الفُتوَّة العربيَّة القديمة وهي فِكرة الإيثار، واعتبَرَها الصُّوفية من أوائل مبادئهم وأضافوا إليها صِفاتٍ أخرى مُتَّصِلة بها مثل: كفِّ الأذى، وبذْل النَّدى، وترْك الشَّكوى، وإسقاط الجاه، ومُحارَبة النفس، والعَفْو عن زلَّات الغَير، وغير ذلك من معاني التصوُّف.٣٦ قال علي بن أبي بكر الأهْوازي: «إنَّ أصلَ الفُتوَّة ألَّا ترى لنفسِك فضلًا واحِدًا.» وقال القُشيري: «أصلُ الفتوَّة أن يكون العبدُ أبدًا في أمرِ غَيره.»٣٧ وقال بعضُهم في تفسير قوله تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: «الفُتوَّة هي كسر الصَّنَم (الوارِد في القصَّة)، وصنَم كلِّ إنسانٍ نفسُه، فمن خالَفَ هَواه فهوَ فتًى على الحقيقة.»٣٨ وهذه كلُّها معانٍ وجدَت طريقَها إلى بيئاتِ الصُّوفية والمَلامتيَّة على السواء، ولعِبَت دَورًا هامًّا في تشكيل أفكارِهم ونظرتِهم إلى الحياة الرُّوحية.

وليس بصحيحٍ ما ذهَب إليه ثورننج من أن إقبال الفِتيان على التصوُّف لا يَتَّفِق وأخلاق الفُتوَّة، إلَّا إذا قُصِدَ بالفتوَّة الفتوَّة الأرستوقراطية التي كانت من مُميِّزات طبقَةٍ خاصَّة من طبقات الأمة الإسلامية، وهذه لم تظهَر إلَّا في زَمنٍ مُتأخِّر يُحدِّدُه المؤرِّخون بالخليفة النَّاصر العباسي (٥٧٥–٦٢٢ﻫ). أمَّا إذا نظرْنا إلى الفتوَّة في معناها العام وجدْناها خاليةً من هذه النَّزعة الأرستوقراطيَّة التي تتعارَض مع رُوح التصوُّف، بل وجدناها دائمًا مُسايِرةً للتصوُّف صديقةً له يأخُذ عنها وتأخُذ عنه. وليس للفِتيان دَعوى امتِيازٍ على غَيرهم إلَّا في الشُّعور بالواجِب وفِعل ما يَقضي به الشَّرَف، لا دَعوى أفضليَّةِ طبقةٍ على طبقةٍ أخرى داخِل النظام الاجتماعي، فإن ادَّعى فِتيان الصوفية لأنفسهم ميزة على غيرهم، لزِمَ أن نَحمِل هذه الدَّعوى على المَحمَل الأول.

ولمَّا كان من صِفاتِ الصُّوفيَّة عامَّةً كثرةُ الدَّعاوى — وهي مسألة يَختلفون فيها تمامًا عن الملامتيَّة كما سنذكُره فيما بعد — سَهُل على بعضهم اعتِبار الدَّعاوى من مُقوِّمات الفتوَّة الصوفية، فالفتى الصُّوفي في نَظَر هؤلاء من كانت له دَعوى يُدافِع عنها ويُضحِّي بنفسه في سبيلها كالحُسَين بن مَنصور الحلَّاج الذي يقول: «إن رَجَعتُ عن دَعوايَ (وهي قولُه أنا الحَقُّ) وقَولي، سقطتُ من بِساط الفتوَّة.»٣٩ ويتَّخِذ من دعوى إبليس أنه أفضل من آدم في قوله: «أنا خيرٌ منه.» ومن دعوى فِرعون الألوهية في قوله: «أنا ربُّكم الأعلى.» دليلًا على فُتوَّتِهما، فيقول على لسان الأول: «إن سجدتُ سقطَ عنِّي اسمُ الفتوَّة.» وعلى لِسان الثاني: «إن آمنتُ برسوله سقَطْتُ من مَنزلةِ الفتوَّة.»٤٠
وأمَّا صِلة الفتوَّة بالملامتيَّة فقد أنكرَها «هورتن» الذي لم يترَدَّد في تقرير الصِّلة بين الفتوَّة والتصوُّف، مُستنِدًا إلى أنَّهما فِكرتان مُتعارِضتان. وهو يرى أنَّ أصحاب الفُتوَّة رجال يَجمَعون بين التقوى والشُّعور بالشَّرَف، في حين أنَّ أهل الملامة رجال يَحتقِرون الدُّنيا علنًا ويَعتبِرون لومَ النَّفس وسيلةً ضروريةً لتَوصِيلهم إلى الكَمال الرُّوحي أو الخُلُقي. ولكن إذا كانت هناك فتوَّة تتَعارَض مع المَذهَب المَلامَتي فهي «الفتوَّة النَّاصِرية» المُتأخِّرة التي أطلقْنا عليها اسم «فتوَّة الأرستوقراطيِّين». أمَّا الفتوة الأولى، أي الفتوة العامة المُتَّصِلة بالتصوُّف، فقد كانت شديدة الاتِّصال أيضًا بالمذهب المَلامَتي. بل إنَّني أرى — اعتمادًا على ما ورَد في رسالة المَلامتيَّة للسُّلَمي — أن صِلتَها بالملامتيَّة كانت أقوى من صِلتِها بالصُّوفية، يُؤيِّد ذلك أن السُّلَمي عندما أراد أن يفسِّر صِفات الملامتيَّة ذكر من بينها أخصَّ صِفات الفتوَّة، وأنَّ مُؤسِّسي الملامتيَّة الأوَّلين فهِموا «الملامة» على أنها نَوع من الفتوَّة أو الرُّجولة وأطلَقوا على أنفسهم اسم الفِتيان والرجال. ويقول أبو حَفص النَّيسابوري: «مُريدو أهل الملامة مُتقلِّبون في الرُّجولية لا خطَر لأنفُسهم.»٤١
أمَّا صِفاتُ الفتوَّة التي يُطالِب الملامتيَّة بها أنفسهم ومُريديهم ويَعتبرونَها جُزءًا لا يتجزَّأ من شخصيَّة الملامَتي الكامِل فكثيرة، نجِد الشَّواهِد عليها في كلِّ صفحةٍ من صفحات السُّلَمي، فمن صفاتِ الفتوَّة في المَلامتي ما ورَد في الأصل الحادي والأربعين من رسالة الملامتية في قول أبي حَفص الحدَّاد لعبد الله الحجَّام: «إن كنتَ فتًى فيكون بيتُك يومَ مَوتِك موعظةً للفِتيان.»٤٢ يُريد بذْل كلِّ شيءٍ وعدَم الإبقاء على شيءٍ خدمةً للإخوان. ومنها ما ورَد في الأصلِ الخامس والأربعين في قول أبي عُثمان الحيري في الصُّحبة: «حُسن الصُّحبة ظاهرُه أن تُوسِّع على أخيك من مال نَفسك ولا تَطمَع في ماله، وتُنصِفه ولا تطلُب منه الإنصاف٤٣ … وتتحمَّل منه الجَفْوَة ولا تَجفُوه» إلخ.٤٤ ومنها أنَّ المَلامتي هو: «من لا يكون له من باطِنه دَعوى ولا مِن ظاهِرِه تَصنُّع ولا مُراءاة.»٤٥ ومنها: «إنَّ الملامتيَّة كرِهُوا أن يُخدَموا أو يُعظَّموا أو يُقصَدوا، وقالوا: ما للعَبدِ وهذه المُطالَبات؟ إنَّما هي للأحرار.»٤٦ ومنها: «ترْك الاشتِغال بِعيُوب الناس ودَوام الاشتِغال بِعيُوب النَّفس واتِّهامها.»٤٧
ومن أجْمَع ما ورَد في رسالة الملامتية من الفقرات التي تَشرَح صِفات الفتوَّة كما يفهمها الملامتيَّة قول بعضِهم وقد سُئلَ عمَّن يستحقُّ اسم الفتوَّة، فقال: «من كان فيه اعتِذار آدَم، وصَلاح (أو صَلابَة) نُوح، ووفاء إبراهيم، وصِدقُ إسماعيل، وإخلاصُ موسى، وصَبْر أيُّوب، وبُكاء داود، وسَخاء مُحمَّدٍ ، ورأفَة أبي بكر، وحَميَّة عُمر، وحَياء عثمان، وعِلم علي، ثُمَّ هو مع هذا كُلِّه يزدَري نفسَه ويَحتقِر ما هو فيه ولا يقَع بقلبه خاطِر مِمَّا هو فيه أنَّه شيءٌ ولا أنه حالٌ مَرضِي، يرى عيوبَ نفسه ونُقصان أفعاله وفضلَ إخوانه عليه في جميع الأحوال.»٤٨
بل لا أُبالِغ إذا قُلتُ إن مُعظَم تعاليم الملامتية مُستمَدٌّ من تقاليد الفِتيان وتعاليمهم، وقد أشرتُ إلى ذلك بما فيه الكفاية عند كلامي عن أصول الملامتية وعن نشأة فِرقتِهم بنَيسابور. وفي رأيي أنَّ الملامتية هم «فِتيان» زُهَّاد المسلمين الحَقيقيُّون، وفِيهم تَظهر الفتوَّة بآثارها الباطِنة والظاهِرة أكثر من ظُهورها في غيرِهم من فِرَق التصوُّف الأخرى. ولو أنصفَ الجُنَيد ما قال: «الفتوَّة بالشام واللِّسان بالعِراق والصِّدْق بخُراسان.»٤٩ بل قال: «الفُتوَّة والصِّدْق بخُراسان.»

(٢) نشأة الملامتيَّة بنَيسابور

ظهرَ ممَّا ذكرناه من العلاقة الوثيقة بين رجال الملامة والصوفيَّة وأصحاب الفتوَّة أن الملامتية لم تنشأ طفرةً بنَيسابور وبمَعزلٍ عن حركة التصوُّف العامَّة التي انتشرَت في مُعظَم أنحاء العالم الإسلامي في القرنين الثاني والثالث. كما أنها لم تقِف بعد نشأتها عند الحدود الجُغرافية التي ظهرَت فيها، بل استمدَّت عناصِرَها من أصولٍ سبَقَتْها في تاريخ التصوُّف، فألبَسَت هذه الأصول ثوبًا خاصًّا وتعمَّقَت في مَعانيها وجعلتْها أساسًا لتعاليمها، ثم شقَّت طريقها بعد نشأتها إلى أوساطٍ أخرى صوفيَّة وغير صوفيَّة.

لذلك يَجدُر بالباحث في تاريخ مدرسة المَلامتيَّة بنَيسابور أن يُلمَّ بحركة التصوُّف في خُراسان عامة: كيف ظهرتْ هذه الحركة، ومَنْ هُم القائمون بها، وما صِلة هذه الحركة بالاتِّجاهات الصوفيَّة التي هي أقدَمُ منها عهدًا، ليُحدِّد على سبيل التقريب مَركز مدرسة نَيسابور من مدرسة خُراسان أوَّلًا، ومن مَدارس التصوُّف الإسلامي الأخرى في نِهاية الأمر. ثُمَّ لا بُدَّ له — من ناحيةٍ أخرى — مِن أن يُلِمَّ بالحركات الصُّوفية التي ظهرَت في القرن الرابِع وما بَعده ليَتبيَّن مدى تزاوُج الأفكار الصُّوفيَّة والمَلامَتيَّة خارج البيئة النَّيسابورية.

على أنَّ نشأة المَلامتيَّة بنَيسابور لم تَتَّصِل بالحركات الصُّوفية التي سبقتْها في خُراسان أو خارج خُراسان فحسْب، بل اتَّصَلَت — فيما أعتقد — بِحركةٍ أُخرى لَيسَت لها صِبغةٌ صُوفية ولا دِينية، وهذه هي حَرَكة الفُتوَّة التي لا تزال غامِضةً كلَّ الغُموض من هذه الناحية. بل ربما أتى كلام الصُّوفيَّة عن الفُتوَّة التي يَعقِد لها القُشيري بابًا خاصًّا في رسالته، نَتيجةً لهذه الصِّلة التي تَوَثَّقت بين تعاليم الملامتيَّة وتعاليم الفُتوَّة في نَيسابور قبل أن تَحتلَّ من تعاليم الصُّوفية خارج نَيسابور مَحلًّا هامًّا. وهذه مسألة أعقَدُ من سابِقَتها؛ لأنَّ عِلمَنا بالفتوَّة وأساليبها — بالرَّغم من كثرةِ ما كُتِبَ عنها — لا يزال ضئيلًا. وهي حركة من أكثر الحركات في الإسلام خَطرًا، جَديرة بأن يُفرِد لها الباحِثون مُؤلَّفًا خاصًّا يُوضِّح نواحِيَها التاريخيَّة والاجتماعية والسِّياسية والصُّوفية.

لا نعرِف من الوثائق التاريخيَّة حركةً صُوفيَّة في خُراسان سابِقة على حركة إبراهيم بن أدهَم العجلي (المُتوفَّى سنة ١٦٠ﻫ) الذي تلقَّى أصول تصوُّفِه عن أساتذة كلُّهم من رجال البصرة. ولا يَعنينا في هذا الموضوع الذي نحنُ بصدَدِه إبراهيم بن أدهَم بقدْر ما يَعنينا أتباعُه الذين عادوا بعد مَوته بالشَّام إلى مدينة بَلْخ وقاموا فيها بِحركةٍ واسِعة، ونَشروا عن طريق الوَعْظ والقَصَص الدِّيني تعاليم أُستاذِهم في قبائل خُراسان في النِّصف الثاني من القَرْن الثاني. وإنك لتَجِد أهمَّ مُميزات المدرسة البصرية في التصوُّف واضحةً في مدرسة بلخ هذه؛ ففيها المُبالَغة في الزُّهد والعبادة والخوف، وفيها التزام آداب الفقر واعتِبار التصوُّف أمرًا باطنيًّا بحتًا لا يُؤبَه فيه بالمَظاهر الخارجية، كما تجِد فيها مُحاربة الطقوس الدينية والتقاليد التي عظَّم أهلُ الشَّام من أمرِها.

