رسالة الملامتيَّة ومُؤلِّفها
(١) أبو عبد الرَّحمن السُّلَمِي ومَنزلَتُه من تاريخ التصوُّف
على أن أبا عمرو بن نُجيد لم يكن الوَحيد من أجداد أبي عبد الرحمن لأُمِّه مِمَّن اختصُّوا بالزُّهد والعِلم ونَباهة القدْر، فقد كان له جدٌّ آخر من جلَّة العُلماء المُحدِّثين بنَيسابور هو أحمد بن يوسف بن خالد النَّيسابوري. أمَّا أبوه الحُسين بن محمد بن موسى فلا نَعرِف عنه شيئًا سوى أنه كان من رِجال الصُّوفيَّة أيضًا، وأنه عنه وعن جَدِّه أبي عمرو بن نُجيد ورِثَ أبو عبد الرحمن التصوُّف، وكان لهُما في نشأته الأولى في طريق القوم أثرٌ كبير.
ولد أبو عبد الرحمن في رمضان سنة ٣٣٠ﻫ في بيت علمٍ وزُهدٍ كما قُلنا، وفي هذا البيت نشأ، وعن أهله أخذَ علوم التصوُّف والحديث، فقد أدرَك جَدَّه أبا عمرو، ورَوى عنه، وكان من المُعجَبين والمُقتدِين به.
ومِمَّا عِيب على أبي عبد الرحمن السُّلَمي أيضًا تَواجُدُه في السَّماع، وأنه كان يقوم فيه مُوافقةً للفُقراء. ولكن الدلائل تَشهَد بأنه لم يكُن يفهَم التَّواجُد بالمعنى الذي يُنقِص من قدْر الصُّوفيِّ المُتواجِد، ولا يفهمه على أنه وَليد السَّماع وحدَه، بل على أنه نَشوةٌ رُوحيَّة تَعرِض للرَّجُل عندما يتبيَّن له معنًى من المعاني التي أشْكلَت عليه، وأن السَّماع لا مَدْخَل له في إيجاد حركة المُتواجِد، وإنما هي نَشوة الظَّفَر بالمطلوب، وكشْف غوامِض الأسرار. يُؤيِّد ذلك حِكايتان ذَكَرَهما السُّبكي في تَرجمتِه للسُّلَمي:
الأولى أنه جَرى يومًا ذِكر أبي عبد الرحمن السُّلَمي بين أبي القاسِم القُشيري وأبي علي الدَّقَّاق، فقال القُشيري: «كنتُ بين يدَي أبي علي الدقَّاق، فجرى حديث أبي عبد الرحمن السُّلَمي وأنه يقوم في السَّماع مُوافقةً للفقراء، فقال أبو علي: مِثْلُه في حاله لعلَّ السُّكون أولى به، امضِ إليه فستَجِده عاقِدًا في بيت كُتُبه، وعلى وجه الكُتُب مُجلَّدة صغيرة مُربَّعة فيها أشعار الحُسَين بن منصور، فهاتِها ولا تقُل له شيئًا. قال: فدخلتُ عليه، فإذا هو في بيت كُتُبه والمُجلَّدة بحيث ذَكَر أبو علي، فلمَّا قعدتُ أخذَ في الحديث وقال: «كان بعضُ الناس يُنكِر على واحدٍ من العُلَماء حرَكَتَه في السَّماع، فرُئي ذلك الإنسان يومًا خاليًا في بيتٍ وهو يَدور كالمُتواجِد، فسئل عن حاله، فقال: كانت مسألة مُشكِلة عليَّ فتبيَّن لي معناها، فلم أتمالَك من السُّرور حتى قُمتُ أدور، فقُل له مثل هذا يكون حالُهم.» وهذه الحِكاية فوقَ دِلالتها على قوَّة الفِراسة عند كلٍّ من أبي علي الدَّقاق والسُّلَمي، تُوضِّح لنا ما يَفهمُه هذا الأخير من معنى التَّواجُد، وأن حركة التَّواجُد لا يُحدِثُها السَّماع، وإنما تنكشِف للصُّوفيِّ أسرارٌ ومعانٍ تكون قد أشكَلَتْ عليه قبل السَّماع، فهي مَظهَر الاغتِباط الرُّوحي بما يظفَر به الصُّوفي، لا دَليل لذَّةٍ حِسِّيَّة ناشئة من السَّماع.
تلاميذ السُّلَمي
وليس للبَيهقي أثرٌ في التَّصوُّف وتاريخه مثل ما للقُشيري، فإن كان للسُّلَمي فضل عليه فذاك في عِلم الحديث الذي يُعدُّ البَيهقي من فُحول رِجاله. وقد مات البيهقي سنة ٤٥٨ﻫ، أي بعد وَفاة السُّلَمي بستٍّ وأربعين سنة.
تَصانِيفه
كان السُّلَمي — كما أسلَفْنا — من أوائل مُؤرِّخي التصوُّف ومُصنِّفي الطبَقات، ولكنه لم يكن مُؤرِّخًا للتصوُّف ورجاله فحسْب، بل كتَب أيضًا في مسائل التصوُّف ذاتها عدَدًا غير قليلٍ من الكُتُب ضاع للأسف بعضها، وبقِيَ بعضُها مَخطوطًا لم يُنشَر بعدُ. وقد تناوَل وُجوهًا كثيرةً من التصوُّف في كُتُبه، مُلخِّصًا قواعد الطريق الصُّوفي وآدابه أحيانًا، أو شارحًا وناقدًا مَن يرى أنه خَرَج على رُوح التصوُّف الحقيقيَّة أحيانًا أخرى. كما أنه انفرَد بوضْع كُتُب في بعض فِرَق الصُّوفية، كرسالته في المَلامتيَّة وأصول تَعاليمهم، وهي الرِّسالة التي ننشُرُها هنا.
- (١) كِتاب طبَقات الصُّوفية: مَخطوط تُوجَد منه نُسخة بالمُتحَف البريطاني بلندرة رقم Add 18520، وأخرى ببرلين رقم ٩٩٧٢، وثالِثة بمكتبة عاشر أفندي رقم ٦٧٧، ورابعة بمكتبة عمومي بإسطنبول رقم ١٥٧، وتوجد بمكتبة الجامعة المصرية نُسخة شمسيَّة مأخوذة من نُسخة المُتحَف البريطاني، ويشتغل الأستاذ J. Pederson الآن بنَشر هذا الكِتاب.
- (٢) تاريخ الصُّوفية: مخطوط نَشَر منه الأستاذ ماسنيون بعض أجزائه في كِتابه Quatre Textes inédits relatifs à Hallaj، في باريس سنة ١٩١٤، من ص١٧–٢٥.
- (٣) تفسير صُوفي للقرآن يُعرَف بتفسير أهل الحقِّ أو بحقائق التَّفسير: مَخطوط بالمُتحَف البريطاني وبمكتبة الأزهر. وتُوجَد منه ثلاث نُسَخ خطِّيَّة بمكتبة فاتح بإسطنبول رقم ٢٦٠ و٢٦١ و٢٦٢، واثنتان بمكتبة كوبرولو رقم ٩١ و٩٢ بإسطنبول إلخ. وقد نَشَر منه الأستاذ ماسنيون ما يَتَّصِل بالحلَّاج في مجموعة النُّصوص الحلَّاجِيَّة في كِتابه Essai sur les Origines du lexique technique de la mystique، من ص٢٣–٧٦.
