فلسفة التاريخ
وعندئذٍ قال ألفونس: «لا يخفى على عمِّي العزيز أن القوة التي ساعدت رودريك على تسنُّم ذروة المُلْك إنما هم الرومان وخاصة الأساقفة، وأما رجال القوط أهلنا وأهل عشيرتنا فإنهم لا يريدونه، وهؤلاء جماعة كبيرة، إذا اتحدوا هم ورجالهم وأتباعهم تألَّف منهم جُند كبير يتغلَّب على جُند رودريك، فلا يصعب علينا إذ ذاك استرداد الحُكم من يده، إما بالتنازل، وإما بالقتال.»
فابتسم أوباس ابتسامة متكلفة دلَّت على استخفافه برأي ذلك الشاب الذي بدا كأنه قليل التجربة، ثم قال: «صدقت يا ولدي، إن القوط على عهدنا، ولكن هل تظن إذا دعوتهم إلى الحرب ينهضون؟ لا أظن أن شكواهم من هذا الملك تخرج عن حد الكلام، ولا لوم عليهم، فهم يخافون على أرواحهم وأموالهم، على أن أكثرهم لا يرون بأسًا من بقاء رودريك وغيره من صنائع الرومان لاشتراكهم معهم في المذهب؛ فإنهم جميعًا تابعون لكنيسة رومية، وقد تغلَّب الأساقفة الرومان على آرائهم وعلى قلوبهم كما تغلَّبوا على حكومتهم، حتى نسُوا جنسيتهم.»
وكان أوباس يتكلم بصوت هادئ وتأنٍّ، ولم يبدُ الهياج في عينيه إلا عندما وصل إلى هذا القول، على أن الرزانة ظلت غالبة على حركاته، ولكنه سكت هنيهة وألفونس ينظر إليه ويتوقع بقية الحديث، فقال أوباس وهو يجدل شعر لحيته بين أنامله: «سامح الله ريكارد؛ فإنه هو الذي جرَّ علينا هذا البلاء.»
فلم يفهم ألفونس معنى هذا اللوم؛ لأن ريكارد ملك من ملوك القوط حكم إسبانيا زمنًا طويلًا في أواخر القرن السادس للميلاد، وكان من رجال الحرب والسياسة، فقال ألفونس: «ما الذي ارتكبه ريكارد يا عمَّاه حتى استحقَّ هذا اللوم؟ والذي أعلمه أنه هو الذي حفظ لنا مملكة الإسبان ودفع الإفرنج (الفرنك) عنها.»
قال أوباس: «صدقتَ يا ولدي، إنه نجَّانا من الفرنك، ولكنه ألقانا فيما هو أعظم خطرًا منهم.»
قال ألفونس: «وما هو ذاك؟»
قال أوباس: «ألا تعرفه؟ ألا تعرف أن ريكارد هو الذي أضاع جنسيتنا، وحلَّ جامعتنا؟»
فلم يفهم ألفونس ما يهدف إليه، فقال: «كلا يا مولاي، إني لا أعرف ذلك، ما هو؟»
قال أوباس: «ألا تعلم يا ألفونس أن ريكارد هو الذي جعل مذهب كنيسة روميَّة (الكاثوليكية) هو مذهب حكومة إسبانيا؟»
قال ألفونس: «نعم، ألا تظنُّه فعل حسنًا؟»
فقال أوباس: «نحن الآن على مذهب هذه الكنيسة أيضًا، وقد رَبِينا في حبِّها، ولا بأس في ذلك، ولكنني أنظر في الأمر من وجهه السياسي، أنظر فيه من حيث جامعتنا القومية. جاء أسلافنا القوط منذ بضعة قرون، وكانت هذه البلاد في حوزة الرومان، فأخذوا المُلْك من أيديهم بالقوة وتسلَّطوا عليها، ولا يخفى عليك أن مذهب أسلافنا الذي جاءوا به إلى البلاد ليس الكاثوليكية مذهب كنيسة رومية، بل هو مذهب الآريوسي نسبة إلى آريوس الشهير، وكان ذلك مذهب معظم قبائل القوط قبل خروجهم على المملكة الرومانية، ففتحنا هذه البلاد وقضينا فيها نحو مائتي سنة ونحن على مذهب آريوس، وأهل البلاد على مذهب كنيسة رومية.