نعم لم يَزِد إبراهيم بن أدهَم على تَعاليم صوفيَّةِ البَصرة كثيرًا، ولكنَّه تعمَّق — كما يقول الأستاذ ماسنيون — في بعض مَعانيهم: كالمُراقَبة التي أخذت معنًى أدقَّ من مُجرَّد التأمُّل أو التفكير في النفس، وكالكَمَد الذي أحلَّه ابن أدهم محلَّ الحُزن، وكالخُلَّة التي أصبَحَ معناها رِضا الله الدائم عن العبد. ولكنَّ تلامِذة إبراهيم هُم الذين أضافوا — تحت تأثير عَوامل مَحليَّةٍ إن صحَّ هذا التعبير — كثيرًا على ما قال به أستاذهم وما قالت به مدرسة البصرة، وأضافوا في شرح بعض الأفكار التي لم تكن قبلُ سوى قواعد بسيطةٍ للسلوك في الطريق، إفاضةً رفَعَت هذا الشرح إلى مُستوى البحوث النظريَّة، فنرى شَقيقًا البَلخِيَّ المُتوفَّى سنة ١٩٤ﻫ، وهو من أفضل تلامِذة ابن أدهم، يُفيض في الكلام عن التوَكُّل الصُّوفي والرُّجوع إلى الله في كلِّ شيء. نعم قال ابن أدهَم وقال غيره بالتوكُّل على الله، والتوكُّل على الله من الأمور التي طالب الإسلام بها وحضَّ عليها، ولكن شقيقًا البلخيَّ درَس أسبابه وعِلَّةَ تشريعِه وما يَترتَّب عليه من أثرٍ في تنظيم سلوك المُريدين، وانتهى من دَرسه إلى نتيجةٍ ذات أثرٍ بالغٍ في التَّصوف الخُراساني عامةً، وفي تصوُّف بعض مَلامَتيَّةِ نَيسابور بِوجهٍ خاص. إنَّ قصة إبراهيم بن أدهم التي يَبسِطها أبوُ نعيم في ترجمةٍ طويلة، هي قصَّةُ رَجلٍ راعى «التوكُّل» في كلِّ خطوةٍ خطاها، وإن تَطوافَه في العِراق والشام طلبًا للرِّزق الحلال الخالي من الشُّبهات لَدليلٌ قاطِع على ثِقتِه بالله وتوكُّله عليه. ولكن للتَّوكُّل الذي تكلَّم عنه تِلميذه شقيق البلخيُّ معنًى آخر.

يرى شقيقٌ أنَّ التوكُّل معناه «طمأنينة النفس إلى مَوعود الله.» فإذا أردْتَ أن تعرِفَ مِقدار صِدق الزَّاهِد في توكُّله فانظر بأي الأمرَين يأخُذ: أَبِما وَعده الله، أم بِما وَعدَه الناس؟ وإذا كان الرَّجل لا يستطيع أن يزيد في حياته أو يُغيِّر من طبعه، فكيف يَستطيعُ أن يزيد في رزقه؟ ولِماذا يُتعِب الرجلُ نفسَه في اقتِناص أشباحٍ زائلة، أو يتكالَب على المكاسِب التي قَلَّما تَخلُص من الشُّبهات؟ أدَّت هذه الفكرة العميقة في «الجبريَّة» بِشقيقٍ إلى القول بالتَّسليم المُطلَق لإرادة الله والإذعان التامِّ لقضائه وقدَرِه، والتَّعطيل التامِّ للإرادة الإنسانية، والرِّضا التامِّ بما هو مُقدَّر في عِلم الله. وكان من نتائجها قَوْلان كان لهُما أثرُهما البالِغُ في تطوُّر التصوُّف بعد عصر شقيق: أوَّلُهما ترْك الكسْب لأنَّ كلَّ المكاسِب مُسمَّمة، وثانيهما تفضيل الفقر على الغِنى. قال شقيق: «إذا صار الفقير يَخافُ من الغِنى كما يخافُ من الفَقْر فقد تمَّ زُهده.»٥٠

وقد أصبَحَت المَقالة الأولى — مقالة ترك الكسْب — من أهمِّ مبادئ التصوُّف الخُراساني منذ عهد شقيق، وعمِل على نَشرِها من بعدِه تِلميذُه حاتِم الأصَم (٢٣٧ﻫ) وأحمد بن خضرويه (٢٤٠ﻫ) ومحمد بن الفضل البلخي (٢٤٣ﻫ). ومِمَّن عمِل على نشرها في نَيسابور أبو حَفص الحدَّاد الملامتي (٢٦٤ﻫ) وأحمد بن حرب (٢٣٤ﻫ). ويظهر أن المركز الصوفيَّ القويَّ الذي اشتُهِرت به بلخ حِقبةً قصيرةً من الزَّمن انتقَل في النِّصف الثاني من القرن الثالث إلى نيسابور التي ظهر فيها رجال الملامتية الأوَّلون. وقد كان لهؤلاء الرجال — كما سيتَّضِح لك فيما بعد — صِلةٌ غير مُنقِطعة بمشايخ مدرسة بلخ وبعض مشايخ بغداد عن طريق التَّلمَذَة أو الصُّحبة أو الزيارة، ممَّا لا يدَعُ مجالًا للشكِّ في وجود الاتِّصال الفكري بين رجال هذه المدارس كلها.

ولئن أرادَ السُّلَمي وغيره من مُؤرِّخي التصوُّف أن يُرجِعوا نشأة الملامتية إلى رجلٍ بِعينه كأبي حَفص النَّيسابوري أو حَمدون القصَّار (٢٧١ﻫ) أو إلى الاثنين معًا باعتِبار أنهما واضِعا الأسُسِ الأولى لأصول هذه الفرقة، فإنني أرى أن من العبَث أن نُحاوِل ردَّ جميع هذه الأصول إلى ما نعرِفه من أقوال هذين الرَّجُلَين وحدهما، سواءٌ في ذلك الأقوال التي رَواها السُّلَمي نفسه لهما في رسالته أو التي أورَدَها لهما غيرُه من مُؤلِّفي كُتب التصوُّف أو كُتُب طبَقات المشايخ. بل من العبَث مُحاوَلَة ردِّ جميع هذه الأصول إلى هذين الرَّجلين وإلى غَيرهما مِن مَشهوري رِجال الملامتيَّة الذين أخذوا عنهما مثل عبد الله بن مُنازِل (٣٢٩ﻫ) وأبي عمرو بن نُجيد (٣٦١ﻫ) وأبي علي محمد بن عبد الوهاب الثَّقفي (٣٢٨ﻫ) ومحفوظ بن محمود النَّيسابوري (٣٠٣ﻫ) ومحمد بن أحمد الفرَّاء (٣٧٠ﻫ) وغيرهم؛ فإنَّ لأصول المَلامتيَّة التي استخلَصَها السُّلَمي في رسالته صِلةً لا يُمكِن إنكارُها بمقالات لِغَير هؤلاء الرِّجال أخذُوها عنهم وفسَّروها في ضَوء نظريَّتهم العامَّة. بل إنَّ السُّلَمي نفسه لم يدَّعِ أنه استمَدَّ أصول المَلامتيَّة من عبارات المَلامتيَّة وحدَهم، بدليلِ أنَّه يَذكُر من مُتصوِّفة القرن الثالث يَحيى بن مُعاذ الرَّازي وشاه الكَرماني وسَهل بن عبد الله التستري، إلى جانب أبي حَفص النَّيسابوري وحَمدون القصَّار وأبي عُثمان الحيري، ويذكُر من مُتصوِّفة القرن الرابع أبا بكر الواسِطي وأبا عمرو الدِّمشقي وأبا بكر مُحمد بن علي الكتاني، إلى جانب مَلامتيَّة القرن الرابع أمثال أبي عمرو بن نُجيد وابن مُنازِل وأبي مُحمد عبد الله بن محمد الرازي وغيرهم. بل إنه ليُكثِر من ذِكر أقوال أبي يزيد البَسطامي، ويَستشهِد بها على أصول الملامتيَّة حتَّى يُخيَّل للقارئ أن أبا يَزيد كان واحدًا منهم.

والحقيقةُ أنَّ مذهبَ المَلامتيَّة يمثِّل نزعةً خاصَّة في التصوُّف الإسلامي واتِّجاهًا خاصًّا في النظر إلى النفس الإنسانية وأعمالها وتقدير تلك الأعمال، وفي الزُّهد ومَظاهر ذلك الزهد؛ فكلُّ ما يَصلُح أن يكون أساسًا لهذه النزعة سواء أكان من أقوال الملامتية أم من أقوال غيرهم، وسواء أكان آيةً قرآنية أم حديثًا نبويًّا، قد ذكرَه السُّلَمي على أنه أصلٌ من أصولهم. وسنرى في دراستنا للأصول الخمسة والأربعين التي ذُكرَت في رسالة الملامتية أنها في الحقيقة فروعٌ لعددٍ قليل جدًّا من المبادئ العامة التي تُعيِّن مَعالم الطريق الملامَتي ويَستنِد مَذهبُهم في جَوهره إليها، وأنَّ هذه المبادئ القليلة هي التي تظهر فيها الخصائص الأساسيَّة لفِكرة المَلامتيَّة، ويَتبيَّن فيها الاتِّجاه الذي يَمتاز به رِجال هذه الطائفة من غيرهم من رِجال التَّصوُّف الآخرين.

مدرسة نيسابور

تَعاصَر في نَيسابور في النِّصف الثاني من القرن الثالث ثلاثةٌ من كِبار الصُّوفية، أقدَمُهُم يَحيى بن مُعاذ الرازي (المُتوفَّى سنة ٢٥٨) الذي يقول فيه القُشيري: «إنه كان لهُ لِسان في الرَّجاء خُصوصًا وكلامٌ في المَعرِفة.»٥١

والظَّاهِر أن يَحيى — بالرَّغم من مَنزلتِه العالية بين رجال التَّصوُّف الأوَّلِين — لم يترُك أثرًا كبيرًا في أهل نَيسابور لأنه عُنِيَ بمسائل نظريَّة في التَّصوف، والنيسابوريُّون رجالٌ عمليُّون في طريقتهم؛ ولأنَّه، من ناحيةٍ أخرى، لم يكن من أهل نَيسابور كما كان أبو حَفصٍ وحمدون القصَّار اللذان التفَّ حَولَهما مُواطِنوهما مع أنهما كانا أقلَّ من يَحيى بن مُعاذ دَرَجَة.

أمَّا أبو حَفص٥٢ فقد كان من كورداباد على باب نَيسابور في الطريق إلى بُخارى. وقد ذَكَر الهُجْويري وأبو نعيم أنَّ أستاذَه كان عبيد الله الأباوردي،٥٣ وذَكَر الشَّعراني من شُيوخه عبد الله المَهدِيِّ٥٤ — وهوَ الأباوردي الذي أشار إليه الهَجويري وأبو نعيم — وعليًّا النَّصرابادي. وهذا الأخير من نَيسابور أيضًا، ونَصراباد حيٌّ فيها. ولكنَّنا لا نَعلَم شيئًا عن هذين الشَّيخَين، وأغلبُ الظنِّ أنهما لم تكن لهما شُهرة خاصَّة ولا حظٌّ كبير في حركة التَّصوُّف بِنَيسابور ولا في نشأةِ أبي حفصٍ المَلامتيَّة.
وقد كان لأبي حَفصٍ مَنزلة عظيمةٌ في نفوس النَّيسابوريين والبغدادِيِّين على السواء، فإن الخَطيب البغدادي يُحدِّثنا أنه: «لما ورَد أبو حفصٍ بغدادَ اجتمع إليه من كان بها من مشايخ الصوفيَّة وعظَّمُوه وعَرَفوا له قدْرَه ومحلَّه.» وقد ذكر الخلدي أنه سَمِع الجُنيد يقول وقد ذُكِر عنده أبو حَفصٍ النَّيسابُوري: «كان رجلًا من أهلِ الحقائق ولو رأيتُه لاستغنَيْت، وقد تَكلَّم من غَورٍ بعيد. ثُم قال: كان (أي أبو حَفْص) من أهلِ العِلم البالِغِين، وأهل خُراسان شُيوخُهم وأحوالُهم وأمورُهم وحَقائِقُهم بالِغَةٌ جدًّا.»٥٥ ولا بُدَّ أنَّ بعض الأفكار المُتَّصِلة بالفتوَّة، ولا سيما فِكرة التَّضحية بالنَّفس وإيثار الغَير عليها، قد تَسرَّبَت إلى رجال المدرسة النَّيسابورية بِطرُقٍ لا ندري الآنَ تَحديدَها، واكتسَبَت على أيديهم مَعانِيَ صُوفيَّة أُخرى، مِمَّا جعَل الفُتوَّة في نَظرِهم مِثالًا أعلَى في الحياة الرُّوحيَّة، كما كانت من قَبْلُ مثالًا أعلى في الحياة الاجتماعيَّة. ومِمَّا له مَغْزاه أنَّنا نجِد فيما نَعرِفه من تاريخ حياة الملامتيَّة الأُوَل أمثال أبي حَفصٍ وحمدون القصَّار وغيرهما كثيرًا من الأقوال في الفُتوَّة الصُّوفية التي تَخصَّصوا في فُنونها وأساليبها واعتُبِروا دُون سواهم المُبَرِّزين فيها، ففي أبي حفصٍ يقول أبو عبد الرحمن السُّلَمي: «سمِعتُ عبد الرحمن بن الحُسين الصُّوفي يقول: بلَغَني أنَّ مَشايخَ بغداد اجتمعوا عنده (عند أبي حفص) فسألوه عن الفُتوَّة، فقال: تكلَّمُوا أنتُم فإنَّ لَكُم العبارة واللِّسان، فقال الجُنيد: الفُتوَّة إسقاط الرُّؤية وترْكُ النِّسبة. فقال أبو حَفص: ما أحسَنَ ما قُلتَ، ولكن الفتوَّة عندي أداء الإنصاف وترْك مُطالَبة الإنصاف. فقال الجُنَيد: قُوموا يا أصحابَنا فقد زادَ أبو حفصٍ على آدَم وذُرِّيَّته.»٥٦ وهذا اعتِرافٌ من الجُنَيد بأسبَقيَّة أبي حفصٍ في مَيدان الفتوَّة. وإذا قارَنَّا بين عِبارتَي الرَّجُلين تَبيَّن لنا الفَرْق بين وِجهتَي نظرهما في هذه المسألة: فالجُنَيد يرى الفتوَّة في إسقاط الرؤية؛ أي في عدَم النظر إلى الأعمال نظرةَ اعتبارٍ وتقدير، وترْك النِّسبة؛ أي إسقاط العَلائق والرَّوابط التي تَربِط الإنسان بأيِّ شيءٍ أو أيِّ موجود غير الله؛ وعلى ذلك فالفُتوَّة عِنده هيَ الزُّهد الكامل. أمَّا أبو حفصٍ فيرى الفتوَّة في أداء ما يراه الصُّوفي إنصافًا وعدلًا؛ أي القيام بجميع الواجبات الشرعية والاجتماعية بدون أن يُطالِب القائمُ بها بإنصافٍ من جانِب الشرع أو من جانب المُجتمع؛ أي إنَّ الفُتوَّة عنده هي التضحِيَة الخالِصة.
وممَّا يُؤيِّد ما ذَكَرْناه أيضًا ما حكاه الخطيب البَغدادِيُّ من أنَّ أبا حفصٍ لمَّا أراد الخروج من بغداد شَيَّعَه مَن بها من المشايخ والفتيان، فلمَّا أرادوا أنْ يَرجِعوا قال له بعضُهم: دُلَّنا على الفُتوَّة ما هي، فقال: الفتوَّة تؤخَذ استِعمالًا، مُعاملةً لا نُطقًا، فعَجِبُوا من كلامه.٥٧ أي أنَّ الفُتوَّة نظام أو أسلوب من الحياة يَحياها الصُّوفي — وهي حياة المَلامَتِيَّة — لا نَظريَّة تُشرَح ويُتحدَّث عنها.
وممَّا له مَغْزاه أيضًا أنَّ أبا حفصٍ قد التقى بأحمد بن خضرويه (٢٤٠ﻫ) الذي قصَدَه من بلخ، وكان كما يقول المُترجِمون له: «كبيرًا في الفتوَّة.» وشَهِد له أبو حفصٍ عندما قال: «ما رأيتُ أحدًا أعلى هِمَّةً ولا أصدَقَ حالًا من أحمد بن خضرويه.» ويقول فيه السُّلَمي: «وهو من مَذكوري مَشايخ خُراسان بالفتوة.»٥٨ وقد كان أحمد من أصحاب أبي تُرابٍ النَّخشبي (٢٤٥ﻫ) المشهود له بالفُتوَّة أيضًا. ولا شكَّ عندي أنَّ اتِّصال أبي حفصٍ بهؤلاء الفِتيان الصوفيِّين قد كان له أثَرُه في تشكيل فِكرته الملامتيَّة وتوجيهها وجهةً خاصَّةً. وقد تَخرَّج به أعلام النَّيسابُوريِّين من الملامتيَّة أمثال أبي عُثمان الحيري (٢٩٨ﻫ) فَخْر رِجالِهم وأطوَلِهم باعًا، وأبي الفوارس شاه بن شُجاع الكَرْماني (حوالي سنة ٣٠٠ﻫ)، ومحفوظ بن محمود النَّيسابوري (٣٠٣ﻫ)، وغيرهم. ومِمَّن صَحِبه أيضًا أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثَّقَفي الذي كان إمامَ وَقتِه بنَيسابور (٣٢٨ﻫ)، وأبو علي عبد الله بن محمد المعروف بالمُرتَعِش (المُتوفَّى ببغداد سنة ٣٢٨ﻫ)، وأب محمد عبد الله بن محمد الخرَّاز المُتوفَّى حوالي سنة ٣١٠ﻫ وغيرهم.