- (٤) رسالة الملامتيَّة: وتُوجَد مخطوطة بدار الكُتب المصرية رقم ١٧٨ مجاميع تَصوُّف تحت عنوان أصول الملامتيَّة وغلَطات الصُّوفية، كما تُوجد منها نُسخَة أخرى خَطِّيَّة بمكتبة بِرلين رقم ٣٣٨٨ تحت عنوان رسالة الملامتيَّة، وبالجامعة المِصريَّة صُورة شمسيَّة من هذه الأخيرة رقم ٢٦٠٣٦، وبالمَتحَف البِريطاني مخطوط رقم Or 7555 … وسأرمُز لمَخطوطة برلين بالحَرْف ب ومخطوطة القاهرة بحرف ق.
- (٥) رسالة غَلَطات الصُّوفية: وهي جُزء من مخطوط القاهرة الآنِف الذِّكر رقم ١٧٨ مجاميع تصوُّف، وإليها يُشير ابن عربي في كلامه عن الجُوع، ورأي السُّلَمي فيه، حيث يقول في قول النَّبي ﷺ في الجُوع: «إنه لبئس الضَّجيع»: إن هذا لسان العموم، والرأي الذي عليه أئمة المَشايخ أنَّ الجُوع لو كان أمرًا يُباع في السُّوق للَزِم الصُّوفية أن يَشتروه. ومن نظَر إلى ما نظَره النبي ﷺ جعلَه من أغاليط أهل الطريق كأبي عبد الرحمن السُّلَمي، إذ عمل أوراقًا فيما غلطَتْ فيه الصُّوفية، وهو مَذهبُنا.»٣٢
- (٦)
جَوامِع الصُّوفية: مخطوط بمكتبة جامِع لالالي بإسطنبول رقم ١٥١٦.
- (٧)
جوامِع آداب الصُّوفية: مَخطوط ببرلين رقم ٣٠٨١. ولعلَّه الكِتاب السابِق.
- (٨)
منهج العارفين: مَخطوط ببرلين رقم ٢٨٣١.
- (٩)
عيوب النَّفس ومُداواتُها: مخطوط ببرلين رقم ٣١٣١، ومنه نُسخة خطِّيَّة أخرى بالخِزانة التَّيموريَّة المَحفوظة بدار الكُتب المصرية رقم ٧٤ لم يذكُرها بروكلمان.
- (١٠)
دَرَجات المُعامَلات: مخطوط ببرلين رقم ٣٤٥٣.
- (١١) أدَب الصُّحبة وحُسن العِشرة.٣٣
- (١٢)
سلوك العارِفين: مخطوط بالخِزانة التَّيمورية: مجموعة رقم ٧٤ لم يذكُره بروكلمان.
- (١٣) كتاب السُّنَن [لعلَّه المعروف بسُنَن الصُّوفية]: ذكَرَه ابن الجَوزي في كِتاب تَلبيس إبليس، حيث قال: «وجاء أبو عبد الرحمن السُّلَمي فصنَّف لهم كِتاب السُّنَن وجمَع لهم حقائق التَّفسير.»٣٤
- (١٤) تاريخ أهل الصُّفَّة: أشار إليه الهَجويري في كشْف المَحجوب،٣٥ وهو الكِتاب الذي نقَل عنه أبو نُعيم الأصفهاني مُعظَم تراجِم أهل الصُّفَّة، كما سبَقَت الإشارة إليه.
- (١٥) كِتاب السَّماع: أشار إليه الهَجويري أيضًا.٣٦
- (١٦)
ذِكر أسماء [مُختَصر الكِتاب الأول الذي هو الطَّبَقات]: مخطوط بمكتبة كوبرولو رقم ١٦٠٣.
وقد تُوفِّي أبو عبد الرحمن السُّلَمي سنة ٤١٢ﻫ / ١٠٢١م.
(٢) رسالة الملامتية
- (١)
ومن أصولهم أنهم رأوا التزيُّن بشيءٍ من العبادات في الظواهر شِركًا، والتزيُّن بشيء من الأحوال في الباطن ارتدادًا.
- (٢)
ومن أصولِهم ألَّا يقبلوا ما يُفتَح عليهم بعزٍّ ويسألوا بِذُل، حتى إنَّ أحدهم يُسأل عن ذلك فيقول: في السؤال ذلٌّ وفي الفُتوح عزٌّ، وإنَّا لا نأكل إلَّا بِذُلٍّ لأنه ليس في العبودية تَعزُّز. وأصلُهم في ذلك قول النبي ﷺ: «إنما أنا عبدٌ آكلُ كما يأكلُ العبيد.» فإن قيل إن هذا مُخالِف لظاهر العِلم، فإن النبي ﷺ قال لعُمَر بن الخطَّاب رضِيَ الله عنه: ما آتاك الله من هذا المال من غَير مسألةٍ ولا إشراف فاقبَله. قيل: إن عمر رضي الله عنه رأى في ذلك عزًّا لنفسه، فرأى النبي ﷺ تعزُّزَه بذلك، فقال يَحثُّه على ذلك مُخالفةً لنفسه وإسقاطًا لذلك التَّعزُّز عنه، فقال: ما آتاك الله من هذا المال بغير مسألةٍ ولا إشراف فاقبلْه، ولا تَعزَّزْ بذلك، فإنَّ في ردِّ الرِّفق حظًّا للنفس وتكبُّرًا يحدُث فيها.
- (٣)
ومن أصولهم قضاء الحقوق وترْك اقتِضاء الحقوق.
- (٤) ومن أصولهم مَحبَّة استِخراج الشيء منهم بالجُهد، وإن كانوا يُحبُّون إخراجَه بضِدِّ الجُهد إسقاطًا بذلك لحظِّ رؤية النفس منهم إنْ أحَدُهُم بذَلَه، أو يستحي أن يُستخرَج ذلك منه كُرهًا،٦١ حتى بلَغَني عن بعض مشايخهم أنه كان يؤخَذ ما له منه ويقول لهم: هذا حرام ولا يَحلُّ لكم، والقوم يأخذونه، فقيل له [٥٢أ] في ذلك: أنت تقول هو حرام وهم يأخذونه، فقال: إنما يأخُذون أموالهم، ليس لي فيها شيء، ولكن كذا يُستخرَج الحقُّ من البخيل. وأصلُهم في ذلك قول النبي ﷺ: إن النَّذْر لا يُغني من الحق شيئًا، وإنما يُستخرَج به من البَخيل.
- (٥)
ومن أصولهم أن الغفلة هي التي أطلقَتْ للخلْق النظر في أفعالهم وأحوالهم، ولو عايَنوا أمانًا من الحقِّ إليهم لاستَحقروا ما يبدو منهم في جميع الأحوال، واستصغَروا ما لهم في جنْب ما عليهم.
- (٦)
ومن أصولهم مُقابَلة من يَجفوهم بالحِلم، والاحتِمال والخُضوع والاعتِذار والإحسان دُون مُقابلتِهم بمثل ذلك. وأصلهم في ذلك قول الله عز وجل لنبيِّه ﷺ: «ادفَع بالتي هي أحسَن.»