ولا أُخفي عنك أن ملوكنا القدماء لم يهتموا بنشر مذهبهم ولم يتبيَّنوا علاقة الدين بالسياسة، ولكنَّ الرومان لم يغفُلوا عن اغتنام الفرص لاسترداد سلطانهم بطريق الدين، فجعلوا يدسون أنوفهم في مصالح الدولة رويدًا رويدًا، ويبثُّون مذهبهم بين الرعايا بوسائل مختلفة حتى تولى ريكارد المذكور منذ قرن وبعض قرن، فاستولوا على عقله حتى نبذ ديانة أجداده، واعتنق المذهب الكاثوليكي وجعله مذهب المملكة فتمَّ النفوذ لرومية، حتى أصبح مجمع الأساقفة الذي يجتمع في هذه المدينة يدير أمور المُلْك كما يشاء، وربما أتوا بالأوامر من رومية نفسها، ولا تزال الكاثوليكية ديانة هذه المملكة إلى اليوم، ولم يبقَ للآريوسية أثر إلا قليلًا جدًّا. ولا ريب عندي أن الذين استبدلوا مذهبهم في أول الأمر إنما استبدلوه موافقةً لرأي ريكارد، لا عن اقتناع بالبرهان؛ لأن مذهب آريوس أقرب إلى منطق العقل من سائر مذاهب النصرانية.»
فلمَّا وصل أوباس إلى هنا، أحسَّ بأنه استطرد في الكلام بين يدي ذلك الغلام، وقد تحقَّق من ذلك مما بدا على وجه ألفونس من دلائل الاستغراب، لِمَا غُرِس في ذهنه منذ طفولته من ذم الآريوسية، حتى إنه كثيرًا ما سمع ذمها من عمِّه نفسه، وأدرك أوباس ما جال في خاطر ابن أخيه، فاستدرك قائلًا: «لا يغربْ عن ذهنك يا ولدي أني لا أحبِّب إليك الآريوسية دون سواها، فإننا لا نفضِّل مذهبًا على مذهبنا الحالي، ولكنني أخاطبك بلغة السياسة لا الدين؛ لأُبيِّن لك نتائج الخطأ الذي ارتكبه ريكارد — سامحه الله — لأنه باعتناقه المذهب الكاثوليكي أضاع الجنسية القوطية؛ لأن الدين — يا عزيزي — أثبتُ الجامعات وأشملها؛ إذ قد يجتمع القوطي والفندالي والروماني واليوناني والسكسوني والعربي وغيرهم في بلد وهم أخلاط، فإذا اعتنقوا مذهبًا واحدًا ضاعت جنسياتهم الأصلية بتوالي الأزمان وصاروا أمة واحدة.
وهناك جامعة أخرى ربما كانت مثل جامعة المذهب أعني بها جامعة اللغة، فهذه أيضًا شاملة، ولكنها في الغالب تابعة للدين. ألا ترى أننا بعد أن اعتنقنا المذهب الكاثوليكي أصبحت اللغة اللاتينية هي الغالبة في كنائسنا ومجالسنا لأنها لغة ذلك المذهب، وأخذت لغتنا القوطية في الانقراض أو الضياع؟ فلو ظللنا على الآريوسية واستبقينا لغتنا وعمَّمناها في الشعب، وحوَّلنا أهل هذه البلاد عن مذهبهم الكاثوليكي إلى مذهبنا الآريوسي لكانت لغتهم لغتنا، ومذهبهم مذهبنا وصاروا من أنصارنا، ولكننا غفلنا عن ذلك فانعكس الأمر، وأصبح أولئك الرومان بعد أن أخرجونا من مذهبنا ولغتنا، يحاولون إخراجنا من سلطتنا بما اكتسبه الأساقفة الرومانيون من النفوذ في أمور الدولة، حتى لا ترى في أوروبا كلها مجمعًا دينيًّا له على حكومة البلاد من النفوذ مثل ما لمجمع طُلَيْطلة هذا على حكومة إسبانيا.
وأول من أحسَّ بهذا الخطر من ملوك القوط والدك — طيَّب الله ثراه — فإنه سعى في إنقاذ حكومته من نفوذ رومية، حتى كأنِّي سمعته يصرِّح برغبته في الخروج عن مذهبها أو سلطانها الكنائسي، وكان معظم أساقفة إسبانيا ممن تثقَّف وتشرَّب حبها وحب أسقفها الأكبر، فأنكروا رغبة والدك، وما زالوا حتى حقَّقوا أغراضهم التي أتحاشى التصريح بها؛ لأنها تؤلمني كما تؤلمك، ونصَّبوا رودريك هذا وهو روماني الغرض وإنِ ادَّعى أنه قوطي الأصل، ففعلوا ذلك إفسادًا لِمَا كان والدك قد أسَّسه.»