وأشهَرُ رجال المَلامتيَّة على الإطلاق أبو صالِح حمدون بن أحمد بن عِمارة المعروف بالقصَّار المُتوفَّى سنة ٢٧١ﻫ، كان أحد عُلماء الفِقْه على مَذْهب الثَّوري. وأشهر أساتِذَته في التَّصوُّف اثنان:

الأول سَلمانُ أو سَالِم البارُوسي٥٩ الذي كان من كِبار مَشايخ نَيسابور ذَوي الأتباع. يَحكي السُّلَمي عن جدِّه أبي عمرو بن نُجَيد الملامتي أنه قال: «دخل سالم بن الحسَن (الباروسي) على محمد بن كرام٦٠ (المُتوفَّى سنة ٢٥٦) فقال له (أي للبارُوسي): كيفَ رأيتَ أصحابي؟ فقال: لو كانت الرَّغبَة التي في بَواطِنهم على ظَواهِرِهم والزُّهد الذي على ظواهرهم في بَواطِنهم لكانوا رجالًا. ثُمَّ قال: أرى صلاةً كثيرةً وصيامًا كثيرًا وخُشوعًا كثيرًا، ولا أرى عليهم نُورَ الإسلام.»

ولهذه القصَّة مَغزاها في تأريخنا لرَجُلٍ من مُؤسِّسي الملامتية؛ لأنها تُلقي بعضَ الضَّوء على ما كان يُعتبَر في ذلك الوقتِ فَرْقًا بين الزُّهد الحقيقي والزُّهد الكاذِب، أو بين الزُّهد المَلامَتي وغيره. نحن نعلم أنه كان من عادة ابن كرام وأصحابه أن يَسيروا في البلاد يَلبَسون الجِلْد المدبوغ المُمزَّق وعلى رءوسهم القَلانِس البيضاء يَعِظُون في الأسواق ويَروُون الحديث، فلَمَّا رأى الباروسي مَظهرَهُم أنكَرَه؛ لأنه رأى فيه معنى الرِّياء، وطالَبَ ابنَ كرام وأصحابه — كما طالَبَ أساتِذَةُ الملامتية تَلامِذَتَهم فيما بعد — أن يكون الزُّهد زُهدَ الباطن لا زُهدَ الظاهر، وأن تكون الرَّغبة التي يدَّعونها في بَواطِنِهم بادِيَةً على ظواهِرِهم، وألَّا يَتظاهَروا بِكثرةِ الوَرَع والخُشوع والصلاة والصيام، ولا غَرابَةَ أن تَصِحَّ فراسَةُ الباروسي في رَجُلٍ كابن كرام كان يَقنَع في تَعاليمه بإيمان الإنسان بلِسانِه دُون قلبِه.

وثاني أساتِذَة حَمدون هو أبو تُراب النَّخشبي (٢٤٥ﻫ) الذي كان من كِبار مشايخ نَيسابور، ومِمَّن اشتُهروا فيها بالعلم والزُّهد والفتوَّة. ولكثيرٍ من آرائه صدًى في تعاليم تِلميذِه حمدون لا سيما في مسائل التوكُّل والسؤال والنهي عن لِبْس المُرَقَّعة، وفي معنى الصِّدق والإخلاص وغير ذلك.

ولحمدون شُهرةٌ خاصَّة من بين مَشايخ نَيسابور، وهي أنه المُؤسِّس الحقيقي الأول لمَذهب الملامتيَّة بها، أو على الأقلِّ أنَّه نَصَّ على أنه مُؤسِّسها. فالسُّلَمي يَصِفُه بأنه «شيخ الملامتيَّة بِنَيسابور، ومنه انتشرَ مَذهَب الملامَة.»٦١ وكذلك يُردِّد هذه العِبارة القُشيري في رِسالته والشَّعراني في طبَقاته، وإن كان أتباع حَمدون لا يُسمَّون عادةً باسم الملامتيَّة بل باسم الحَمدونيَّة أو القصَّارية.٦٢
وقد أشَرْنا إلى صِلَة أبي حفصٍ بأصحاب الفتوَّة الصُّوفيَّة داخل خُراسان وخارِجها وإلى مَنزلتِه الخاصَّة فيها، ولكنَّنا نَجِد أن صِلة حمدون بالفِتيان من الصُّوفية وغيرهم آكَدُ وأشد. كان بِنَيسابور فِتيان من غير الصُّوفية في زَمن حمدون من غير شَك، وكانت لهم هيئات أو جماعات لا نكاد نعرِف من أمرِها شيئًا، وكان يُطلَق على الفتى منهم اسم «العَيَّار» أو الشاطِر أحيانًا.٦٣ وكان الاتِّصال موجودًا بين هؤلاء الِفتيان وبين رجال الملامتية؛ بدليل القصَّة التي ذكرها الهَجويري وفريد الدِّين العطَّار٦٤ وهي ممَّا يُلقي بعضَ الضُّوء على سِيرة حمدون القصَّار ومن اتَّصَل به من هؤلاء الفِتيان. قال حمدون: «كنتُ أسير يَومًا في حيٍّ من نَيسابور فلقِيتُ نُوحًا العيَّار أحد المَعروفين بالفُتوَّة، وكان على رأس الشُّطَّار بنَيسابور، فقلتُ له: يا نُوح ما الفتوَّة؟ فقال: فُتوَّتي أم فُتوَّتُك؟ فقلت: صِف الاثنتين، فقال: «أخلَعُ القِباء وألبِس الخِرقَة وأفعَلُ الأفعال التي تَليقُ بهذا الثَّوب لعَلِّي أُصبِح صوفيًّا، وأُقلِع عن المعاصي لِما أشعُر به من الحياء من الله. ولكنَّك تَخلَع الخِرقة لكَيلا يَخدِمَك الناس ويَنخَدِعوا بك، فَفُتُوَّتي في اتِّباع ظاهِر الشَّرع، أما فُتوَّتُك ففي تَلبيَةِ نِداء القَلب.» وهذا بِعينِه هو الأساس الذي بَنى عليه الملامتيَّة مذهبَهم وسلوكهم، خَلْعُ الخِرقَة وكلِّ مظهَرٍ يُرمَز به إلى الوَرَع والتقوى، وتلبِيَة نِداء القلب، وإخلاصُ المُعامَلَة مع الله، فنُوح الفتى يَوَدُّ لو لَبِس خِرقَةَ الصُّوفي لتَحُول بينَه وبين إتيانه ما لا يَلِيق بها من الأفعال وتَحمِلَه على فِعل ما يتمشَّى مع ظاهر الشرع، وحمدون الملامَتي يَخلَع عن بدَنِه ثَوب الصوفية ليَحُول بين نفسه وبين الرِّياء، ويُخلِص لنِداء قلبه المُتَّصِل بالله ليَحُول بين نفسه وبين ما لا يَليق في جانِب الله. وإذا كانت الفتوَّة بمعناها العام هي المروءة والرُّجولة والإيثار المَحْض، فهذه معانٍ نَجِدها مُتحقِّقة في حمدون القصَّار أكثر مِنها في زميله أبي حفص. وليس أدَلَّ على ذلك من العِبارات المأثورة عنه في رسالة السُّلَمي ورسالة القُشيري وما أورَدَه له مُؤلِّفو الطبقات؛ فمن الفتوَّة عنده ألا يُظهِر الإنسان العُجْب والكِبر، ومنها غضُّ الطَّرْف عن مَواطِن التقصير في الغَير، ومنها الإيثار والاعتِراف بالتقصير والتَّواضُع والتِماس المَعاذِير عِند رؤية القَبيح إذا صدَر عن الغَير، وهذه كلُّها شديدة الاتِّصال بمعاني الفُتوَّة، ومنها يَتألَّف عددٌ كبيرٌ من أُصول تَعليم الملامتيَّة.
ليس من غَير المُحتمل إذن بعد الذي ذكرناه عن مَشايخ مدرستَي بلخ ونَيسابور أن يكون نِظام الفتوَّة الذي كان لا شكَّ سائدًا في خُراسان، والفتوَّة الصوفية التي كانت قد ظهرَت في العِراق، قد مَهَّدا الطريق لظُهور المذهب المَلامتي ولعِبا دَورًا هامًّا في تشكيله، وإن كنا لا نستطيع الآن الجَزْم بشيءٍ في تكييف ذلك التأثير أو تحديد مَداه. وقد أشرتُ من قبل إلى أنَّ عددًا كبيرًا من الصُّوفية — وأُضيفُ هنا: والمَلامتيَّة أيضًا — كان ممَّن تَفَتَّى وعاشَر الفِتيان قبل دُخوله في الطريق الصُّوفي أو المَلامتي، نذكُر من هؤلاء على سبيل المِثال شقيقًا البلخي.٦٥

ولكنَّا لا نستطيع أن نضعَ حدًّا فاصلًا بين نشأة مذهَب الملامتيَّة على يَدي أبي حفصٍ وحمدون القصَّار، وبين تطوُّره على أيدي أتباعِهما الكثيرين وما أضافوه إليه، فقد كان لكلٍّ من هَذين الشَّيْخين تلامِذة ظهَر أثرُهم في نَيسابور وخارِجها، وكان لهم الفَضل في إيصال تلك المَعاني الأوَّليَّة التي تألَّفت منها فِكرة الملامة السَّاذَجة إلى صُورة المذهَب الكامل، فمن أكبر أتباع أبي حفص النَّيسابوري أبو عُثمان الحِيري (٢٩٨) أكثر شُيوخ الملامتيَّة أتباعًا وأبعدُهم أثرًا. يقول أبو نعيم إنه كان رازيَّ المَولِد، خرج مع شاه الكرماني في زيارة أبي حفص بِنَيسابور فقَبِله أبو حفصٍ وزوَّجَه ابنتَه. وأقام أبو عُثمان عندَه وتخرَّج به. ولمَّا مات دُفِن بمَقبرة الحِيرة عند قبر أستاذِه.

ويَظهر أن أبا عثمان كان أكثرَ علمًا وأوسَعَ أُفُقًا من أُستاذِه أبي حفص، وإن كان أقلَّ منه حالًا. وقد وافَقَ أستاذَه في بعض ما ذهَبَ إليه وخالَفَه في بعض، وانفرَد بأقوالٍ نَجِد صَداها واضِحًا في تعاليم الملامتية. ثم هو من ناحيةٍ أخرى يُشاطر حمدون القصَّار بعض آرائه، وإن لم تثبُتْ عندنا صُحبَتُه له.