- (٧)
ومن أصولهم اتِّهام النفس في جميع الأحوال، أقبلَت أم أدبرَت، أطاعت أم عصَت، وقلَّة الرِّضا عنها والمَيل إليها بحال.
- (٨) ومن أصولِهم أن ما ظهر من أحوال الرُّوح للسرِّ صار رِياء في السر، وما ظهَر من أحوال السِّرِّ في القلب صار شِركًا في السر، وما ظهر من القلب إلى النفس صار هباءً منثورًا، وما أظهَرَه الإنسان من أفعاله وأحواله فهو رُعونة الطبع ولَعِب الشيطان به. والذي يُحقِّرها يكون في زيادة، ولا يزال يترقَّى في الأحوال حتى يَعلوَ حال السِّرِّ إلى حال الرُّوح، والقلبُ لا يشعُر بذلك، ويترقى حال القلب إلى حال السِّرِّ والنفسُ لا تشعُر بذلك، ويترقَّى حال النفس إلى حال القلب والطبعُ لا يشعُر بذلك. فحِينئذٍ يكون مُكاشفًا ينظُر بِعينه إلى ما يشاء، فيُشاهِده على ما هو عليه، وينظُر بقلبه فيُخبَر عن مواضِع الغَيب. والرُّوح والسرُّ حصلا في المُشاهَدة، فليس لهما إلى القلب والنفس رُجوع بحال. ومع هذا فظاهِرُه مُلازِم للعلم، مُظهِر للتُّهمة، مُخاطِب لنفسه بأنها في حال الاغتِرار والاستِدراج؛ لئلا يألَفَه فيَسقُط عن دَرَجات الصدِّيقين. وسُئل بعضُهم: ما صِفة أهلِ الملامة؟ فقال: دَوام التُّهمة، فإن فيها دَوام المُحاذَرة، ومن قَوِيَت مُحاذَرته سهُل عليه ردُّ الشُّبهات وتركُ السيئات. سمعتُ محمد بن الفراء٦٢ يقول: سَمِعتُ عبد الله بن منازِل٦٣ يقول، وقد سُئل: هل يكون للمَلامتيِّ دَعوى، فقال: وهل يكون له شيء فيدَّعي به؟ وسمعتُ عبد الله بن مُحمَّد٦٤ يقول: سمعتُ أبا عمرو بن نُجَيْد وسألته: هل للملامَتي صِفة؟ فقال: نعم! لا يكون له في الظاهِر رِياء ولا في الباطِن دَعوى، ولا يَسكُن إليه شيء. قال: وسمِعتُه يقول: [٥٢ب] سألتُه مرَّةً عن هذا الاسم، فقال: هو التِزام ما به وُصفَتْ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. أيمدح من كان بهذه الأوصاف أم يُذَم؟ فهذه صِفة الملامة. وأحبَّ مَشايخُهم التَّزيِّي بزيِّ الشُّطَّار والاستِعمال بعمل الأبرار، وأحبُّوا لأصحابِهم أيضًا مُلازَمة الأسواق بالأبدان والفِرار منها بالقلوب. وسمعتُ جدِّي يقول: سمعتُ أبا محمد الجوني، وكان من أصحاب أبي حَفص: الزَم السُّوق والكسْب، وإياك أن تأكُلَ من كسبِك وأنفِقْه على الفُقراء، وما تأكلُه فاسأل الناس. فكنتُ إذا سألتُ الناس يقولون هذا الطموع الشَّرِه يعمل طول نهاره ثم يسأل الناس، حتى عرَفوا ما أمرَني به أبو حَفص، فكانوا يُعطونني، فقال لي أبو حَفص: اترُك الكسْب والسؤال جميعًا، فتركتُهما. وقال أبو حفص: أخبِر الخلْق عن القُرب والوصول والمقامات العالية، وإنما سؤالي الله عزَّ وجلَّ يدلني الطريق ولو بِخُطوة. قال أبو يزيد البسطامي: الخلْق يَظنُّون أن الطريق إلى الله تعالى أبينُ من الشمس وأشهرُ منها، وإنما سؤالي منه أن يفتَح عليَّ من الطريق ولو مِقدار رأسِ إبرة. وكان سادات مَشايِخِهم كلَّما كان حالُهم مع الله أصحَّ وأعلى كانوا أشدَّ تَواضُعًا وأكثر ازدِراءً بأحوالِهم وأنفسهم، وذلك ليتأدَّب المُريدون بِهم، وتصحيح ما بينهم وبين الحقِّ ألَّا يَلتفِتوا منه إلى شيءٍ سواه فيُحرَموا ذلك المقام. وسُئل بعضهم: ما بالُكم قَلَّ ما يقَع بكم ادَّعاء؟ فقال: وهل الدَّعاوى إلَّا رُعونات وسُخرية؟ إذا رجَع صاحِبها إلى نفسه رآها خاليةً ممَّا أظهر، بعيدةً ممَّا ذَكر، وهل هو إلا كما قال الشاعر:وفي نَظر الصَّادي إلى الماء حَسرةٌإذا كان ممنوعًا سبيلُ الموارِدقال: وسمعتُ محمد بن الفرَّاء إذ قلتُ له: ما أصلُ الملامة؟ قال: كلَّما كان حالُهم مع الله أصحَّ ووقتُهم معه أعلى، كانوا أكثر التِجاءً وتضرُّعًا، وألزَمَ لطريق الخَوف والرهَّبة، خوفًا [من] أنَّ الذي هم فيه مَحلُّ استِدراج، كما وَصَف الله عزَّ وجلَّ أصحاب نَبيٍّ من أنبيائه عليهم السلام في قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا الآية، فوصَفَهم بهذه الصِّفة (٥٣أ) وقولُه الحق. ثم أخبر الله تعالى بما أظهروه من أنفسهم مع ما تقدَّم لهم من الأحوال، فقال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. والنبي ﷺ يقول: «إنما أنا عبدٌ آكُل كما يأكُل العبيد.» وممَّا يُشبِه هذا الحال ما سَمِعتُ علي بن بندار٦٥ يقول: سمعتُ محفوظًا يقول: سمعتُ أبا حَفص يقول: منذ أربعين سنة حالي مع الله أنه يَنظُر إليَّ نظرةَ أهلِ الشقاوة، وعمَلي دليل على شقاوتي. وكلُّ طريقة أبي حَفص وأصحابه في هذا أنَّهم يُرغِّبون المُريدين في الأعمال والمُجاهَدات، ويُظهِرون لهم مناقِبَ الأعمال ومَحاسنَها ليَرغَبوا بذلك في دَوام المُعامَلة والمُجاهَدة والمُلازَمة عليها. وكانت طريقة حمدون القصَّار وأصحابه تَحقير المُعامَلات عند المُريدين، ودلالتهم على عُيوبها لئلَّا يُعجَبوا بها ويقَع ذلك منهم مَوقعًا؛ فتوسَّط أبو عثمان٦٦ رحمَه الله وأخَذ طريقًا بين طريقتَين وقال: كِلا الطريقين صحيح، ولكلِّ واحدٍ منهما وقت، فأوَّلُ ما يَجيء المُريد إلينا نَدُلُّه على تصحيح المُعاملات ليلزَم العمل ويَستقرَّ عليه، وإذا استقرَّ عليه ودام فيه واطمأنَّت نفسه إليه، فحينئذٍ نكشِف له عن عيوب مُعامَلاته والأنَفَة منها لِعِلمه بتقصيره فيها، وأنها ليسَت ممَّا يَصلُح لله تعالى، حتى يكون مُستقِرًّا على عمَلِه غير مُغْتَرٍّ به. وإلا فكيف نَدلُّه على عيوب الأفعال وهو خالٍ من الأفعال؟ وإنما ينكشِف له عيبُ الشيء إذا لَزِمه وتحقَّق به، وهذا أعدل الطرُق إن شاء الله تعالى. وسُئل بعضهم: ما طريق الملامة؟ فقال: ترْك الشُّهرة فيما يقَع فيه التمييز من الخلْق في اللِّباس والمَشي والجلوس والكون معهم على ظاهِر الأحكام، والتفرُّد عنهم بحُسن المُراقَبة، ولا يُخالِف ظاهِره ظاهرَهم بحيث يتميَّز منهم، ولا يُوافِق باطِنه باطِنَهم، فيُساعِدهم على ما هم عليه من العادات والطبائع، ولا يُخالِف ظاهرَهم بحيث يتميَّز. وسُئل بعضهم: ما الملامة؟ فقال: ألا تُظهِر خيرًا ولا تُضمِر شرًّا. وسئل بعضُهم: مالكم لا تَحضُرون مجالس السماع؟ فقال: ليس تركُنا مجلس السَّماع كراهةً ولا إنكارًا، ولكن خَشية أن يظهَر علينا من أحوالِنا ما نُسِرُّه، [٥٣ب] وذلك عزيزٌ علينا وعندنا. سمعتُ محمد بن أحمد البهمي٦٧ يقول: سمعتُ أحمد بن حمدون يقول: سمعتُ أبي، حمدونَ القصار، يقول وقد سُئل عن الملامة، فقال: خَوف القَدَرِيَّة ورجاء المُرجئة. وإنما أحبُّوا هم حُضور مجالِس السَّماع للمُتمَكنِين الذين لا يَظهر عليهم شيءٌ من السَّماع وإن أداموا عليه.
