يعقوب
فلْنترُكْ فلورندا في تأملاتها ولْنرجِعْ إلى ألفونس، لنرى ما كان من أمره بعد ذهابه إلى منزله، ولم يكن منزله بعيدًا عن قصر الملك، فلما وصل إلى باب المنزل ترجَّل وسلَّم الجواد إلى أحد الخدم وهمَّ بالدخول، فأحسَّ كأن شيئًا يستوقفه، فوقف لحظة ثم دخل وتوجَّه إلى غرفته، فرأى خادمه الخاص يقف ببابها ينتظر قدومه ليبلِّغ أوامره إلى من يريد.
وكان ذلك الخادم كهلًا، قصير القامة، جاحظ العينين، أعقف الأنف، بارز الذقن، لحيته قصيرة تنقسم إلى شعبتين مخروطتي الشكل، بارزتين نحو الأمام، طرفاهما رأْسَا المخروط وقد دبَّ الشيب في ذَيْنك الرأسين، ولا يزال أصل اللحية عند الذقن أسود أو هو كستنائي اللون، وكان اسمه يعقوب، ولم يكن يُعنَى بتسريح شعره، فكان الإهمال ظاهرًا في لحيته حتى لقد تحسبها جُزازة نعجة تلبَّد صوفها وتشبَّك ثم نُبشت أطرافها. على أن وجه الرجل كان بالاختصار مضحكًا لبروز الأنف وجحوظ العينين وبروز اللحية على تلك الصورة، وكان مع ذلك كثير الحركة خفيف الروح لا ينفك وجهه ضاحكًا. وكان قد رُبِّي في بيت غيطشة قبل أن يكون ملكًا، فلما تولَّى المُلْك قرَّبه إليه وكان يثق فيه ويعهد إليه بأموره ويُسِرُّ إليه بكثير من آرائه. وأهل القصر يحسدون يعقوب على ذلك التقرُّب وخاصة لأنه ليس قوطيًّا، ولم يكونوا يعرفون أصله ولا كيفية وصوله إلى ذلك المنصب، وقد تعجَّبوا من أمره.
أما غيطشة فقد كان يحبُّه ويقرِّبه، ولما دنا أجله أوصى أولاده به وأوصاه بهم وخاصة ألفونس، فقد أوصاه بالاعتماد على يعقوب في كل ما يهمه. وكان ألفونس قد تعوَّد احترامه والثقة به من عهد والده، ويعقوب يتفانى في خدمته، وقد لا يظهر لمن يراه لأول وهلة أنه ذو رأي أو هِمَّة لِمَا يبدو في وجهه من ملامح المجون مع خفة الروح، ولكنه كان في مقام الجد من أكثر الناس حكمةً وهِمَّةً.
فلما وصل ألفونس إلى غرفته استقبله يعقوب ضاحكًا، وفتح له باب الغرفة، فدخل ألفونس ولم يُكلِّمْه على خلاف عادته من ممازحته ومداعبته، فأدرك يعقوب أنه في شُغل هام، فوقف لا يخاطبه في شيء لئلا يقطع عليه مجرى أفكاره أو يثقل عليه بكلامه.
أما ألفونس فكان أول شيء فعله عند دخوله الغرفة أن خلع قبعته ونزع سيفه وعلَّقه بالحائط، وجلس على كرسي من الخشب بجانب نافذة تطلُّ على مغارس طُلَيْطلة عن بُعْد، وأرسل بصره في ذلك الفضاء والنهار لا يزال صحوًا والجو صافيًا. وقد لبث برهة لا يتكلم، ثم حوَّل بصره فجأةً وصاح: «يعقوب!» فإذا هو بين يديه، فقال له: «هل جاء عمِّي إلى هنا في أثناء غيابي؟»
قال: «كلا يا مولاي إنه لم يأتِ، ألم تجِدْه في الكنيسة؟»
فتذكَّر ألفونس الصلاة، فتبادر إلى ذهنه أن عمَّه كان في جملة المصلين لأنه مطران «متروبوليت»، ثم عاد فتذكَّر أنه — لِمَا بين عائلته وبين عائلة الملك من التباعد — ذهب ليصلي في كنيسة أخرى، فقال ليعقوب: «أتظنه سار إلى الكنيسة؟ ولماذا لم تذهب أنت أيضًا للصلاة؟»
قال يعقوب: «كنت مشغولًا بأمور البيت، وقد صلَّيت هنا، ألا يكفي ذلك؟»
قال ألفونس وكأنه قد تذكَّر أمرًا كان قد ذهب عن باله: «سامحني، فإني نسيت وصيَّة والدي ألا أسألك عن الصلاة. ما رأيك في عمي المطران؟ إني في حاجة إليه.»
فقال يعقوب: «قل وأنا أستقدمه على عَجَل، ولو كان في روميَّة.» قال ذلك وتبسَّم، فأدرك ألفونس أنه يلمِّح إلى ما بينهم وبين روميَّة من التنافر، فاستحسن منه هذا المجون وقال له: «لا أظنه بعيدًا بهذا القدر، إليَّ به.»
فخرج يعقوب إلى غرفة الخدم، فبعث خادمًا يفتش عن المطران في الكنيسة، وآخرَ يفتش عنه في بيته، وآخرَ في مكان آخر من مظانِّه، ورجع وهو في همٍّ من أمر ألفونس، ولكنه لم يجرؤ على استطلاع أمره، فلمَّا وصل إلى الغرفة أخبر ألفونس بما فعله، وظل واقفًا وهو يداعب أطراف لحيته بين أصابعه وينتظر أمره، فلم ينتبه ألفونس له لاستغراقه في هواجسه وقد تزاحمت الأفكار في مخيِّلته، وأكثرها وضوحًا أمر المُلْك، وكيف استبدَّ رودريك به واستخفَّ بشأنه، وكيف أنه بعد أن كان مطمح أنظار وُجهاء المملكة أصبح شبيهًا بأحقرهم، وفكَّر في وسيلة لاستلاب المُلْك منه، فإذا هو قاصر عن كل شيء، لا مال عنده ولا رجال، ولا شيء يقاوم به. ثم تذكَّر فلورندا وأنه عاهدها على استرداد المُلْك من رودريك، فكيف يرجع عن عهده عاجزًا مقهورًا؟ فتجسَّم لديه المصاب وثَقُل عليه الفشل، وندم على ما فرط منه بين يدَيْ حبيبته من القَسم؛ فضاق صدره، وصَغُرت نفسه، وغلب عليه اليأس، فتناثرت الدموع من عينيه بالرغم منه، والدمع يفرِّج الكرب إن عزَّت على المرء وسائل التخلص من الضيق.
وكان يعقوب لا يزال واقفًا، فسمع تنهُّد ألفونس ثم لحظ من بعض الحركات أنه يبكي، فأدرك أنه يفعل ذلك وهو يحسب نفسه في خلوة، فانسلَّ — ولم يشعر به ألفونس — حتى جلس على كرسيه بجانب الباب، وقد انشغل خاطره بألفونس، فعزم على استطلاع أمره من المطران بعد مجيئه، وقد كانت له عليه دالَّة كبرى.