ومن المبادئ الأساسيَّة التي صدَر عنها في مذهَبِه الملامتي أن العالَم شرٌّ لا خَيرَ فيه، وهو في هذا يَتَّفِق مع حمدون القصَّار؛ ولذلك يُوجِب على الملامتي التِزام الحُزْن والكَمَد ورؤية التَّقصير في جميع أفعالِه مهما خُيِّل إليه أنه جوَّد فيها، ويُلزِمه باتِّهامه نفسَه دائمًا بذلك التقصير. وقد كان ذلك سببًا دعا بعض الصُّوفية كأبي بكر الواسِطي (المُتوفَّى حوالي سنة ٣٢٠ﻫ) إلى وصْفِ مذهَب أبي عثمان بأنه مذهبٌ مَجوسي. قيل إنه لمَّا دخل الواسِطي نَيسابور سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كأن يأمُرُكم شيخُكم؟ فقالوا: كان يأمُرنا بالطَّاعات ورُؤية التقصير فيها، فقال: أمرَكم بالمَجوسيَّة المَحْضة. هلَّا أمرَكم بالغَيبة عنها برُؤية مُنشِئها ومُجريها؟٦٦ وفي هذا المعنى نفسه يقول أبو عثمان: «لا يرى أحدٌ عَيب نفسِه وهو يَستحسِن من نفسِه شيئًا، وإنما يرى عُيوب نفسِه من يَتَّهِمُها في جميع الأحوال.»٦٧
وإذا كانت الدُّنيا شرًّا مَحضًا يجِب التخلُّص منه فالزُّهد فيها أوَّلُ ما يُلزِم به المُتشائم نفسَه؛ ولذلك كان أبو عثمان يرى وجوب الزُّهد المُطلَق في كلِّ شيء، ويَعتبِر الزُّهد في الحرام فريضة، وفي المُباح فَضيلة، وفي الحلال قُربَة إلى الله.٦٨ وكان يرى أن الإيمان الكامل لا يتمُّ للرجُل حتى يَستوي عنده المَنع والعَطاء والعزُّ والذُّلُّ. وهذا مَقام لا يتحقَّق إلَّا لِمَن زَهد في الدُّنيا زُهدًا مُطلقًا.
وممَّا يتمشَّى مع هذه النَّغمة الحزينة — نغمة التشاؤم — التي تغنَّى بها أبو عثمان، وَضعُه مَذهبًا كاملًا في العبوديَّة ووصفُه الطريق التي تُحقِّق معاني العبودية لأتباعِه. يقول مُحمَّد بن الفضل البلخي (٣١٩ﻫ): «إن الله تعالى زَيَّن أبا عثمان بفُنون العُبودية وأبرَزَه للنَّاس ليُعلِّمَهم آدابَ العبوديَّة.»٦٩ وطريق العبودية لله هو التخلُّص من استِعباد النفس وشهَواتها وصِفات العُجب والزَّهو والكِبر؛ ولهذا يقول أبو عثمان: «الخَوف من الله يُوصِّلك إلى الله، والكِبر والعُجْب في نفسك يَقطعُك عن الله.»٧٠ ومن العُبودية ترْك كلِّ الأمور إلى الله والتَّفويض فيها. وفي ذلك يقول أبو عُثمان: «التَّفويض ردُّ عِلْمِ ما جَهِلتَ إلى عالِمِه، والتَّفويض مُقدِّمة الرِّضا، والرِّضا باب الله الأعظم.»٧١ ومن العُبودِيَّة التَّواضُع لله والافتِقار إليه والخَوف منه والرَّجاء فيه، وكلُّ هذه صِفاتٌ يدعو إليها أبو عثمان، ويتَّخِذها موضوعاتٍ لدُروس وَعْظه الذي اشتُهر به. والنَّاظِر فيها يرى فيها أثرًا ظاهِرًا لعامِلَين مُهمِّين:
  • أولهما: فِكرة «الفتوَّة» التي أخذَت في اصطِلاح هذا الرجل معنى «العبودية»: فالفتى الذي اتَّخَذ التَّضحية بالنفس وإيثار الغَير عليها مِثاله الأعلى، هو المَلامتي الذي استكمَلَ كلَّ صِفاتِ العبودية وتحقَّقَ بها فأصبحَ لا يرى لنفسه خَيرًا وأدام اتِّهامها على كلِّ ما ظهَر منها. فالفتى الكامل هو العبد الكامل المُضحِّي بنفسه المُؤثِر لله وحده.
  • العامِل الثاني: هو ما وَصفه «الواسِطي» بالمَجوسية، وليس من المُستبعَد أن يكون التشاؤم الزرادِشتي والهِندي قد وَجَد طريقه إلى بعض صُوفيَّة خُراسان وإلى البيئة الثقافية التي عاش فيها أبو عثمان الحِيري. بل ليس هناك من شكٍّ في أن نظرة أبي عثمان خاصَّة، والملامتية عامَّة، إلى النفس الإنسانية إنما هي نظرة رجالٍ مُتشائمين تحمِل طابَعًا غيرَ إسلامي.

وإذا صنَّفْنا شُيوخ الملامتيَّة في طبَقات، كان أبو حفص وحمدون القصَّار وأبو عُثمان الحِيري أشهرَ رجال الطبَقة الأولى التي تنتهي حوالي سنة ٣٠٠ﻫ. بعد ذلك تأتي الطبقة الثانية التي تتألَّف من أتباع وأصحاب أبي حفصٍ وحدَه، أو حمدون القصَّار وحده، أو أبي حفصٍ وحمدون وأبي عثمان جميعًا. وليس من بين رجال هذه الطبَقة من يستحقُّ الذِّكر سوى محفوظ بن محمود النَّيسابوري الذي صحِب أبا حفصٍ وحمدونًا وأبا عثمان، وأبي محمد المُرتَعِش الذي صحِب أبا حفصٍ وأبا عثمان ثم ذهب إلى بغداد وصحِب بها الجُنَيد، وأبي علي الثَّقفي الذي صحِب أبا حفصٍ وحمدونًا وعليًّا النَّصراباذي، وأبي الحُسَين محمد بن سعد الورَّاق، وأبي عبد الله مُحمد بن مُنازل النَّيسابوري. وأشهر هذه الطَّبقة على الإطلاق هو هذا الأخير، فقد كان أخصَّ أتباع حمدون القصَّار، وكان له الفضل في نَشْر المذهب الملامتي الذي وَضَعه أستاذه، بالإضافة إلى بعض الاتِّجاهات الخاصَّة التي انفرَد بها.

ويَختلِف رجال هذه الطبقة في أقدارِهم وفي مدى أخذِهم بفِكرةِ الملامة التي تلقَّوها عن شُيوخهم، فبينا نجِد محفوظ بن محمد أمينًا على تعاليم أبي عثمان، يرى طريق الخَلاص في اتِّهام النفس الدائم فيقول: «من أراد أن يُبصِر طريق رُشدِه، فلْيتَّهم نفسه في المُوافَقات فضلًا عن المُخالفات.»٧٢ نجِد أبا الحُسَين الورَّاق (حوالي سنة ٣٢٠ﻫ) يُمثِّل الصُّوفي السُّنِّي الذي يرى طريق الخَلاص في استِقامة الدِّين واتِّباع السُّنَّة والفناء عن النَّفس والخلْق ليَحيا الإنسان بمُشاهَدَة الخَيرات والمِنَنِ الإلهيَّة.٧٣
على أنَّ تَعاليم الملامتية لم تَعُد بعد انتهاء القرن الثالث قَصرًا على مدرسة نَيسابور، بل تَجاوزتْها إلى أجزاءٍ أُخرى من العالَم الإسلامي بفضل أتباع رِجال الملامتية الأوَّلين، وكثير من شُيوخ خُراسان الذين كان لهم اتِّصال دائم بهم، فقد رَحل عن هذه البلاد — لا سيما إلى بغداد التي كان على رأس مَدرستِها الجُنَيد — عددٌ غير قليلٍ من هؤلاء المشايخ، منهم أبو عمرو مُحمَّد بن إبراهيم الزجاجي (الذي تُوفِّي بمكة سنة ٣٤٨ﻫ)، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الرازي المَعروف بالشَّعراني النَّيسابوري (المُتوفَّى سنة ٣٥٣ﻫ)، وأبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر النَّيسابوري (المُتوفَّى سنة ٣٦٠ﻫ)، وأبو الحُسَين علي بن بِندار الذي صَحِب أبا عُثمان ومحفوظًا وبعض شُيوخ مصر وبغداد (تُوفِّي سنة ٣٥٠ﻫ)، وأبو عبد الله مُحمَّد بن محمد الروغندي الذي كان من كِبار مَشايخ طُوس (تُوفِّي سنة ٣٥٠ﻫ)، ومحمد بن علي النَّسَوي المَعروف بابن عليان الذي كان من كِبار مشايخ نَسا وأجِلَّة أصحاب أبي عثمان، وأبو الحسَن علي بن أحمد بن سهل البوشنجي٧٤ (المُتوفَّى سنة ٣٤٨ﻫ)، وأبو القاسِم إبراهيم بن مُحمَّد النَّصرابادي (المُتوفَّى سنة ٣٦٩ﻫ)، وأبو عمرو إسماعيل بن نُجَيد السُّلَمي (الذي تُوفِّي بمكة سنة ٣٦٦ﻫ)، وغيرهم.
وقد كانت نَيسابور إلى ذلك العهد من أكبر مَراكِز التصوُّف في العالَم الإسلامي، يخرُج منها أبناؤها لزِيارة مَشايخ بغداد أو للحَجِّ أو المُجاوَرة بمكَّة، ويَؤمُّها الصُّوفية من كلِّ مكانٍ مِمَّن لهم أو ليس لهم صِلة بالمذهَب الملامتي. فقد قصدَها مثلًا أبو عُثمان سعد بن سلام المَغربي (المُتوفَّى سنة ٣٧٣ﻫ) الذي كان من أصحاب أبي عمرو الزجاجي، وأبو يعقوب إسحق بن مُحمَّد النَّهرجوري من أصحاب أبي عمرو المكِّي والجُنَيد (تُوفِّي سنة ٣٣٠ﻫ)، وأبو بكر الطَّمَسْتاني٧٥ (المُتوفَّى سنة ٣٤٠ﻫ)، وأبو العبَّاس أحمد بن مُحمَّد الدَّيْنوري (المُتوفَّى بِسَمْرقَند حوالي سنة ٣٤٠).

ولمَّا تقدَّم الزَّمن بالملامتية، وظهرت الطَّبقَة الثالثة من رِجالها من تلامِذَة الطبقة الثانية، تحدَّدت فكرة الملامَة واتَّخَذ المذهب الملامتي الصُّورة النِّهائية التي تَنطبِق عليها التَّعريفات الموضوعة له أكثرَ من انطِباقِها على الصُّور الأولى.

وقد كانت الفكرة الأصليَّة في المذهَب الملامتي كما أوضَحَها حمدون القصَّار وتلميذُه ابن مُنازل: الحرب الدَّائمة ضِدَّ النفس ورُعوناتِها ورِيائها، والعمَل على كِتمان حَسناتِها، فغالى أتباع الملامتيَّة المُتأخِّرون — مثل محمد بن أحمد بن حمدون الفرَّاء (المُتوفَّى سنة ٣٧٠ﻫ) وكان من أصحاب أبي علي الثَّقَفي وأتباع ابن مُنازل — في تفسير هذا المبدأ وتطبيقه، فبعدَ أن كان مبدأً سَلبيًّا صِرفًا يدعو إلى إخفاء الحَسَنات، اتَّخَذ على أيدي هؤلاء اتِّجاهًا إيجابيًّا، فطالَب أهل الملامة مُريديهم بتعمُّد المُخالَفة والظُّهور في الناس بالمَظاهِر التي تُثير لَومَهم وتجلُب عليهم سُخطهم وازدِراءهم. وأصبح هذا في نَظَر الملامتية طريقًا من طُرق تقويم النفس وتأدِيبها وتَعريفها قدْرَها، وصار هذا المَعنى جُزءًا من مفهوم المَذهب المَلامتي.

وهكذا مَضى الملامتية في غُلُوِّهم حتى وَقَعوا في العُصور الحديثة، في تُركيا خاصةً، في نَوعٍ من الإباحيَّة انمَحى فيه كلُّ فرقٍ بين الحَسَن والقبيح والخَير والشَّر. ولكنَّنا لا نَعرِف صِلةً تاريخيَّةً — إلا في مُجرَّد الاسم — بين هؤلاء الملامتية المُستهتِرين وبين أوائل الملامتيَّة الذين صوَّرهم السُّلَمي في رسالته بتلك الصُّورة الرائعة.

(٣) تحليل نَقدِي لأصول المَلامتيَّة

أول ما يَسترعي نظرَ القارئ لرسالة المَلامتية أنها رسالةٌ عمليَّة أكثر منها نظريَّة، فإن من السَّهل عليه أن يَستخلِص تعاليم الملامتيَّة وقواعد طريقهم وآدابهم في العبادات والمُعاملات أكثر ممَّا يَستخلِص الأساس النَّظريَّ الذي تَستنِد إليه هذه الآداب والقواعد، فإذا تكلَّمْنا عن الأسُسِ النَّظريَّة للمَذهَب الملامَتي كان ذلك مَحضَ استِنتاجٍ من جانِبنا، بَنَيناه على ما لمَسْناه من رُوحٍ عامَّةٍ انصبَغَت بها تعاليم الملامتية وأقوالَهم.

أمَّا ما يُسمِّيه السُّلَمي بالأصول التي ذَكر منها خمسةً وأربَعين، فإنها لا تعدو الآداب والصِّفات الأساسية التي يُطالِب بها الملامتيَّة أنفُسَهم ومُريديهم مُعتمِدين في ذلك — على حسْب كلام المُؤلِّف — على أصلٍ من الكِتاب أو السُّنة أو قول لمَشهوري رِجالهم أو رِجال الصُّوفية. وقَلَّما تَتناوَل الرسالة مَسائل المذهَب المَلامتي من الناحِيَة النَّظرية، إلَّا إذا استَثْنَينا ما ورَدَ فيها عن النفس والرُّوح والقلب والسِّر، وعن حال التَّرقِّي الصُّوفي من كلِّ واحدٍ من هذه إلى الآخر، وما وَرَد فيها عن ذِكر اللِّسان والقلْب والسِّرِّ والرُّوح وآفاتِ كلٍّ منها.

ويُخيَّل إليَّ أنَّ الأساس النَّظري العام الذي يقوم عليه المذهَب المَلامَتي هو التَّشاؤم الذي نظَر به شُيوخ هذه الفِرقَةِ إلى النَّفس الإنسانيَّة وبَنَوا عليه مَذهبًا كاملًا في تَذلِيلِها وتَحقيرها ولَوْمِها واتِّهامها وحِرمانِها من كلِّ ما يُنسَب إليها من عِلمٍ أو عَملٍ أو حالٍ أو عبادة. وهي وِجهةُ نَظَرٍ قد يكون للبيئة الزرادِشتية في فارس أثرٌ فيها، وهي المبدأ الذي أوحى إلى رجال المَلامتيَّة بكلِّ ما ذَكروه من أقوالٍ وما وضعوه من قواعد. وهناك أساسٌ نَظَري آخر غير مُستقلٍّ تمامًا عن الأساس السابق، وهذا هو فكرة الفتوَّة التي أعتقد أنها — فيما يتعلَّق بالملامتية — كانت فَارسيَّةً أيضًا، فالنفس التي دَعاهم تَشاؤمهم إلى تَحقيرها وإذلالِها وإدامَةِ اتِّهامها، يَجِب التَّضحِيَة بها في سبيل الله أولًا، وسَبيل الغَيْر ثانيًا، وفي التَّضحِيَة بالنفس والانتصار التامِّ عليها يَتحقَّق معنى الإيثار المَحْض الذي هوَ أخَصُّ صِفات الفُتوَّة. ويَظهَر مَعنى الفُتوَّة بِكلِّ وُضوحٍ في كثيرٍ من قَواعد الملامتية وآدابِهم المُسمَّاة بالأصول، سواء منها ما كان مُتَّصِلًا بمُعامَلة اللهِ وهِيَ الفُتوَّة الصُّوفية، أو الفُتوَّة الملاميَّة التي يَظهَر فيها الإيثار لله، وما كان مُتَّصِلًا بمُعاملة الخلْق وهي الفتوَّة الاجتماعية. ويظهر في الحالَتَين إنكارُ الذَّات.

وإلى هَذين الأصْلَين يُمكِنُنا أن نَرُدَّ جميع «الأصول» التي ذَكَرها السُّلَمي للملامتيَّة بطريقٍ مُباشر أو غير مُباشر. وعنهما صدَر كلام الملامتية في المَسائل الرئيسية الآتية:
  • (١)

    كلامُهم في النَّفس وشَرْيَتِها وصِلتها بالقَلب والسِّر.