- (٩)
ومن أصولِهم أن الأذكار أربعة: فذِكر باللِّسان وذِكر بالقلْب وذِكر بالسِّرِّ وذِكر بالرُّوح، فإذا صحَّ ذِكر الرُّوح سكتَ السرُّ والقلبُ عن الذِّكر، وذلك ذِكر المُشاهَدة. وإذا صَحَّ ذِكر السرِّ سكتَ القلبُ والرُّوح عن الذِّكر، وذلك ذِكر الهَيْبة. وإذا صحَّ ذِكر القلب فَتَر اللسان عن الذِّكر، وذلك ذِكر الآلاء والنَّعماء. وإذا غَفَل القلب عن الذِّكر أقبل اللِّسان على الذِّكر، وذلك ذِكر العادة. ولكلِّ واحدٍ من هذه الأذكار عندَهم آفة: فآفة ذِكر الرُّوح اطِّلاع السرِّ عليه، وآفة ذِكر النفس رؤية ذلك وتَعظيمه أو طلَب ثَواب أنك تَصِل به إلى شيء من المقامات. وأقلُّ الناس قِيمةً من يُريد إظهارَه إلى الخلق، ويُريد الإقبال عليه بذلك أو بشيءٍ منه، وهو أخسُّ الطبْع وأدْوَنُه. وقال بعضهم: خَلَق الله الخلْق وزيَّن بعضَهم بِلطائف أنوارِه ومُشاهدَتِه ومُوافقَتِه وسابِقِ عِنايَته، وجعل بعضَهم في ظُلمات نفوسهم وطبائعهم وشَهواتهم، فمن زيَّنَهم بالزِّينة أهل التصوُّف، لكنهم أظهَروا ما لله تعالى عليهم من الكرامات للخلْق، وابتدءوا بالتزيُّن بها والإخبار عنها، والكشْف عن أسرار الحقِّ إلى الخلق. وأهل الملامة أظهروا للخلْق ما يَليقُ بهم من أنواع المُعامَلات والأخلاق، وما هو نتائج الطباع، وصانوا ما للحقِّ عندهم من وَدائعه المَكنونة أن يَجعلوا لأحدٍ إليها نظرًا أو للخلْق إليها سبيلًا، أو يُكرَّمُوا عليها أو يُعظَّموا بها، ومع ذلك غاروا على جميع أخلاقِهم ومَحاسن أفعالِهم، فخافوا أن يُظهِروها، وعلِموا ما للنفس فيها من المُراد، فأظهروا للخلْق ما يُسقِطهم عن أعيُنهم، وما يكون فيه تذليلُهم وردُّهم، وما لا قَبول لهم معها ليخلُص لهم ظاهرُهم وباطِنُهم. وقال بعضهم: طريق الملامة إظهار «مقام التفرِقة» للخلْق، وإضمار «التحقُّق بعَين الجَمع» مع الحق.
- (١٠)
ومن أصولهم مُخالَفة لذَّة الطاعات، [٥٤أ] فإن لها سمومًا قاتِلة.
- (١١) ومن أصولهم تعظيم ما لله عِندهم من جميع الوُجوه، وتصغير ما يبدو منهم من المُوافَقات والطاعات، ومُلازَمة حدِّهم مع الله من غير قصْد، من استِنباطٍ في قَولٍ أو إظهار ما يَجِب كتْمُه من الأحوال، كما حُكِي عن محمد بن موسى الفرغاني٦٨ قال: خلَق الله آدَم عليه السلام بيَدِه ونفَخ فيه من رُوحه، وأسجَدَ له ملائكته، وعلَّمَه الأسماء كلَّها، ثم قال له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، عرَّفَه قدْرَه لئلَّا يَعدو طَوْرَه. وحكي لي عن بعض مَشايِخِهم أنه قال: من قام بنفسه ظهَر فيه الفُضول واعترَضَه الفُتور. قال: وسمِعتُ منصور بن عبد الله الأصفهاني٦٩ يقول: سمعت عُميَّ٧٠ البَسطامي يقول: سمِعتُ أبا يزيد يقول: من لم ينظُر إلى شاهِده بعَين الاضطرار، وإلى أوقاته بعَين الاغتِرار، وإلى أحواله بعَين الاستِدراج، وإلى كلامِه بعَين الافتِراء، وإلى عبادتِه بعَين الاجتِزاء، فقد أخطأ النظَر. وكتَبَ محمد ابن الفضل٧١ إلى أبي عثمان يسأله عمَّا يَخلُص للعبد من الأفعال والأحوال، فقال له: اعلَم أكرمك الله بمرضاته أنه لا يَخلُص للعبد من الأحوال والأفعال إلَّا ما أجرى الله تعالى عليه من غَير تكلُّفٍ له فيه، وأسقطَ عنه رؤيتَه أو رؤية الناظِرين إليه، وليس له من الأحوال إلا حال السرِّ الذي لا يطَّلِع عليه إلَّا فُحوله. قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، وعندي والله أعلم، أن المُعظِّم لشعائر الله هو المُتَّبِع لكتاب الله تعالى وسُنَّة نبيِّه ﷺ، يَعظُم ذلك في قلبه حتى لا يَجِد إلى غير الاقتِداء وترْك الاختيار سبيلًا. وهذا من علامة الصادِقين، وهذا الذي كان يأمُرنا به شيخُنا أبو حَفص؛ وعلى ذلك كان يَدلُّ كبار أصحابه. قال: وسمِعتُ منصور بن عبد الله يقول: سمعتُ عُميَّ يقول: سمِعتُ أبي يقول: سمِعتُ أبا يزيد يقول: لو صَفَتْ لي تهليلة ما بالَيتُ بعدَها بشيء. وحكى عن أبي حفصٍ أنه قال: العبادات في الظاهر سُرور وفي الحقيقة غُرور؛ لأن المَقدور قد سُنَّ فلا يُسرُّ بفعله إلا مَغرور. وقال: خُلقَت النفس مريضةً ومرضُها طاعاتها، وجُعل دواؤها الاستِناد إلى مسبوق القضاء، فلا يزال العبدُ يتقلَّب في الطاعات وهو مُنقطِع عنها. ولقد رأيتُ لرُوَيم٧٢ رحمه الله فصلًا في كِتاب «دليل العارِفين» يُقرِّب من طريقتهم وقال: [٥٤ب] حين سُئل كيف يَبرأ من السُّكون والحرَكة من جُعِل ساكنًا مُتحرِّكًا، أو يَخلو من الاختِيار من جُعل مُختارًا مُميِّزًا؟ فقال: لا يَبرأ من ذلك حتى تكون حركتُه لا به، وسُكونه لا إليه، ولا يَخلو من الاختِيار حتى يُوافِق اختياره اختيار الحقِّ فيه وله، فيحصُل له سكون وحركة في الظاهر، ولا حركة ولا سكون في الحقيقة، ويحصُل له اختيار ولا اختيار له؛ لأن اختِياره اختيار الحقِّ له، وهذه من المَقامات السَّنيَّة، وهو قريب ممَّا يُضمِر القوم في خَفِيِّ علومهم دُون ما يُبدُونه.
