سرٌّ جديد
فلمَّا سمع ألفونس ذلك عاد إليه اليأس؛ لأنه لا يجد المال في يديه ولا يدي عمه ولا سائر أهله، واستغرب اغتراره برأي عمه الأول وتخيُّله وصوله إلى الغرض المقصود مع أن مسألة المال لم تكن لتخفى عليه، وقد كان منذ هُنيهة يشكو إلى عمه خروجَهُ بعد موت أبيه صفر اليدين. على أنه إنما اغترَّ بذلك لشدة اعتقاده بسداد رأي أوباس، وقد نشأ هذا الاعتقاد فيه منذ طفولته الأولى لأنه ما برح منذ أخذ يدب على الأرض يرى عمه يأتي إلى أبيه بلباس الكهنة، والكل يحترمون رأيه ويهابونه، فشبَّ على استسلامه له، فإذا قال أوباس قولًا سلَّم هو به واعتقد صوابه بلا رويَّة ولا تبصُّر، كذلك كان شأنه معه فيما دار بينهما في ذلك اليوم. فلمَّا سمع ألفونس ذِكر المال تحقَّق أنهما يتداولان عبثًا، فبدا أثر القنوط على وجهه، وظلَّ ساكتًا، وفي سكوته ما يُغني عن الجواب.
أما أوباس فلمَّا رأى أن ابن أخيه قد أُسقط في يده وكاد أن ييأس، ابتسم ابتسامةً أخرى وقال: «هل يئِستَ يا ألفونس؟ ما أسرع ما ترجو وما أسرع ما تقنط! لا تيأس يا بني إني لا أدعُ ثقتك العمياء في عمك تذهب هباء، إني لم أقضِ هذين العامين نائمًا. نعم، إني أخاطبك على سبيل المداولة ولكنني — في الحقيقة — أعرض عليك مشروعًا رتَّبته وسبرت أغواره ودبَّرت كل شئونه، ولولا ذلك لم أرضَ بالخوض فيه معك.» قال ذلك ونهض؛ فنهض ألفونس معه وهو لا يدري معنى ذلك النهوض، ولكنَّه أصبح شديد الميل إلى استطلاع تتمة المشروع، وأصبح فكره مضطربًا قلقًا يريد أن يرى ما دبَّره عمه من الوسائل للحصول على المال. على أنه لم يجسر على سؤاله فظلَّ صامتًا في انتظار الجواب. أما أوباس فإنه تناول قلنسوته فوضعها على رأسه فظنَّه ألفونس يهمُّ بالخروج، ثم ما لَبِث أن سمعه ينادي: «يعقوب.» وما عتم أن رأى يعقوب داخلًا يهرول ولحيته وأنفه يسبقانه حتى وقف بين يدي أوباس، وفي وجهه ابتسامةٌ تدلُّ على ما في نفسه من الاطمئنان. فلمَّا دخل جلس أوباس وأشار إلى ألفونس أن يجلس ففعل، ثم قال ليعقوب: «اجلس.» فأظهر يعقوب البغتة وقال: «حاشا — يا مولاي — أن أجلس بين يديك أو يدي سيدي (وأشار إلى ألفونس)، وإنَّما يكفيني أن تأذن لي بالوقوف.»
فضحك أوباس، ويندر أن يضحك لغير يعقوب، ومدَّ يده إليه حتى أمسك بإحدى شعبتَيْ لحيته وشدَّه بلطفٍ حتى أقعده على طنفسة في أرض الغرفة، ثم تظاهر بالإجفال وأرجع يده ومسح أطراف أنامله بمنديله وهو يقول: «متى تغسل هذه اللحية يا يعقوب؟ أما آن لك أن تغتسل؟»
فلما سمع يعقوب ذلك السؤال تبدَّلت سحنته بغتةً وذهبت عنها ملامح المجون وبدا الجدُّ في عينيه وقال: «سيادتكم أعلم مني، ولكنني أرجو أن يكون ذلك قريبًا.»
فلم يفهم ألفونس معنى هذا الجواب، ولا سيما بعد أن رأى ذلك التغيُّر في وجه يعقوب، ولكنَّه صبر ليرى ما يبدو منه فسمع عمه يقول: «وأنا أرجو ذلك أيضًا، ولكنَّ غَسْل لحيتك يا صاح يكلِّف نفقاتٍ طائلةً، فهل تدفعها؟»
قال: «نعم، إني لا أدَّخر مالًا ولا ولدًا ولا نفسًا في سبيل غَسْلها كما تعلم.»
فلم يزد الأمر لدى ألفونس إلا غموضًا وإبهامًا، ولم يفهم لاستدعاء ذلك الخادم معنًى، ولا لتلك الألغاز مغزًى، وشقَّ عليه أن يتحول موضوع المداولة من الجدِّ إلى الهزل، وهو لا يعرف أن عمه يميل إلى المزاح إلا قليلًا، وأكثر ما يفعل ذلك مع يعقوب. فحمل كلامهما محمل المزاح، وظلَّ ساكتًا يتوقَّع العودة إلى الموضوع الأصلي.
أما أوباس فقال: «إني أعلم ذلك يا يعقوب، وقد آن لي أن أسعى في غسل لحيتك، فهل أنت واثقٌ من المال مهما كَبُر مقداره؟»
قال: «نعم يا سيدي، وأنت تعلم ذلك …»
فقال أوباس: «قد كنت أعلمه، ولكن هل حدث تغيير أو تبديل؟»
فقال يعقوب: «كلا يا مولاي، نحن على ما نحن عليه.»
فأطرق أوباس مدةً طويلةً لا يتكلم واستغرق في الأفكار، كأنه يحل معضلة ويفكِّر في أمرٍ طرق ذهنه في تلك الساعة، ثم وقف فوقف يعقوب وألفونس فقال للأول: «أحب أن أراك الليلة في منزلي.»
فأشار بيديه وعينيه وشفتيه أنْ: «سمعًا وطاعةً.» وخرج وأغلق الباب وراءه.