  • (٢)

    كلامُهم في مُحاربة النَّفس وظواهرها وخاصَّةً الرِّياء والعُجْب والشُّهرة، وما يتَّصِل بهذه الصِّفات من مسائل مُتعلِّقة بالحياة الصُّوفية كمسألة الزِّيِّ والدَّعاوى الصُّوفية والأحوال والسَّماع والفَقْر والتوكُّل، أو مسائل أخلاقِيَّة كمسألة أفعال العبد وإرادته ومعاني الحُريَّة والعبوديَّة، أو مسائل (إلهيَّة) كمسألة الشِّرك، أو مسائل تتعلَّق بالحياة العمليَّة كالكسْب والقُعود للنَّاس في الوَعظ والتَّذكير. ومن أقوالِهم في هذه المَسائل كلِّها تتألَّف آدابُ الطريق المَلامَتي عندَهُم.

  • (٣)

    كلامُهم في طُرُق مُحاربة النفس وظواهرها التي أهمُّها الزَّجْر والبَخْع والتأنيب والاتهام وكلُّ ما يُمكِن وَضعه تحت العنوان العام الذي يُطلِقون اسم «الملامة» عليه.

  • (٤)

    كلامهم في الغايَة من الطريق وهي التحقُّق في مَقام الإخلاص.

(٤) فلسفة المَلامتية في النَّفس

يَستعمِل السُّلَمي في رسالة الملامتية كلِمات الرُّوح والسِّرِّ والقلب والنفس والطَّبع ويُرتِّبها على هذا النَّحو من حيث الأفضليَّة بينها، ولكنَّه لا يُحدِّد مفهومات هذه الألفاظ ولا يُشير إلى وَظيفة مَدلول كلٍّ منها بالدقَّة كما فعل تِلميذه وخلَفُه أبو القاسم القُشَيري، فهو يضَع «الروح» في أعلى القائمة في المَوضِع الذي يضَع فيه القُشيري «السِّرَّ». ولكن بعض أقوال الملامتية أنفسهم يُشير إلى أن «السِّر» أفضل هذه القُوى جميعها من حيث إنَّه مَحلُّ المُشاهَدة، وهذا يَتَّفِق مع ما يقوله القُشيري.

ولا بُدَّ من إيضاح مَعاني هذه الألفاظ لكي نعرِف على وَجْه التَّقريب «النفس» التي يدعو الصُّوفية عامَّةً والملامتية خاصَّةً إلى مُحاربتها واتِّهامها والتَّضحيَة بها. أما النفس فتُطلَق في جُملة ما تُطلَق عليه على اللَّطيفة المُودَعة في القلب الجسماني التي هي مَحلُّ الأخلاق المَذمومة والأفعال القَبيحة، في مُقابَلة الرُّوح التي هي لَطيفة مُودَعة في القلب الجسماني أيضًا ولكنَّها مَحلُّ الأخلاق المَحمودة والأفعال الحسَنة، وفي مُقابَلة القلبِ والسِّرِّ اللَّذَين هُما لطيفَتان أُخرَيان مُودَعَتان في ذلك المجموع الذي نُسمِّيه إنسانًا، فالإنسان بهذا المعنى مجموع قوى مُسخَّر بعضها لبعض، لكلٍّ منها وَظيفة خاصَّة، كما أنَّ الجِسم الإنساني كلٌّ في مَجموعِه كثير بقُواه الجِسميَّة وحَواسِّه التي لكلٍّ منها وظيفته الخاصَّة. وقد أجمَع الصوفيَّة على أن الرُّوح مبدأ الحياة، وأن النفس مبدأ الشَّهوات، والقلب مَرْكز المَعرفة، والسِّرُّ مركَز المُشاهَدة أو الشُّهود. أو كما يُقال أحيانًا: النفس مبدأ الشَّهوات والأفعال المَذمومة، والرُّوح مبدأ الحياة والأفعال المَحمودة، والعقل مَحلُّ العِلم، والقَلب مَحلُّ المَعرِفة والمَحبَّة أصالة، ولكنَّه إن مالَ إلى النفس اتَّصَف بصِفاتها، وإن مال إلى الرُّوح اتَّصَف بصِفاتِها، فهو مُتقلِّب بينهما. أمَّا السِّرُّ فهو مَحلُّ المُشاهَدَة التي ليس لواحدةٍ من القوى السَّابقة اطِّلاع عليها. وقد يتكلَّم الصوفية أيضًا عن سِرِّ السِّرِّ أي السِّرُّ المُودَع في لطيفة السِّر. وهذا أمر لا يَطلِّع عليه إلَّا الله.

ويُرتِّب القُشيري هذه القُوى بحسب لطافَتِها وفضلها على النَّحو الآتي: السِّر ثُمَّ الرُّوح ثُمَّ القلب ثم النفس،٧٦ ويُرَتِّبها السُّلَمي على نحوٍ آخرَ هو: الرُّوح ثُمَّ السِّرُّ ثُمَّ القلْب ثم النَّفس. ويجعل التَّرقِّي الصُّوفي في الأحوال من حال النفس إلى حال القلْب من غير أن يَشعُر الطَّبْع بذلك، ومن حال القلب إلى حال السِّرِّ من غير أن تَشعُر النفس، ومن حال السِّر إلى حال الرُّوح من غير أن يشعُر القلب، فإذا وَصَل السَّالِك إلى حال الرُّوح حصلَتْ له المُكاشَفة والمُشاهَدَة.٧٧
وللنَّفس عند بعض الصُّوفية تعريف آخر، وهو أنها اسمٌ لكلِّ ما هو مَعلول (أي ذو عِلَّةٍ ومعناها الصِّفَة الذَّميمة)٧٨ من أوصاف العبد ومَذموم من أفعاله وأخلاقه، سواء في ذلك ما اكتَسَبه العبد من المَعاصي أو ما كان في طبعِه في صِفاتٍ ذَميمة كالكِبر والغَضب والحِقد وقِلَّة الاحتِمال ونحو ذلك ممَّا يَنتفِي عن العَبد بالمُجاهَدة والمُنازَلة.

وسواء عرَّفوا النفس بأنها قوَّة أو لطيفة تصدُر عنها الشُّرور والآثام، أو بأنها مَجموعة تلك الشُّرور والآثام، فهي لا شكَّ عِندَهم العدوُّ الأكبر الذي يجِب على الصُّوفي مُنازَلتُه، والشرُّ المُستطير الذي يجِب عليه مَحْوُه. وهذا قدَرٌ مُشترَك بين الصُّوفية جميعًا، إذ الكلُّ مُجمِعون على أنَّ النفسَ مصدَر الآثام لأنها مَصدَر الشَّهوَة والرَّغبة، وعلى أنَّ جِهادها عن طريق الحياة الصوفية هو الجهاد الأكبر. وربما كان أصلُهم في ذلك ما ورَد في القرآن والحديث من ذَمِّ النَّفس في مِثل قوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وكقَولِه تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وقوله عليه السلام: «أعْدَى أعدائك نفسُك التي بين جنبَيك.» ولكن المَلامتية بالَغوا في هذه الفكرة — تحت تأثير عامِلٍ غير إسلاميٍّ فيما أعتقِد — مُبالغةً تَجاوَزَت المعقول في كثيرٍ من الأحيان، فاعتَبروا النفس شرًّا مَحضًا، ونَظروا إلى جميع أفعالِها نَظرة امتِهانٍ واتِّهام، وعدُّوا مُجرَّد تَوهُّمِها صدُور شيءٍ حسَنٍ عنها أو تَوَهُّمها استِحقاق قدْر على أعمالها ضربًا من ضُروب الشِّرك الخَفي؛ لأن ذلك في اعتِقادِهم تَعظيم لفِعلٍ غير فعل الله. وليست طريقتُهم التي سَمَّوها بطريقة المَلامة سوى سلسلة من التعاليم يُرادُ بها القَضاء على النفس وجَميع مَظاهِرها.

فالنفس ليست — في نظَر الملامتية — مُقابِلة للرُّوح فحسْبُ من حيث أنَّها مَصدَر الشَّر والرُّوح مصدَر الخير، بل هي مُقابِلَة لله من حيث أنَّ رُؤية أفعالِها وتَعظيمها والارتِكان إليها بِمثابة الإشراك بالله.

وتَتبيَّن قِيمة تَصنيف القُوى النفسيَّة عند الملامتية — كما ذَكَرها السُّلَمي — فيما رتَّبوا عليه من النتائج المُتَّصِلة بمَعرِفة الله أو مُشاهَدَتِه أو غير ذلك من المَقامات الصُّوفية. فإذا كانت الرُّوح عندَهم محلَّ المُشاهَدة — بدلًا من السِّرِّ عند القُشيري — والمُشاهَدة حالة خاصَّة بين العبد وربِّه، اعتُبِر اطِّلاع السِّرِّ على تلك المُشاهدة نوعًا من الرِّياء. وذلك لأن المُشاهَدة لا تكون إلَّا لأفضل قُوَّة في الإنسان، فإذا اطَّلَعَت عليها قُوَّة أخرى دُونها في المَرتَبَة لم تكن المُشاهَدة خالِصَة. وكذلك الحال في القُوى الأخرى إذا اطَّلَعَت قوَّة منها على أعمال القُوَّة التي هي فَوقَها في المَرتَبة، كالقلب إذا اطَّلع على أعمال السِّر، وكالنفس إذا اطَّلَعَت على أعمال القلب.

هذا من حيث اطِّلاع بعض القُوى الإنسانية على وَظيفة بعضها الآخر أو عَمَله، فقد فَهِم الملامتيَّة هذه القوى على أنَّها مُنعزِلة تمامًا تقوم كلُّ واحدةٍ منها — بل ويَجِب أن تَقوم كلٌّ منها — بِوظيفَتِها مُستقلَّةً تمامًا عن الأخرى. فإذا جاوَزَت إحداها حدُودها واطَّلعَت على ما يقوم به غيرُها، شاب ذلك من إخلاصِها وأوقَع صاحِبَها في الرِّياء. أما إطْلاع الملامتي غيرَه على فِعله وحالِه، أي إظهار ذلك له عن قَصْد، فهوَ أدخَلُ في باب الرِّياء من سَابِقِه، وهو في نَظَر الملامتية مِن رُعونَة الطَّبع ولَعِب الشَّيطان.٧٩ وهذا هو السِّرُّ في أنَّهم حارَبوا كلَّ المَظاهر المُنبِئة عن الأحوال والأفعال؛ فأنكروا لِبْس المُرقَّعات، واستَقبَحوا السَّماع والتواجُد فيه، وأخْفَوا الكرامات، وكرِهوا القُعود للنَّاس للتَّذكير والوَعْظ وما أشبَهَ ذلك من أسباب الإعلان عن الحال.

ويظهر أثَر تصنيف الملامتيَّة للقوى الإنسانية من ناحية أخرى في كلامِهم في «الذِّكر»، فقد عدُّوا منه أربعة أنواع: ذِكر اللسان وهو ذكر الجَوارح، وذِكر القلب، وذِكر السِّر، وذِكر الرُّوح. وقالوا إذا صدَق ذِكر الرُّوح سكتَ السِّر والقلب واللِّسان عن الذِّكر، وهنا تحصُل المُشاهَدة في مقام الجَمْع أو مقام الفَناء على حدِّ قول الصوفيَّة. وإذا صحَّ ذِكر السرِّ سكتَ القلب واللِّسان، وهذا مَقام الهَيبة. وإذا صحَّ ذِكر القلب سكتَ اللسان، وذكر القلب هو ذِكر الآلاء والنَّعْماء. وإذا غفل القلب عن الذِّكر ذَكَر اللسان، وذلك أدنى مَراتِب الذِّكر وهو ذِكر العامَّة.

ثم ذَكروا لكلِّ واحدٍ من هذه الأذكار آفة، وآفَةُ ذِكر كلِّ قوَّةٍ اطِّلاع القوَّة التي دُونها في المَنزِلة على ذِكرها.٨٠ فذكر الرُّوح هو ذِكر الذات الإلهيَّة في مقام المُشاهدة، وذِكر السرِّ هو ذِكر الصِّفات في مقام الهَيبة والجلال، وذِكر القلب هو ذكر أثرِ الصِّفات المُعبَّر عنه بالآلاء والنَّعماء وذلك في مقام المعرفة، وذكر النفس هو الذكر باللِّسان، فإذا اطَّلع السِّر على ذِكر الرُّوح أفسدَ المُشاهدة لأن المُشاهدَة الصادِقة تقتضي نوعًا من الفناء في الله، وإذا اطَّلع السرُّ على ذِكر الرُّوح حصلَت حالة الهَيبة وهي مُنافِية للتحقُّق بالفناء الكامِل من حيث إن حُصولها يقتضي وجودًا وبقيَّةً للعبد الذي يَشعُر بها، وهذا مُنافٍ لحالة الفناء. وكذلك إذا اطَّلع القلب على ذِكر السرِّ أفسدَه؛ لأن القلب يذكُر آلاء الله ونعماءه، وذِكر الآلاء والنَّعماء يَتنافى مع مَقام الهَيبة؛ لأنَّ مقام الهَيبة مَقامُ قُربٍ من الله ومَقام ذِكر الآلاء مَقام بُعْدٍ منه. أما ذِكر النَّفس فالمُراد به ذِكر اللِّسان طَلبًا للثَّواب أو العِوَض وهو أدنى درَجات الذِّكر عندهم، فإذا اختلَطَ بذكر القلب أفسدَه لأنه يَحُول دُون رؤية آلاء الله ونعمائه خالِصةً من الله الذي يَمنُّ بآلائه ونَعمائه على العبد في غير مُقابلٍ أو عِوَض.

مُحارَبة الرِّياء

ظهر ممَّا ذكرناه عن نظرة الملامتية إلى النفس ومنزلتها أنَّ لهم هدفًا واحدًا يرمُون إليه وهو صِدق المُعامَلة مع الله، ذلك الصِّدق الذي لا يتحقَّق إلا بتصحيح الأحوال والمقامات، والذي لا يَتمُّ إلَّا إذا انمحى كلُّ أثر — ظاهر أو خفي — من آثار الرِّياء؛ ولذلك انطوى ذلك الأصل من أصولهم على مُعظم تعاليمهم، وكان بمثابة حَجَر الزَّاوية في بناء مَذهبهم.