- (١٢)
- (١٣) ومن أصولهم ما سمعتُ محمد بن عبد الله الرَّازي٧٥ يقول: سمعتُ أبا علي الجُرجاني٧٦ يقول: حُسنُ الظنِّ بالله غاية المَعرِفة، وسوء الظنِّ بالنفس أصلُ المَعرِفة بها. سمعتُ محمد بن أحمد الفرَّاء يقول: سمعتُ أبا الحَسن الشَّراكهي٧٧ يقول: سمعتُ أبا عثمان يقول: قال رجل لأبي حَفص: أوصِني، قال: لا تكن عبادتك لربِّك سبيلًا لأن تكون معبودًا، واجعَل عبادتك له إظهارَ رسْم الخِدمة والعبودية عليك، فإنَّ من نظَر إلى عبادته فإنما يعبُد نفسه. وقال بعضُهم: من رجَع إلى الخلْق قبل الوصول فقد رجَع من الطريق، فيُورِّثه ما تقدَّم من رياضتِه حُبَّ الرياسة وطلب الاستِعلاء على الخلْق، ومن رجَع إلى الخلْق بعد الوصول صار إمامًا ينتفِع به المُريدون. وسمعتُ أبا عمرو بن محمد بن أحمد بن حمدان يقول: سمِعتُ أبي يقول: كان أبو حفصٍ إذا دخل البيت لبِسَ المرقعة والصُّوف وغير ذلك من ثِياب القوم، وإذا خرَج إلى الناس خرج بزيِّ أهل السُّوق، يرى في لِبس ذلك فيما بين الناس رِياء أو شِبه رِياء أو تَصنُّع.
- (١٤) ومن أصولِهم التأدُّب بإمامٍ من أئمة القوم، والرُّجوع في جميع ما يقَع لهم [٥٥أ] من العلوم والأحوال إليه. سمعتُ أحمد بن أحمد يقول: سمعتُ أبا عمرو الزَّجَّاجي٧٨ يقول: لو أنَّ رجلًا بلَغ أعلى المَراتِب والمقامات حتى يُكشَف له عن الغَيب ولا يكون له أستاذ لم يَجيء منه شيء. وقال: وسمِعتُ الشيخ أبا يزيد مُحمَّد بن أحمد الفَقيه٧٩ يقول: سمعتُ إبراهيم بن شَيبان٨٠ يقول: من لم يتأدَّب بأُستاذ فهو بطَّال. وكرَّه أكثرُ مشايخهم أن يُشهِر الإنسان نفسه بشيء من العبادات، كالصَّوم الدائم والصَّمت الدائم والأوراد الظاهرة من الصلاة وغير ذلك، حتى يُعرَف بذلك ويُذكَر به. ولقد سمعتُ قريبًا من هذا من محمد بن عبد الله الرازي، يقول: سمعتُ حمزة البزَّاز٨١ يقول: سمعتُ عبد الله بن حمدون يقول: سمعتُ عبد الله المَغازِلي٨٢ يقول: سمعتُ بِشر الحافي٨٣ يقول: أتيتُ المُعافَى بن عمران٨٤ فدقَقْتُ الباب فقِيل: من ذا؟ قلت: أنا بِشر، وجرى على لِساني حتى قلتُ الحافي، فقالت لي بُنيَّة من الدار: يا عم! لو اشتريتَ نعلًا بدانِقين لسقَط عنك هذا الاسم. ورُوي عن النبي ﷺ أنه نهى عن الشُّهرتَين، وقال عليه السلام: كفى بالمرء شرًّا أن يُشار إليه في أمرٍ من الدُّنيا أو الآخِرة. وكرَّه أكثر مشايخهم القُعود للناس على وَجه التَّذكير والمَوعِظة، وقالوا في ذلك: إخراج أحسن ما عِندك إلى الخلْق، فما تبقَّى لك مع الحق؟ إن كلِمتهم بأحوال السَّلَف ظلَمَتهُم، حيث طرَّقَت لهم السبيل إلى الدَّعاوى. قال كذلك سمعتُ أبا عمرو بن حمدون يقول: سمعتُ أبا حَفصٍ يقول لأبي عثمان: القُعود للخلق هو الرُّجوع من الله إلى الخلْق، فانظُر أي رجُلٍ تكون.
- (١٥) ومن أصولهم أنَّ كلَّ عملٍ وطاعة وقعَت عليه رؤيتُك واستحسنْتَه من نفسك فذلك باطِل. وأصلُهم في ذلك ما حدَّثنا أبو محمد عبد الله٨٥ بن علي بن زياد عن محمد بن المُسيَّب الأرغاني قال: حدَّثني عبد الله بن حسن قال: قال علي بن الحُسين عليهما السلام: كلُّ شيءٍ من أفعالِك اتَّصلَت به رؤيتُك فذلك دليل أنه لم يُقبَل منك؛ لأنَّ القَبول مَرفوع مُغيَّب عنك، وما انقَطَع عنه رؤيتك فذلك دليل القَبول.
- (١٦) ومن أصولِهم رؤية تقصير أنفسهم ورؤية عُذْر الخلق فيما هم فيه. قال كذلك: سمعتُ عبد الله بن محمد المُعلِّم٨٦ يقول: سمعتُ أبا بكر الفارِسي٨٧ يقول: خير الناس من يرى الخير في غَيره ويعلم أن الطُّرق إلى الله كثيرة [٥٥ب] غير الطريق الذي هو عليه؛ لكي يرى تقصير نفسه بنفسِه فيما هو فيه، ولا ينظُر إلى أحدٍ بعَين التقصير والنَّقص. سمعتُ جدِّي إسماعيل بن نُجيد يَحكي عن شاه الكرماني أنه قال: من نظَر إلى الخلْق بعينه طالت خُصومته معهم، ومن نظَر إليهم بعَين الحق عَذَرهم فيما هم فيه، وعلِمَ أنهم لا يستطيعون غير ما جُبروا عليه.
- (١٧)
ومن أصولهم حِفظ القلب مع الله بحُسن المُشاهَدة، وحِفظ الوقت مع الخلْق بحُسن الأدب، وكِتمان ما يظهَر عليه من المُوافقات إلا ما لا بُدَّ من إظهاره؛ ولذلك قال أبو محمد سهل رحمه الله: وقتُك أعزُّ الأشياء عندك، فاشغلْه بأعزِّ الأشياء عليك. وقال أبو عبد الله الحَربي: ليس في الدُّنيا شيء أعزُّ من قلبك ووقتك، فإن ضيَّعْتَ قلبك عن مُطالَعات الغيوب، وضيَّعتَ وقتك عن مُمارَسة آداب النفس، فقد ضيَّعتَ أعزَّ الأشياء عليك.
- (١٨)
ومن أصولهم أنَّ أصل العبودية شيئان: حُسن الافتِقار إلى الله عَزَّ وجل، وهذا من باطِن الأحوال، وحُسن القُدوة برسول الله ﷺ، وهذا الذي ليس فيه للنفس نَفَسٌ ولا راحة.
- (١٩) ومن أصولهم أنَّ الإنسان يجِب أن يكون خَصمًا على نفسه، غير راضٍ بحالٍ من الأحوال. قال كذلك: سمعتُ أبا بكر بن شاذان٨٨ يقول: سمعت علي بن داود العَكِّي يقول: المؤمن خَصم الله على نفسِه في جميع أحوالِه وأفعالِه وأذكاره وأقواله.
- (٢٠) ومن أصولهم أنَّ النَّظر إلى العمل والعُجْب [به] من قلَّة العَقل ورُعونة الطبع. كيف تفتخِر بما ليس لك فيه شيء، وهو يَجري من الغَير إليك، يُنسَب ذلك إليك نِسبةً عارِيةً، وفي الحقيقة ليس لك معه نِسبة، لأنك مُدبَّر فيه ومَجبور عليه. وهل الافتِخار بهذا الأمر إلَّا من قلَّة العقل ورُعونة الطبع؟ ورُويَ عن النَّبي ﷺ أنه قال: المُتصنِّع بما لم يُعطِ كلابِس ثَوبَي زُور. قال: سمعتُ محمد بن عبد الله يقول: سمعتُ محمد بن علي الكتَّاني٨٩ يقول: كيف يُعجَب عاقِل بعمَلِه وهو يَعلَم أنه لا يقدِر على شيءٍ من عملِه؟
- (٢١) ومن أصولهم ترْك الكلام في العِلم والمُباهاةِ به وإظهار أسرار الله منه عند غير أهله. قال: سمعتُ منصور بن عبد الله يقول: سمعتُ عبد الله بن محمد٩٠ النَّيسابوري يقول: قلتُ لأبي حفصٍ [٥٦أ]: ما بالُكم لا تتكلَّمون كما يتكلم البغداديُّون وغيرهم من الناس، وما بالُكم اخترتُم الصَّمت؟ فقال: لأن مَشايِخَنا صمَتوا بعلمٍ ونطَقوا على الضَّرورة، فوقَع لهم محلُّ الأدَب في الكلام، فلم يَتكلموا إلَّا بعد ما عَقلوا عن الله، فصاروا أُمَناء الله في أرضه، والأمين حريصٌ على حِفظ أمانتِه.
- (٢٢) ومن أصولهم أنَّ السَّماع إذا عَمِلَ فيمن يتحقَّق فيه أنَّ هيْبتَه تمنَع الحرَكة والصِّياح، لتمام هَيبته عليهم. قال: سمعتُ محمد بن الحَسن الخشَّاب٩١ يقول: سمعتُ علي بن هارون الحصري٩٢ يقول: السَّماع الحقيقي إذا صادَفَ مكانًا من قلب مُتحقِّق زيَّنه بأنواع الكرامات، أوَّلُهُ أن تَبدو هَيبتُه على الحاضرين حتى لا يتحرَّك بحضرته أحد، ولا يَصيح ولا ينزعِج لتمام هَيبته. وحقيقة مُصاحَبة السَّماع منه أن يغلِب وقتُه أوقات الحاضرين ويقهرَهم، فهم تحت قهرِه وأمرِه.
- (٢٣) ومن أصولهم أن الفقر سرٌّ لله عنده، فإذا ظهَر عليه فقرُه منه فقد خرَج عن حدِّ الأُمَناء. والفقير منهم عندَهم فقير ما لم يعلَم أحد فقرَه إلَّا مَن يكون افتِقاره إليه، فإذا عَلِمَ منه غَيْرُه فقد خرَج من حدِّ الفقر إلى حدِّ الحاجة، والمُحتاجون كثير والفُقراء قليل. وأصلُهم في ذلك ما سمعتُ محمد بن أحمد بن إبراهيم٩٣ يقول: سمعتُ طلْحة السُّلَمي [السلي هكذا] يقول: كان شاه الكرماني يقول: الفقر سِرُّ الله عند العبد، فإذا كتَمَه كان أمينًا، وإذا أظهرَه سقط عنه اسم الفَقْر.
- (٢٤)
ومن أصولهم ترْك تغيير اللِّباس، والكونُ مع الخلْق على ظاهِر ما هم عليه، والاجتِهادُ في إصلاح السر. وأصلُهم في ذلك ما رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله تعالى لا ينظُر إلى صُوَركم، ولكن ينظُر إلى قلوبكم ونِيَّاتكم.
- (٢٥) ومن أصولهم ترْك الاشتِغال بعُيوب الناس شُغلًا بما يلزَمُهم من عُيوب أنفسهم، مُحاذَرَة شرِّها ودَوام تُهمتِها، والإقامة على إصلاحِها ومَكنون عُذرِها وخَفاء سرِّها. وأصلُهم في ذلك قول الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. قيل المعنى إلَّا من ذَلَّلَها الله لصاحِبها وأظهَرَه عليها بدَوام المُخالَفة، ورَدَّها من طريق المُخالَفة إلى طريق المُوافَقة، وما روي عن النبي ﷺ أنه قال: طُوبَى لِمَن شغَلَه عيبُه عن عيوب الناس.
- (٢٦)
ومن أصولِهم أن المُعطي يَجِب عليه ألَّا يرى عطاءه شيئًا؛ لأنه يُعطي ما لله عندَه ويُوصِّل الحقوق إلى مُستَحقِّها، فإذا أعطى حقَّ الغَير كيف يَعْظُمُ ذلك عنده؟ وأصلُهم في ذلك حديث أبي مُوسى الأشعري رضِيَ الله عنه [٥٦ب] حِين أتى النبي ﷺ مع الأشعريِّين ليَستحملوه، فحلَف ألا يَحمِلَهم، ثم حَملَهم، فقالوا: نَسِيَ رسول الله يَمينه، فأتوا النبي ﷺ فقالوا له: حلفْتَ ألا تَحمِلَنا، فقال: ما أنا حَملتُكم ولكن الله حمَلَكم. وقوله عليه السلام: أنا قاسِم والله المُعطي. فإذا عرَف العبد حقيقة ذلك سقَط عنه رؤية بذلِه وسَخائه.