وإذا ذُكِرَ الرِّياء ذُكِرَ الإخلاص الذي هو ضِدَّه؛ لأن التَّخلُّص من الرِّياء شرطٌ من شروط الإخلاص. ولكن الملامتيَّة لم يتكلَّموا في الإخلاص — وهو هدَفهم الإيجابي — بمثل ما تكلَّموا في مُحارَبة الرِّياء وهي الوَسيلة إلى ذلك الهدَف، فقد حملتْهم نظرِيَّتهم المُتشائمة في النَّفس إلى إعلان حرْبٍ لا هوادَةَ فيها ضِدَّ أخصِّ صِفةٍ من صِفاتها وهي الرِّياء الذي اتَّخذوا «الملامة» وسيلةً إلى مَحْوِه. وإذا فهِمنا الإخلاص على أنه إفراد الحقِّ سُبحانه بالطاعة، «والتقرُّب إليه سبحانه دون شيءٍ آخر من تصنُّعٍ لمخلوقٍ أو اكتسابٍ لمَحْمدةٍ عند الناس أو مَحبَّة مدحٍ من الخلق»، أو أنه «تَصفية الفِعل عن مُلاحظة المَخلوقين»،٨١ أو بعبارةٍ أدقَّ إذا فَهِمناه على أنه التَّحقُّق بالعبودية الكامِلة لله دُون غيره، وفهِمنا «الصِّدق» على أنه التَّحرُّر من تقدير النفس والنظر إليها بِعَين الاعتبار والتَّعظيم، أدْركنا أن الملامتي المُخلِص هو الذي لا رِياء له، والملامتي الصادِق هو الذي لا عُجب له، وأدركنا مُبالَغة الملامتية في تطهير النفس من أدران هاتَين الصِّفتين الحائلتَين دون الوصول إلى دَرجة العُبوديَّة الكامِلة التي هي دَرَجة القُرْب.
وقد يُقال إنَّ تحريم الرِّياء من التعاليم الإسلامية الصحيحة، وإن الإخلاص والصِّدق من الصِّفات التي دعا الإسلام إليها وأفاض فيها الصُّوفية جميعًا، خُراسانيُّون وعراقيُّون ومِصريُّون وشامِيُّون. وقد يُقال كذلك إن الملامتية أنفسهم يُرجِعون مذهبهم إلى أسُسٍ إسلامية مَحضة حيث يقول شَيخٌ من أكبر شُيوخهم وقد سُئل عن معنى الملامة: «هي التِزام ما وَصَفَت خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. أيمدح من كان بهذه الصِّفات أم يُذَمُّ؟»٨٢ قد يُقال كلُّ ذلك ويتساءل القائل عن الصِّفة أو الصِّفات التي امتاز بها مذهب الملامتيَّة من غيره. وجوابُنا على ذلك أن الاتِّجاه الملامَتي في التصوُّف لم يتميَّز عن غيره من الاتِّجاهات الأخرى إلَّا في الأمور الآتية:
  • أولًا: في جُملته، أي من حَيث هو مَذهب له وِحدة خاصَّة وصِبغة مُعيَّنة لا في تفاصيل المسائل الوارِدة فيه، وإلا فالرَّياء والإخلاص والصِّدق والعبوديَّة وما إلى ذلك معانٍ نراها عند الصُّوفية على اختلاف طبَقاتهم، فالذي يَمتاز به المذهب الملامَتي هو تأليف وِحدة مُنسجِمة من هذه المعاني التي لا تُوجَد في مذاهب غير الملامتيَّة إلَّا في صُور فرديَّة غير مُلتئمة، ثم مُحاولة تطبيق هذه المعاني وتحقيقها في الحياة العمليَّة. ولا أدري لِغَير الملامتيَّة نظامًا مُحكمًا مُنسَّقًا يرمي إلى إنكار الذَّات ومَحْو آثار النفس كنظامِهم.
  • ثانيًا: فيما فَهِمه الملامتيَّة في المُصطلحات الصوفية من معانٍ سلبيَّة. وهذه النَّواحي السلبيَّة هي المقصودة في الطريق الملامَتي لأنَّها مَوضِع المُجاهَدَة والمُحارَبة. أمَّا المعاني الإيجابية فأمور يُلقيها الله في القلب إلقاءً على سبيل المِنَّة والفضل، فالملامتي لا يكتسِب الإخلاص أو الصِّدق في طريقه؛ لأن الإخلاص والصِّدق صِفتان يَمنحُهما الله للسَّالِك إليه إذا أزال هو بِمُجاهَدته ورياضَته عوائق الإخلاص والصِّدق، أي إذا داوَم على اتِّهام نفسه وعلى مُحاربة ريائه وعُجبه.
  • ثالثًا: في ذلك المِنظار الأسود الذي نَظروا إلى النَّفس من خِلاله وأنكروا عليها كلَّ حسنةٍ من حسناتها، وسلَبوها وُجُودها الحقيقي وإرادتها وعِلمَها، وحَرموها كلَّ لذَّةٍ حتى لذَّة الطاعات، وكلَّ فِكرة حتى فِكرة حبِّ الله أو القُرب مِنه، وحَسِبوها جديرةً بكلِّ شرٍّ وإثمٍ وقُبح. وهذه نظرة لا أشكُّ في أنها غير إسلاميَّة.

ويجِب ألا نفهَم الرِّياء المَلامتي بالمَعنى الضيِّق المألوف، أي أنَّه إظهار غير ما يُبطِنه الإنسان. بل الرِّياء عند المَلامتي إظهار غير الحقيقة، والحقيقة عندَه معناها أنَّ كُلَّ عملٍ فهو لله، وكل إرادة فهي لله، وإذَن فادِّعاء الإنسان لنفسِه عملًا أو إرادةً رياءٌ مَحْض؛ ولذلك لا يَخلُص العمل أو الحال عنده إذا دَخَل فيه عُنصر الاختيار، وإنما يَخلُصان إذا أجراهما الله على العبد من غير اختِيار منه، وأسقط رؤيته ورؤية الناظِرين إليهما. والصَّادِقون في نَظر الملامتيَّة هم الذين تركوا الاختِيار ودعوى الأعمال والأحوال. وهذا هو تعظيم شعائر الله في القلوب.

هذا، وقد اتَّخَذت مُحاربة الرِّياء في مذهب الملامتيَّة صُورًا مُختلِفة نُجمِلها فيما يلي:
  • أولًا: اتِّهام النفس (بالمعنى الذي يَفهمه الملامتيَّة من هذه الكلِمة) ولَومُها في كلِّ ما يَصدُر منها من قولٍ أو عمل، أو يخطُر لها من خاطِر.
  • ثانيًا: عدَم النَّظر إلى أعمال الطاعات والعِبادات وتحريم استِشعار اللَّذَّة بها، وإسقاط الافتِخار بالأعمال والاغتِرار بها وبكلِّ ما هو حظٌّ للنفس كالإرادة وغَيرها، بحيث لا يرَون إلَّا الله، ولا يَنظُرون إلى أيِّ فعلٍ إلَّا على أنه لله. وربما كان هذا هو الذي يحمِل بعض المُتأخِّرين منهم في عصور تدَهْوُر هذا المَذهب على ترك التَّكاليف الدِّينية.
  • ثالثًا: عدَم النَّظر إلى العِلم وعدَم ادِّعاء شيءٍ منه.
  • رابعًا: تحريم كل المظاهر التي قد يجِد فيها الصُّوفي تَمييزًا بينه وبين غَيره من الناس، أو التي قد تُسبِّب له شُهرةً سواء في ذلك ما اتَّصل بطقوس أهل الطريق وشعائرهم التي تمَيَّزوا بها من غيرهم، أم بأحوال الصُّوفية ودَعاويهم. وسنشرح كلَّ واحدٍ من هذه الأمور بالتفصيل.

اتِّهام النفس ولَومها

وربما كانت فِكرة اتِّهام النفس الأصلَ الذي تفرَّع عنه كلُّ تعاليم الملامتيَّة وأسالِيبهم. والاتِّهام والمَلام مُترادِفان في مذهبهم، وهما فِكرتان تابِعَتان لرأيهم في طبيعة النفس كما أسلفْنا.

وقد وَقفوا من النفس مَوقِف الاتهام والخُصومة دائمًا، لا يَرَون لها مَعصيةً إلَّا اعتبَرُوها من شِيمتِها، ولا طاعةَ إلَّا شَكُّوا في إخلاصِها فيها وتَوجَّسوا خِيفةً من أمرِها. والنفس في أصل طبيعتِها في نظرِهم مَجبولَةٌ على الجَهل والمُخالَفة والرِّياء، فإساءة الظنِّ بها طريقٌ لكشْف خباياها وإظهار نزَعاتها التي يرى المَلامتي من واجِبه مُقاومتها؛ ولذلك جعل الملامتيَّة سُوء الظنِّ بالنفس — في مُقابَلَة حُسن الظنِّ بالله — أصلًا من أصُولِهم. ودَواء النفس من عِلَلِها السابِقة الإعراضُ عنها، وتأدِيبها بِمُخالفتها، وصيانَتها بمَلامتها وتَقريعها. وبِمقدار اتِّهام النفس تتَّضِح عُيوبها، وبِمقدار مَعرفة الملامتي بعيوب النفس تكون مَعرفته بها.

ثم إنَّ الملامتيَّة ذَهبوا في مُعارَضة النفس كلَّ مذهبٍ مُمكِن، وأظهروا لها كلَّ نوعٍ من أنواع العِناد، فهم يُعلِنون سيِّئاتهم ويُخفُون حَسناتِهم استجلابًا لِلَوْم الناس وتَعرُّضًا لإيذائهم. وإذا أقبلت النفس على الناس عمِلوا على تَنفير الناس منهم ليَسلَم لهم حالُهم مع الله. وإذا ركنَتِ النَّفس إلى شيءٍ أو سكنَت إليه أو استحسَنَت فعلًا من أفعالها عمَدُوا إلى تَذلِيلِها وتَحقيرها ومَنعِها ممَّا تسكُن إليه، وإذا رأت القبيح من أفعال الغَير عمَدُوا إلى تَحسينه، وإذا ظهرَت لأحدِهم حالٌ أخفاها أو أنكرَها. بل إنهم بالَغوا في ذلك إلى حدِّ أنَّ أحدَهم ليُسلِّم على من يَردُّ عليه كَرْهًا ولا يُسلِّم على من يَردُّ عليه طوعًا، ويُجالِس من يَحقُره ويترُك مُجالَسة من يكرمه، ويسأل من يَمنعه ولا يسأل من يُرضيه، إلى غير ذلك من أنواع مُعارَضة النَّفس ومُصادَمتها في كلِّ رغبةٍ من رَغباتها.٨٣

الرِّياء في الأعمال

سبَق أن ذكرْنا أن الملامتيَّة يفهَمون الرياء بمعنى إظهار كلِّ ما هو غير حقيقي، وأنَّ الحقيقة عندَهم هي أنَّ الله هو الفاعِل لكلِّ شيء، المُريد لكلِّ شيء، الواهِب على سبيل المِنَّة والفضل كلَّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة بما في ذلك ثواب الأعمال. ومن الحقيقة عندَهم أيضًا أنَّ كُلَّ ما يَجري في الكَون سواء في ذلك أفعال العِباد أو غَيرها قد قُدِّر أزلًا، وأن من العَبَث الوصول إلى غير المَقدور.

فنظرتُهم المُتشائمة إلى النفس من ناحية، ونظريَّتُهُم في الجَبْر من ناحيةٍ أخرى قد وجَّهَا مَذهبهم هذا الاتِّجاه الشاذَّ الذي قضى على قِيمة كلِّ عملٍ ومَحا قِيمةَ كلِّ جزاء.

ولا تخلو أعمال العَبْد عن أن تكون طاعاتٍ أو مُخالَفات، فإن كانت طاعاتٍ كانت ممَّا يُجريه الله على يدِ العبْد مما قدَّره أزلًا، وإذن لا معنى في نظر المَلامتية للفَخر أو الاعتِزاز بها. وأيُّ مُبرِّرٍ يُبرِّر استِشعار اللَّذَّة بالطاعة أو الغِبطة بها وهي ليست من عمله؟ قال بعضهم: «من أراد أن يُسقِط عنه الافتخار بما هو فيه أو النظر إلى ما هو عليه، فليعلَم من أين جاء، وأين هو، وكيف هو ولِمن هو، ومِمَّن هو، وإلى أين هو؟ فمن صحَّ له علوم هذه المَقامات لم يرَ لنفسه حظًّا ولم يظهَر له حظٌّ بحالٍ، بل يراها مَذمومةً الكون ساقِطة الأفعال، لا يَبقى له من ظاهِره افتِخار ولا من باطِنه اغتِرار.»٨٤ ولذلك ذهَب الملامتيَّة إلى مُخالَفة لذَّة الطاعات وعدُّوها سُمومًا قاتِلة، بل اعتبروا إظهار لذَّة الطاعات نَوعًا من الغُرور والرِّياء. قال أبو حفص: «العبادات في الظاهِر سُرور وفي الحقيقة غُرور؛ لأنَّ المَقدور قد سُنَّ فلا يُسَرُّ بفعلِه إلا مَغرور.»٨٥ بل قد يَذهبون في المُبالَغة في هذه النَّاحِية إلى حدِّ القول بأن نِسبة الطَّاعات والعِبادات إلى العبد نَوعٌ من الشِّرك الخَفيِّ لأنها بِمثابة الاعتِراف بوجود إرادة للإنسان إلى جانِب الإرادة الإلهيَّة. يَحكي أبو عُثمان الحِيري عن شَيخه أبي حفص في هذا المعنى أنَّ رجُلًا قال له: أوصِني، فقال أبو حفص: «لا تكُن عبادتُك لربِّك سبيلًا لأن تكون مَعبودًا، واجعل عِبادتك له إظهارَ رَسْم الخِدمة والعُبودية عليك، فإنَّ من نظَر إلى عبادته فإنما يعبُد نفسه.»٨٦

ومن هنا كانت الطاعة عند الملامتية من مرَض النفوس إذا فُهِمَتْ على أنها وَليدَة الاختِيار. ودَواء ذلك الإنابةُ المُطلَقة إلى الله، والتَّسليم المُطلَق بمسبوق القضاء، بحيث لا يرى العبد لنفسه أثرًا في عملِه إطلاقًا، فهُم على حدِّ قول رويم: «يتحرَّكون ويَسكنون ويَختارون، ولكنَّ حرَكتَهم وسُكونهم واختيارهم ليست من أعمالهم، فلهُم حركة وسكون واختيار في الظاهر، وفي الحقيقة المُحرِّك والمُسكن والمُختار هو الله.»