- (٢٧)
ومن أصولهم أن أقلَّ العبيد معرفةً بربِّه عبدٌ ظنَّ أن فِعلَه وطاعته تَستجلِب عطاءه، وأن عطاءه يُقابِل فضله، ولا يَصحُّ للعبد عندَهم شيءٌ من مقام المعرِفة حتى يعلَم أن كلَّ ما يرِد عليه من ربِّه من جميع الوجوه فضلٌ غير استِحقاق. وأصلُهم في ذلك قول النبي ﷺ: لا يدخُل أحدَكم الجنَّة بعملِه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدَني الله برحمته.
- (٢٨)
ومن أصولهم ألَّا يُبصِر [الإنسان] عَيب أخيه إلَّا أن يكون مَعيبًا. وأصلُهم في ذلك قول النبي ﷺ لصفوان: هلَّا سترتَه برِدائك كان خيرًا لك؟
- (٢٩)
ومن أصولهم كراهةُ الدُّعاء إلَّا للمُضطرِّين، والمُضطرُّ عندَهم من لا يجِد لنفسه وَجهًا ولا مَتاعًا ولا مَقامًا عند الله تعالى ولا عند الخلق، فيكون رُجوعه إلى ربِّه بانكِسار وضعفٍ دون أن يُقدِّم أحوالَه وأفعاله، ويكون رُجوعه إلى ربِّه على حدِّ الإفلاس والتخلِّي من كلِّ شيء، فيكون الدُّعاء مُباحًا في ذلك الحال، ويُرجى لدُعائه الإجابة. وأصلُهم في ذلك ما حُكيَ عن أبي حَفصٍ أنه قيل له: بماذا تُقْدِمُ على ربِّك؟ قال: وما للفقير أن يُقدِم به على الغنيِّ سوى فقرِه إليه؟ قال أبو يزيد: نودِيتُ في سِرِّي: «خزائني مملوءة من الخِدمة، فإن أردْتَنا فعليك بالذِّلَّة والافتِقار.»
- (٣٠)
ومن أصولهم أن الغَفلة — التي هي رحمة الله — هي على من استَوفى أوقاتَه في المُجاهَدة والمُعاملة، فإذا أراد الله به رِفقًا أو رفاهيةً أوْرَدَ عليه غفلةً يَستريح فيها لذلك. سُئل شيخُهم أبو صالِح عن الغَفلة التي هي رحمة، فقال: ذلك يكون على فُلان الذي لا يُمكِنه أن يأتي الفِراش إلا حَبوًا من كثرة الاجتِهاد، وإذا أتى الفِراش يكون كالحيَّة على المَقْلى.
- (٣١)
ومن أصولهم أنَّ كثرةَ الحرَكة في الأسباب من علامة الشقاوة، وأنَّ التفويض والسُّكون تحت مَجاري الأقدار من علامات السعادة؛ ولذلك قال حمدون: خلَق الله الخلْقَ مُضطرِّين إليه لا حِيلةَ لهم، [٥٧أ] فأسعدُ الناس من أراد الله قلَّةَ حِيلته.
- (٣٢)
ومن أصولهم أنهم كرِهوا أن يُخْدَموا أو يُعظَّموا أو يُقصَدوا، ويقولون: ما للعبد وهذه المُطالَبات؟ إنما هي للأحرار. وأصلُهم في ذلك ما سمعتُ من محمد بن أحمد الفرَّاء يقول: سمعتُ عبد الله بن أحمد بن منازِل يقول: سمعتُ حمدون يقول وقد سُئل: مَن العبد؟ فقال: الذي يعبُدُ ولا يُحِبُّ أن يُعبَد. قال أبو حفص: لا تكن عبادتُك سببًا [في] أن تكون ربًّا يَستعبِد عبيده.
- (٣٣)
ومن أصولهم في الفِراسة أنَّ الإنسان يجِب أن يُتَّقى من فِراسته، والمؤمن لا يدَّعي فِراسة لنفسه؛ لأن النبي ﷺ يقول: اتَّقوا فِراسة المؤمن. ومن يتقي [فِراسة] الغَير فيه كيف يدَّعي فِراسة لنفسه؟ وهذا قول أبي حَفص.
- (٣٤)
ومن أصولِهم ما سمعتُ محمد بن أحمد الفرَّاء يقول: سمعتُ ابن منازل يقول: سمعتُ أبا صالح يقول: المؤمن يجِب أن يكون بالليل سِراجًا لإخوانه وعصًا لهم بالنهار. المعنى: حُسن عَونِه لهم في اشتِغالهم وما يَحتاجون إليه.
- (٣٥)
ومن أصولهم ما حَكى أبو عثمان عن أستاذِه أبي حَفصٍ أنه قال: مَن كثُر عِلمه قَلَّ عملُه، ومن قَلَّ عِلمُه كثُر عمَلُه، فرجعتُ إلى أبي حفصٍ فسألتُه عن معنى كلامه هذا، فقال: من كثُر عِلمه استقلَّ كثيرَ عملِه، لعِلمِه بتقصيره فيه، ومن قلَّ عِلمه استكثَرَ قليلَ عمله، لقلَّةِ رؤية التقصير فيه والعَيب.
- (٣٦)
ومن أصولهم أنَّ سَماع الأذُن يجِب ألَّا يغلِب مُشاهَدة البصر؛ المعنى ألَّا يغلِبه سَماع ما سَمِعَه في نفسه من الثناء بالظنِّ بما يتحقَّقه هو من آفات نفسه ومُشاهَدَته، وأول هذا الفضل لأبي حَفص. وأصلُهم في ذلك ما رُويَ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: ليس الخَبَر كالمُعايَنة. وقال عُمر رضي الله عنه: المَغرور من غَرَرْتُموه.
- (٣٧) ومن أصولهم ترْك الكلام في دقائق العلوم والإشارات، وقلَّة الخَوض فيها، والرُّجوع إلى حدِّ الأمر والنهي. وأصلُهم في ذلك ما سمعتُ عبد الله بن علي٩٤ يقول: سمعتُ إسحاق بن إبراهيم بن شَيبان٩٥ يقول: كتَبَ محمد بن القاسم الحلواني إلى أبي كتابًا أكثرَ فيه الإشارات، وكتبَ إليه أبي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الذَّليل إبراهيم بن شَيبان. يا أخي! إن اتبَّعتَ الأمر والنهي فأنت بخَير.» قال: وحدَّثَني جدِّي قال: سمعتُ أبا عِياض يقول: إذا نُزِعَ عن باطِن الإنسان الخَيرات أُطلِقَ لسانُه بالدَّعاوى العظيمة ودقائق العلوم.
- (٣٨)
[٥٧ب] ومن أصولِهم في التَّوكُّل ما سمعتُ ابن عبد الله يقول: سمعتُ عُميَّ البسطامي يقول: سمعتُ أبا يزيد يقول: حسبُك من التَّوكل ألَّا تَرى ناظِرًا غَيره، ولا لرِزقك جالبًا غيره، ولا لعملِك شاهدًا غَيره.
- (٣٩) ومن أصولهم كِتمان الآيات والكرامات، والنَّظر إليها بعَين الاستِدراج والبُعد عن سبيل الحق. كذلك سمعتُ محمد بن شاذان يقول: سمعتُ أبا عمرو الدِّمشْقي٩٦ يقول: كما فرَض الله على الأنبياء إظهارَ الآيات والكرامات، كذلك فرَض على الأولِياء كِتمانَها لئلا يُفتَتَن بها الناس.
- (٤٠)
ومن أصولهم ترْك البكاء عند السَّماع والذِّكر والعِلم وغير ذلك، ومُلازَمة الكمَد، فإنه أحمَدُ للبَدَن. وأصلُهم في ذلك ما سمعتُ أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: سمِعتُ أبا بكر محمد بن عبد العزيز المكي يقول لرجُلٍ في مجلِسه وقد بكى: تلذُّذُك بالبُكاء ثمَن البُكاء. وأطلَقَ أبو حَفصٍ لأصحابه من البُكاء بُكاء الأسَف، وقال هو محمود. وخالَفَه أبو عثمان في ذلك، وقال بُكاء الأسَف يذهَبُ بالأسَف، ومُداوَمة الأسَفِ أحمَدُ عاقِبةً من التَّسلِّي عنه بالبُكاء، إلَّا أن يكون البُكاء بُكاءَ ذَوَبان الرُّوح، فتكون الدَّمعةُ من ذلك البُكاء تهدُّ البدَن وتُفنيه، وأنشدَ في هذا المعنى:
وليسَ الذي يَجري من العَين ماؤهاولكنَّها رُوحي تَذوب وتقطُر - (٤١) ومن أصولهم قالوا: يجِب أن يكون الواعِظ منك يوم مَوتِك بيتَك، لا أن تُظهِر من الفقر طول حياتك، فإذا مِتَّ كان بيتُك كأحد بُيوت مَن سلَف من أرباب الفَقْر. وقالوا: يجِب أن تُظهِر الغِنى والاستِغناء أيام حياتك، فإذا متَّ أظهر فقرَك بيتُكَ، فيكون مَوتُك راحةً للماضِين ومَوعِظةً للباقِين. وأصلُهم في ذلك ما قال أبو حفصٍ لعبد الله الحجَّام:٩٧ إن كُنتَ فتًى فيكون بيتُك يوم مَوتك مَوعِظةً للفِتيان.
- (٤٢) ومن أصولِهم تركُ الرُّجوع إلى أحدٍ من المَخلوقِين والاستِعانة بهم، فإنك لا تَستعين إلا بمُحتاجٍ أو مُضطر، ولعلَّه أشدُّ حاجةً واضطرارًا منك وأنت لا تشعُر. وأصلهم في ذلك ما سمعتُ منصور بن عبد الله يقول: سمعتُ أبا علي الثَّقَفي٩٨ يقول: سمعتُ حمدون يقول: استِعانة المَخلوق بالمَخلوق كاستِعانة المَسجون بالمَسجون.
- (٤٣) ومن أصولِهم إذا رأوا لأنفُسِهم إجابةَ دَعوةٍ حزِنوا واستَوحَشُوا، وقالوا هذا مَكرٌ واستِدراج، كما حُكيَ عن الدقِّي٩٩ عن أبي نَصر الرافِعي [٥٨أ] عن أبي عثمان النَّيسابوري أنه قال: خرجْنا مع أبي حفصٍ إلى بعض الجبال، فقَعد أبو حَفصٍ يكلِّمُنا، فبَيْنا هو كذلك إذ جاءه ظَبيٌ فبَرَك بين يَدَيه، فبكى أبو حَفصٍ وتغيَّر عليه وقتُه، فقُلنا له: ما بالُك؟ فقال: وَقَع في قلبي أنه لو كان عِندنا هذه اللَّيلة شاةٌ لاجتمَعْنا عليه، فما استَحكَم هذا الخاطِر من قلبي حتَّى جاء هذا الظبيُ كما تراه، وما يُؤمِّنُني أن أكون كفِرعون، أُجيبَ لمَّا سأل وقد خُتِم له من الله بالشَّقاوة؟
- (٤٤) ومن أصولهم قَبولُ الرِّزق إذا كان فيه ذُل، وردُّه إذا كان فيه عزَّة نفسٍ وشرَه طَبع. سمعتُ محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعتُ الحُسين بن علي الدِّمشقي يقول: وجَّه عِصام البلخي١٠٠ إلى أبي حاتم الأصمِّ١٠١ شيئًا فقبِلَه منه، فقِيل له: لم قبِلت؟ فقال: وجدتُ في أخذِه ذُلِّي وعِزَّهُ، وفي ردِّه عِزِّي وذُلَّه، فاخترتُ عِزَّه على عزِّي وذُلِّي على ذُلِّه.
- (٤٥) ومن أصولِهم ما سمعتُ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن إسماعيل١٠٢ يقول وقد سُئل عن الصُّحبة فقال: حُسن الصُّحبة ظاهِرُه أن تُوسِّع على أخيك من مال نفسك ولا تَطمَع في ماله، وتُنصِفه ولا تطلُب منه الإنصاف، وتكون تَبَعًا له ولا يكون تَبَعًا لك، وتتَحمَّل منه الجَفْوَةَ ولا تَجفُوَه، وتَستكثِر قليلَ بِرِّه وتَستقلُّ ما منك إليه. ومن جامِع ما سمعتُ شَيخ هذه القصَّة محمد بن أحمد الفرَّاء يقول: سألَني الأحدَبُ غلام القنَّاد: «ما الملامتية وما كلامهم؟» فقال: ليس لهم مَرسوم علمٍ ولا مَكتوبُ كتُب، ولكن كان لهم شَيخ يُقال له حمدون القصَّار، فقال: «الملامتي» لا يكون له من باطِنه دَعوى، ولا من ظاهِره تَصنُّع ولا مُراءاة، وسرُّه الذي بينَه وبين الله لا يطَّلِع عليه صدرُه، فكيف الخلْق؟ قال محمد بن أحمد الفرَّاء: بلَغَني أنه حَكى الحاجِب للشيخ أبي الحسَن الحصري ببغداد فقال له: لو جاز أن يكون في هذا الزَّمان نبيٌّ لكان منهم.
قال أبو عبد الرحمن رحمةُ الله عليه: بَيَّنْتُ في هذه الفصول التي تقدَّمتْ من مَنثور كلام مَشايِخِهم وأئمتِهم من ظاهِر أصولِهم ما نسألُ الله تعالى ألَّا يحرِمَنا بركاتِه، ومنها ما يَستدِلُّ به من وفَّقه الله لفَهمِه على ما وراءه من أحوالِهم وعبادَتِهم. ونحن نسأل الله تعالى ذِكرُه أن يُوفِّقَنا لمَرضاتِه، ويُعينَنا على ما فيه الصَّلاح لدُنيانا وأُخْرانا، بفضلِه وَسَعَةِ رحمته، إنه وليُّ ذلك والقادِر عليه.