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ضرَب الملامتيَّة للإخلاص في الطاعات والعبادات مثالًا يقصُر دُونه كلُّ عملٍ إنساني، ففيمَ إذَن الافتِخار والاعتِزاز والمُباهاة بالأعمال وهي قاصِرة أبدًا عن الوصول إلى درَجة الكمال؟ وفي هذا المعنى يقول أبو يزيد البَسطامي الذي يُنطِقه الملامتيَّة بكثيرٍ من أقوالِهم: «لو صَفَتْ لي تَهليلة ما بالَيْتُ بعدَها بشيء.»٨٧
وهنالك سبب ثالِث من أجله قلَّلَ الملامتية من النظر إلى طاعاتهم وحقَّروا من قِيمتها، وذلك أنَّهم قاسُوا ما للعبد من طاعاتٍ وعباداتٍ إلى ما لله على العَبد من عَطايا ومِنَن، فعَظُم في نظرهِم الدَّيْن الإلَهي الذي شَعروا أنَّهم لن يُؤدُّوه مهما بَذلوا من الجُهد. عَظُم عندَهم ما لله في جَنب ما للعَبد، وصغُرَت في أعيُنِهم أعمالُهم في جنب أعمال الله؛ ولذلك نَظروا دائمًا إلى ما عليهم لا إلى ما لهم، واعتبروا مَن نظَر إلى أعماله غافِلًا، ومن اعتزَّ بها مُرائيًا مُغترًّا. بل اعتبَروا نظَرَ العبد إلى عملِه من طاعةٍ ومُجاهَدة وزُهد وعِلم ونَحوها حُجُبًا كثيفةً تَحول بينه وبين ربِّه، كما قال لِسانُ حالِهم أبو يزيد: «أشدُّ الناس حِجابًا عن الله ثلاثة: عالمٌ بِعِلمه، وعابدٌ بعِبادَته، وزاهدٌ بزُهده.»٨٨
ولمَّا أنكر الملامتيَّة على أنفسهم الفرَح بالطاعات والتلذُّذَ بالعبادات وعدُّوا ذلك من الرِّياء والشِّرك الخَفي، لم يبْقَ أمامهم إلا البُكاء والنَّدَم على ما فرَّطوا في جنب الله. وأجاز لهم البُكاءَ بعض شُيوخهم كأبي حَفص، وخالَفَه فيه تِلميذُه أبو عثمان الذي كان يرى أنَّ بُكاء الأسَفِ يذهَب بالأسَفِ وأنه بِمثابة السَّلوى، والتَّسلِّي عن الأسَفِ بالبُكاء يقطَع مُداوَمة الأسف، ومُداوَمة الأسف واجِبة عندَه.٨٩
هذا فيما يتعلَّق بالأفعال التي تصدُر عن الملامتيَّة أنفسهم وهذا هو مَوقفُهم منها، وهو موقفٌ يدعو إلى الدَّهشة وإلى الألم أيضًا لأنه موقِف بلَغ فيه التَّشاؤم أقصى حدوده، وذهَب بكلِّ جميلٍ وجليلٍ يُمكِن صدُوره عن الإنسان، وقضى أو حاوَل أن يَقضيَ على تلك السَّعادة الرُّوحيَّة التي يتذوَّقُها الصُّوفي في حال قُربِه من الله عندما يُدرِك في عباداتِه ومُجاهداتِه حضرة الرُّبوبيَّة ويَعرِف معنى التَّوحيد. وهي السعادة التي يرى الغزالي أنها وَليدة هذه المعرِفة، والمعرِفة عنده هي «معرفة حضرة الرُّبوبيَّة المُحيطة بكلِّ الموجودات: إذ ليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله، والكون من أفعاله، فما يتجلَّى من ذلك في القلب هو الجنَّة عند قومٍ وهو سببُ استِحقاق الجنَّة عند أهل الحق. وتكون سَعةُ نصيب الإنسان من الجنَّة بحسْب سَعةِ مَعرفتِه، وبِمِقدار ما يتجلَّى له من الله وصفاته وأفعاله.»٩٠
ولكنَّهم كانوا أكثر تَسامُحًا وأقلَّ تَشاؤمًا في نظرتهم إلى أفعال غيرهم من الناس؛ وهذا ما يجعَل نظرتَهم إلى أفعالهم نظرةً خاصَّةً يُراد بها تأديب النَّفس وتَطهيرها. وفي هذا أيضًا تظهر فُتوَّتَهم، فبَيْنا نراهُم يقولون برؤية التَّقصير في أعمالِهم، نراهُم يلتمِسون المَعاذير لغَيرهم فيما وقَعوا فيه من المُخالَفات، ولا ينظرُون إلى أحدٍ بعَين التَّحقير والنَّقص؛ لأنهم — كما يقولون — إمَّا أن ينظروا إلى الخلْق بعَين الخلْق فيلومُوهم على تقصيرهم، وهذا يؤدِّي بهم إلى الخُصومة والنِّزاع وهو ما لا يرْضَونه لأنهم يُريدون أن يَعيشوا في أمانٍ مع غيرهم، أو ينظُروا إليه بعَين الحق، وهذا يؤدِّي بهم إلى التِماس العُذر لهم لأنهم يُدرِكون أنهم مُجبَرون على فِعل ما يفعلون، وإذن فهم لا يَرَون لَوم الغَير على كلِّ حال.٩١

وأمَّا القِسم الثاني من الأفعال التي تصدُر عن الملامتيَّة فهو المعاصي والمُخالَفات، وهذه أَولَى بألَّا يُدَّعى فيها أو يُعتزَّ بها لأنها صادِرة عن رُعونات النَّفس وشَهواتها التي تَجِب مُحاربتُها بكلِّ وسيلةٍ مُمكِنة. ولكن الملامتي قد يَتعمَّد — كما قُلنا — الظُّهور بين الناس بما يُخالِف ظاهِرُه ظاهِر الشَّرْع استِجلابًا للَومِهم وتَنفيرًا لهُم منه كَيلا يُفتَتَنوا أو يَغترُّوا به، وغيرةً على ما يَعتبرونه سرًّا خاصًّا بينهم وبين الحقِّ لا يجِبُ أن يطَّلِع عليه سِواه.

الرِّياء في الأحوال

وإذا كان إسقاط الملامتية لرؤية أفعالِهم جُزءًا من نظريتهم في الإخلاص، فإسقاطُهم لرؤية الأحوال جُزء آخر لا يتمُّ الإخلاص إلَّا به، فإذا صَحَّت لأحدِهم حال لم يَظهر بها، بل حاوَل إخفاءها وحقَّر من أمرِها ونظَر إليها نظرةَ رِيبةٍ وخَوف، وعدَّها مَحلَّ استِدراجٍ أو امتِحانٍ من الله، لا محلَّ ظُهورٍ ومُباهاة؛ ولهذا كان الملامتيَّة كلَّما صفَتْ لهم الأحوال زادُوا تَواضُعًا وخَوفًا، ولأنفسِهم ازدراءً.٩٢
وكما أنَّهم عدُّوا الظُّهور بالأعمال رِياء، كذلك عدُّوا الظهور بالأحوال دَعاوى، والدَّعاوى تُنافي مَقام العبودية الخالِصة، إذ العبدُ لا يدَّعي لنفسه شيئًا، وإنما ينسِب كلَّ فضلٍ إلى سيِّده. قال أبو عمرو إسماعيل بن نُجَيد الملامتي: «لا يبلُغ الرجل شيئًا من مقام القوم حتى تكون أفعالُه كلُّها عنده رِياء وأحواله كلُّها دَعاوى.»٩٣ والأصل الذي يَستنِدون إليه في ذلك هو أنَّهم يَعتبِرون الإخلاص سِرَّ الله في قلب العبد، ويَستشهِدون على ذلك بحديثٍ يقول النبي فيه: «سألتُ ربَّ العزَّة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرٌّ من سِرِّي استَودعتُه قلبَ من أحببتُ من عبادي.» ففسَّروا الإخلاص بأنه كمال العُبودية الذي لا يتمُّ إلَّا إذا رأى العبدُ جميع ما يَجري عليه وما يصدُر عنه إنما هو من الله عزَّ وجل. والسِّرُّ هنا «هو ما أخفتْهُ الضَّمائر غِيرةً من أن يطَّلِع عليه غير المُنعِم.»٩٤ وهو ليس إلَّا الأحوال التي ينكشِف للملامَتي (أو الصُّوفي) فيها معاني الحضرة الرُّبوبيَّة التي أسلَفْنا ذِكرَها، ومعاني القُرب من الله. وفي هذا يقول أبو زكريا السنجي: «الأحوال أماناتٌ عِند أهلِها، فإذا أظهَروها فقد خَرجُوا من حدِّ الأُمَناء.»٩٥
فالذي منَع الملامتية من إظهار أحوالهم إذن أمران: الأول أنَّ الأحوال أسرار خاصَّة بين الله والعبد، فهم بِدافِع الغِيرة من جِهة، وبِدافِع تأدِيَة الأماناتِ إلى أهلها من جِهةٍ أخرى، يَضِنُّون بأحوالِهم إلَّا على من يجِب أن يطَّلِع عليها وحدَه. وشأنُهم في ذلك شأن المُحبِّ الذي يَغار على مَحبوبه أن يطَّلِع على حُبِّهما ثالث. والأمر الثاني أنَّهم يرَون أنَّ في إظهار الأحوال نوعًا من الدَّعوى، والدَّعوى رِياء. بل الملامتي الكامل هو الذي وصفه أبو يزيد بأنه «من كتَم حاله عن الناس تمامًا بحيث إنَّه يؤاكِلُهم ويُشارِبُهم ويُمازِحُهم ويُبايِعُهم ويُشاريهم، ولكنَّ قلبَه مُتعلِّقٌ بملكوت القُدس.»٩٦ وقد شرَحْنا الفرْق بين إظهار الأحوال عند الصُّوفية وكِتمانها عند الملامتية عند كلامِنا عن الفرْق بين الطائفتين فليُرجَع إليه هنالك.

ولِشِدَّة حِرص الملامتي على كِتمان حاله، كَرِه كلَّ ما يُثير فيه الحال ويُظهرها كالسَّماع والتَّواجُد والذِّكر والصِّياح وأمثالها، كما كره أن تَظهَر على يديه أيَّة أو كرامة خَوفًا من أن يُفتَتَن بنفسه أو يُفتَتن به الناس. وكان الملامتية إذا ظهرَت على أيديهم الكرامات نظرُوا إليها بِعين الاستِدراج واعتبروها بُعدًا عن سبيل الحقِّ بدلًا من أن يَعتبروها علامةً على القُرب من الله. وهم في هذا يُفرِّقون بين كرامة الوليِّ ومُعجِزة النبي، ويَرون أن الرُّسل مُضطرُّون إلى الظهور بمُعجِزاتهم لكي تتأيَّد بها دَعواهم وتُيَسَّر بها سبيلُهم إلى تَبليغ رِسالاتهم. أمَّا الأولياء، فليسوا بحاجةٍ إلى هذا التأييد؛ ولهذا كان ظُهور النبيِّ بالمُعجِزة كمالًا، وظهور الولِيِّ بالكرامة نَقصًا.

أمَّا السَّماع، فيرى جمهورهم أنَّ ترْكَه أولَى، وإن كانوا لا يُحرِّمُونه على مُريدِيهم تحريمًا مُطلقًا. سُئل بعضهم: ما بالُكم لا تَحضُرون مجالِس السَّماع؟ فقال: «ليس ترْكُنا مجلِس السَّماع كراهيةً وإنكارًا، ولكن خَشيةً أن يظهَر علينا من أحوالِنا ما نُسِرُّه، وذلك عزيزٌ علينا.»٩٧ وأما الذِّكر (أي ذِكر اللسان) فقد فضَّلوا ذكر القلب عليه لِما فيه أيضًا من معنى الإعلان عن الحال. وكذلك كرِهوا البُكاء في السَّماع والذِّكر ونحوهما إذ كان في البُكاء إعلان عن حال الباكي وإباحَة بالسرِّ الذي بينَه وبين ربِّه، وطالَبوا مُريديهم بالصَّمْت والكَمَد بدلًا منه. وقد لاحَظوا في كراهِيَة البُكاء معنًى آخر علاوة على إعلانه الحال، وهو أن في البُكاء تفريجًا عن نفس الباكي ولذةً له، وهذه اللذَّة وحدها كافية في نظرِهم في إبطال قِيمة البُكاء؛ ولذلك أحلُّوا الكَمَد محلَّه ولم يُبيحوا من البُكاء إلَّا بُكاء الأسَف كما قدَّمْنا.

الرِّياء في العِلم

وثالثُ الأشياء التي حَرَص الملامتية على كِتمانها واعتَبروا الجَهْر بها رِياءً وادِّعاءً هو العِلم، فالملامتي لا ينظُر إلى عِلمه ولا يعترِف بأن له عِلمًا جديرًا بأن يَعتزَّ به أو يظهَر به للناس؛ لأن رؤية العِلم — كرؤية الحال والأعمال — من الحُجُب الكثيفة بين العبد وربِّه.

وحُجَجُهم في إنكار العِلم ما يأتي:
  • أولًا: أنَّ عِلم العبد من عِلم الله وأنَّه لا يُساوي شيئًا بالنِّسبة إلى عِلم الله المُحيط بكلِّ شيء، فالظُّهور به مَحض إعجاب ورِياء.
  • ثانيًا: أن العبدَ مُجبَر على عِلمه كما هو مُجبَر على عَمَلِه، فالعِلم عارِية كما أنَّ العمل عارِية، يُجرِيه الله على قلبِ العبد كما يُجري الأفعال على جَوارِحه. قال أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتَّاني المُتوفَّى سنة ٣٢٢: «كيف يُعجَب العاقل بعِلمه وهو يَعلم أنه لا يقدِر على شيءٍ من عِلمه؟»
  • ثالثًا: أنَّ العِلم أمانة أودَعَها الله قلبَ عبدِه، فالظُّهور به وإذاعتِه إذاعةٌ لسِرٍّ اؤتُمِنَ عليه، فالعِلم — كالحال — يَهَبُه الله لمن يشاء ويأتمِنه عليه. وكما أنَّ العبد مُطالَب بكِتمان حاله، كذلك هو مُطالب بكِتمان عِلمه.
لذلك كَرِه الملامتيَّة الكلام في تفاصيل العُلوم والمَعارِف الإلهية، ولزِمُوا الصَّمتَ حيث اختار غيرُهم الكلام. قِيل لأبي حَفصٍ النَّيسابوري يومًا: «ما بالُكم لا تتكلَّمون كما يَتكلَّم البغدادِيُّون وغيرُهم من الناس وما بالُكم اخترتُم الصمت؟» فقال: «لأنَّ مَشايخَنا صمَتوا بعلمٍ، ونطَقوا على الضَّرورة، فوقَع لهم مَحلُّ الأدَب في الكلام، فلم يتكلَّموا إلَّا بعد ما عَقَلُوا عن الله فصاروا أُمَناء الله في أرضِه، والأمين حَريصٌ على حِفظ أمانتِه.»٩٨ يُشير بذلك إلى أن كِبار الملامتية فضَّلوا الصَّمْت على الكلام في مسائل العلم إلَّا فيما عقَلُوه عن الله، فإذا نطَقوا بما عقلوه عن الله كانوا مُجرَّد ناقِلين لا مُبتدِعين؛ لأنهم إنما يُؤدُّون الأمانة على وَجهِها ويَلتزِمون جانِب الأدَب مع الله.

أمَّا العِلم بظاهِر الشَّرْع فَلم يرَ الملامتيَّة بأسًا من الكلام فيه لأنه اقتِداء ولا حظَّ للنفس فيه بحال، فالملامتي الصادِق لا يتكلَّم في علوم الأحوال إلا مُضطرًّا، أمَّا إذا تُرك له الخِيار فإنه يلزَم الصَّمت ويُفضِّله.

وربما كان الملامتية في كِتمان أحوالهم وعلومهم أقرَب إلى ما يَتطلَّبه مَنطق التصوُّف وأبعد عن التَّناقُض من غيرهم؛ لأنه إذا كانت أحوالهم وعُلومهم من الأمور الذَّوقيَّة التي لا يُمكِن تَعليلها ولا تفسيرها ولا التَّعبير عنها، فالصمتُ عن الكلام فيها أولَى من وصفِها بعباراتٍ لا تخرُج عن حدود المَجازات والتَّشبيهات، بل تُفسِح المجال للتأويلات والتَّكهُّنات؛ ولهذا أراد الملامتية أن تكون حياتهم خاصَّة بهم وألَّا يطَّلع عليها غير الله، فإذا فَعلوا شيئًا فعلوه في صَمت، وإذا كانت لهم حال مرُّوا بها في صَمت، وإذا كُشِف لهم عن علمٍ وقَفوا عليه في صمت، بينما اختار غيرُهم وسائل الجَهر بالأعمال والأحوال والعلوم، وفتَحوا الباب للدَّعاوى العريضة التي لم يَلتزِموا فيها حدَّ المعقول أحيانًا؛ ولهذا السبب نفسه لم يُخلِّف لنا هؤلاء الفلاسفة الصامِتون مثل ما خلَّف زُملاؤهم الصوفيَّة من ثَروةٍ طائلة في وَصْف أحوال السائرين ومَقاماتِهم ومَعارِجِهم الرُّوحية وعُلومِهم وأذواقِهم، فنحنُ لا نكاد نعرِف شيئًا عن حياتهم الرُّوحية إلَّا تلك القواعِد السلبيَّة التي لا يَعرِف صَداها الرُّوحي في نفوسهم إلَّا هُمْ، وهذا الصَّدى هو السِّرُّ الذي آثَروا الاحتِفاظ به لأنفسهم.

(٥) إسقاط الدَّعاوى

إذا كانت الدَّعوى «إضافة النفس إليها ما ليس لها»، وكان الملامتية قد أنكَروا الظهور بالأعمال لأنها ممَّا يُجريه الحقُّ على يدِ العبد، أو لأنها رُعونات للنفس يَجِب مُحاربتُها والقضاء عليها، وأنكروا الظُّهور بالأحوال والعلوم لأنها آثار لله في قلب العبد وأسرار له يجِب ألَّا يطَّلِع عليها غَيره، وأنكروا الظُّهور بالكرامات لأنها من المِنَنِ الإلهيَّة التي يَجِبُ ألَّا تُعلَن للخلْق. إذا كان كلُّ ذلك، أمكَنَنا أن نُدرِك حِرص هؤلاء القوم أولًا: على إسقاط الشُّهرة بجميع مَظاهرها، ثانيًا: إسقاط الدَّعاوى بجميع أنواعِها، إذ الدَّعاوى لا تكون إلَّا في الأعمال والأحوال والكرامات والعِلم. بل إن الملامتية بفَرضِهم على أنفسهم مَبدأ الاتِّهام ورؤية التَّقصير في كلِّ شيء، قد وضعوا سدًّا مَنيعًا بين أنفسهم وبين الدَّعاوى التي ربما تخطُر ببالهم، وترَكوا هذه الدَّعاوى لغَيرهم من الصُّوفية الذين يتكلَّمون في الوُصول والقُرب والفناء والحُلول والاتِّحاد وما شاكَلَ ذلك ممَّا نَجِده في كلامِهم.

على أنَّ الدَّعاوى في نظرِهم حُجُب غليظة بينَهم وبين الله لأنها بمثابة التَّقرير لوجود النفس التي يَعملون على مَحوِها ومَحو آثارها. هذا على ما في الدَّعاوى من معنى التَّعظيم للنفس والتَّقدير لها، وهم يَعملون على تَحقيرها وإذلالها.

وإذا كان الملامتية قد أعلنوا الحَرْب على الرِّياء في الأعمال والأحوال والعلوم، فإن حربَهم ضِدَّ الدَّعاوى أشدُّ وأظهَر؛ لذلك لا تَراهُم يدَّعُون لأنفسهم عِبادةً ولا صَلاحًا ولا تقوى، ولا خُشوعًا ولا وَرَعًا ولا زُهدًا ولا فَقرًا، ولا وِلايةً ولا كَرامةً، ولا حُبًّا لله ولا وُصولًا إليه ولا حُلولًا ولا فناءً فيه، ولا ألوهيَّةً ولا تَخَلُّقًا بِصفات الألوهيَّة، ولا أيَّة صِفةٍ تُميِّزُهم عن سائر الخَلْق.

•••

فمن ذلك يتبيَّن أنَّ هذه التفاصيل الدَّقيقة التي وَصَل إليها شُيوخ نَيسابور في مَيدان التصوُّف الملامتي والتي رَدَدْتُها إلى هذه الأصول العامَّة، قائمةٌ في جَوهرِها على فِكرتهم في النفس ومُحارَبتِهم لأهمِّ مَرَضٍ من أمراضِها وهو الرِّياء، أو بِعبارةٍ أخرى قائمة على فِكرة إنكار الذَّات التي هي الفِكرة الأساسيَّة في الفُتوَّة؛ لهذا أرى أنَّ الفتوَّة والمَلامة وَجْهان لحقيقةٍ واحِدة، وأنَّ الملامتية هُم على وجْهِ التَّحقيق فِتيان الصُّوفية.

١  V. Hammer, J.A. IV S 13, 1849; J.A. V.S., 6, 1855.
٢  Quatremèr: Hist. des Sultans Mamlouks par Makrizi 1, 1, S. 58.
٣  Dr. Her, Thorning, Beitrage zur Kenntnis des islamischen Vereinswesens … (Turkisch Bib. Bd. 16), Berlin 1913.
٤  راجع ثبت المراجع.
٥  Horten: Contribution à la connaissance de l’Orient, Tome XII.
٦  Z.D.M.G. 1918.
٧  عوارف المعارف، ص٥٥.
٨  قرآن، س٧٥، آية ٢.
٩  قرآن، س٥، آية ٥٤.
١٠  رسالة الملامتيَّة.
١١  رسالة الملامتيَّة.
١٢  راجِع قول ابن نُجَيد في رسالة الملامتيَّة وقول أبي حَفص في اتِّهام النفس.
١٣  رسالة الملامتيَّة.
١٤  نفس المَراجع.
١٥  نفس المَراجع.
١٦  الفُتوحات المَكيَّة، ج٣، ص٤٦.
١٧  الفتوحات، ج٣، ص٤٦.
١٨  راجع رسالة السُّلَمي.
١٩  راجع رسالة السُّلَمي، وقارِن الأصل ٣٩ والأصل ٤٣.
٢٠  راجع الفتوحات، ج٢، ص٢١؛ ج٣، ص٤٤.
٢١  قرآن، س٥٣، آية ٨-٩.
٢٢  الفتوحات، ج٣، ص٤٥.
٢٣  الفتوحات، ج٣، ص٤٥-٤٦؛ ج٢، ص٢٢.
٢٤  الفتوحات نفس المَرجِع.
٢٥  الفتوحات، ج١، ص٢٣٦.
٢٦  الفتوحات، ج١، ص٢٣٥.
٢٧  عَوارِف المَعارف، ص٥٤.
٢٨  عوارف المعارف، ص٥٥.
٢٩  رسالة الملامتية.
٣٠  عوارف المعارف، ص٥٥.
٣١  عوارف المعارف، ص٥٤.
٣٢  عوارف المعارف، ص٥٤.
٣٣  رسالة القُشيري، ص٣٢.
٣٤  كشْف المَحجوب، ص١٨٣.
٣٥  راجع ابن سعد، ج٧، ص١٢٨، س٢٥.
٣٦  راجِع الإحياء للغَزالي، ج٣، ص٢١٣، طبعة القاهرة، سنة ١٢٨٢.
٣٧  رسالة القُشيري، ص١٠٣.
٣٨  كشَّاف اصطِلاحات العلوم والفُنون للتهانوي، ج٢، ص١١٥٦.
٣٩  الطواسين للحلَّاج، ص٥٠.
٤٠  الطواسين، نفس الصفحة. قارِن: Massignon: Recuiel des Textes Inédits P. 69.
٤١  رسالة المَلامتيَّة.
٤٢  رسالة الملامتيَّة.
٤٣  قارِن هذا بقَول الحارِث المُحاسبي: «الفتوَّة أن تُنصِف ولا تَنتَصِف» رِسالة القُشيري، ص١٠٣.
٤٤  رسالة الملامتيَّة.
٤٥  نفس المَرجِع.
٤٦  نفس المَرجِع.
٤٧  نفس المرجِع.
٤٨  نفس المرجِع.
٤٩  الرسالة القُشيرية، ص١٠٣.
٥٠  شرح الرسالة القُشيرية، ج١، ص١٠٠.
٥١  الرسالة القُشيرية، ص١٦.
٥٢  أبو حَفصٍ عمرو بن سالم. وقيل ابن مُسلم وابن سَلَمة. يَقول الخطيب البغدادي: «وأخبرَنا أحمد بنُ عليٍّ التَّوزي، حدَّثنا أبو عبد الرحمن السُّلَمي قال: «أبو حَفصٍ النَّيسابوري» اسم عمرو بن سالم، ويُقال عَمرو بن سَلَمة. قال: وهو الأصح.» «تاريخ بغداد»، ج١٢، ص٢٢٠. قارِن طبَقات السُّلَمي، مخطوط و٢٤ب؛ حيثُ يذكُر السُّلَمي الاسمَين ولا يَذكُر الأصَحَّ مِنهما.
٥٣  الحِلية، ج١٠، ص٢٢٩.
٥٤  طبقات الشَّعراني، ج١، ص٧٠.
٥٥  تاريخ بغداد، ج١٢، ص٢٢١.
٥٦  طبقات السُّلَمي (مخطوط و٢٤ب) والحِكاية مَذكورة في الحِلية، ج١٠، ص٢٣٠.
٥٧  تاريخ بغداد، ج١٢، ص٢٢٢.
٥٨  الطبقات مخطوط و٢١ب.
٥٩  هكذا يُسمِّيه القُشيري (رسالة، ص١٨)، ويُطلِقُ عليه الشَّعراني (طبقات، ج١، ص٨٦) اسم سلَّام الباروسي عند كلامه عن محفوظ بن محمود النَّيسابوري. والصحيح ما ذهَب إليه السَّمعاني من أنه أبو الحَسَن سالم بن الحَسَن البارُوسي نِسبةً إلى بارُوس وهي قَريةٌ من قُرى نَيسابور على بابها. ذَكَره أبو عبد الرحمن السُّلَمي في تاريخ الصوفيَّة وقال من قُدَماء مَشايخ نَيسابور، وكان أُستاذ حمدون القصَّار. الأنساب، ١٥٩.
٦٠  في الأنساب: ابن كدام بالدَّال وهو تَحريف.
٦١  طبَقات الصُّوفية و٢٦أ.
٦٢  راجِع كشف المَحجوب، تَرجَمة نيكلسون، ص١٨٣.
٦٣  والعيَّار من أسماء الأسَد ويُطلَق على الشُّجاع. «والشاطِر من أعيا أهلَه خُبثًا» (القاموس المحيط).
٦٤  كشْف المَحجوب، ص١٨٣؛ وتَذكِرة الأولياء، ج١، ص٣٣٤.
٦٥  راجع الرسالة القُشيرية، ص١٣.
٦٦  الرسالة القشيرية، ص٣٢. ويَروي الكلاباذي نفس القصَّة ذاكِرًا أبا بكر القحطبي (لا الواسِطي)، التعرف، ص٧٠.
٦٧  طبقات الشَّعراني، ج١، ص٧٤.
٦٨  طبقات السُّلَمي و٣٧ب.
٦٩  حِلية الأولياء، ج١٠، ص٢٤٤.
٧٠  طبقات السُّلَمي و٣٧أ؛ والحِلية، ج١٠، ص٢٤٥.
٧١  نفس المَرجِع.
٧٢  طبقات السُّلَمي و٦١ب.
٧٣  راجع طبقات السُّلَمي، و٦٨أ.
٧٤  يُورِدُه أبو نعيم والسُّلَمي أحيانًا بالسِّين المُهمَلة، والصَّحيح البوشنجي بالشِّين المُعجَمة نِسبةً إلى بوشنج بلدة على سبعةِ فَراسِخَ من هراة. قارن السَّمعاني و٩٥.
٧٥  قال شارِح الرسالة القُشيرية: «قال جَماعة ولعلَّه الطَّمِنْسي» بفَتح المُهمَلة وكسر الميم وإسكان النُّون نِسبةً إلى طَمِنْس قرية من قُرى ماريدان، فاشتَبَه على الكاتب. شرح الرسالة، ج٢، ص٨.
٧٦  رسالة القُشيري، ص٤٤-٤٥.
٧٧  رسالة الملامتيَّة.
٧٨  شرح الأنصاري على الرسالة القُشَيرية، ج٢، ص١٠٤.
٧٩  رسالة المَلامتيَّة: الأصل الثامن.
٨٠  راجع تفصيل ذلك في رسالة الملامتية، الأصل التاسِع، وقارِن عوارف المعارف للسَّهْروَرْدي، ج١، ص٢٠٥-٢٠٦ على هامش الإحياء.
٨١  الرسالة القُشيرية، ص٩٥-٩٦.
٨٢  رسالة الملامتيَّة.
٨٣  قارِن رسالة الملامتيَّة.
٨٤  رسالة الملامتيَّة.
٨٥  رسالة الملامتية.
٨٦  رسالة الملامتيَّة.
٨٧  رسالة الملامتيَّة.
٨٨  رسالة الملامتيَّة.
٨٩  رسالة الملامتيَّة.
٩٠  الإحياء، ج٣، ص١٩.
٩١  رسالة الملامتيَّة.
٩٢  راجِع رسالة الملامتية.
٩٣  راجِع رسالة الملامتية. قارِن شرْح الرسالة القُشيرية، ج٢، ص٤.
٩٤  شرح الرسالة القُشيرية، ج٣، ص١٣٢.
٩٥  رسالة الملامتيَّة.
٩٦  رسالة الملامتية.
٩٧  رسالة الملامتية.
٩٨  رسالة الملامتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