فلورندا
وكان في جملة قصور الملك رودريك قصر في شرقي المدينة على أَكَمَة تُشرف على ضفاف النهر. ويحدق بالقصر صنوف الأشجار والرياحين والأزهار على مرتفعات تتخلَّلها مجاري الماء على غير نظام؛ مما يزيدها جمالًا. ومساحة تلك الحدائق واسعة يحيط بها كلها، إلا من جهة النهر، سور حوله الحراس في منازل بنوها لهم بجانب أبواب البستان.
وكان بجانب قصر الملك قصر صغير متصل به يؤدي إلى القصر من جهة، وله باب مستقل يؤدي إلى البستان من جهة أخرى. ناهيك بقصور متفرقة في جوانب ذلك البستان، بعضها للحاشية وبعضها للأمراء، وفي جملتها قصر كبير كان يقيم فيه أولاد الدوقات والكونتات حُكَّام الولايات، جريًا على العادة المتبعة عند ملوك القوط في ذلك الزمان؛ فقد كان من عاداتهم أن يجتمع في بلاطهم في طُلَيْطلة أبناء ولاتهم المشار إليهم وبناتهم، يقيمون هناك ويُربَّون في البلاط الملكي معًا، يتعارفون ويتعاشرون فيشبون على ما يرضاه الملك ويتأدبون في خدمته ثم يتزوجون.
ففي صباح الخامس والعشرين من ديسمبر عام ٧١١ للميلاد، كان أهل طُلَيْطلة مشتغلين بالاحتفال بعيد الميلاد، والناس يتقاطرون إلى الكنائس والأديرة وهم يهنِّئون بعضهم بعضًا، وأكثر الكنائس ازدحامًا في ذلك اليوم الكنيسة الكبرى؛ لأن أكبر أساقفة طُلَيْطلة يصلي فيها، ويحضُر القداس الملك رودريك بنفسه ومعه حاشيته وكبار رجال دولته؛ فغَصَّت تلك الكنيسة على سعتها وامتلأ فناؤها وما حواليه من الشوارع والسطوح بالناس على اختلاف الأجناس والأعمار، تطلُّعًا إلى رؤية الملك ومشاهدة موكبه الحافل. ومما زاد الناس شوقًا إلى رؤيته أنه كان لا يزال قريب العهد بالمُلْك وقلَّما رآه أهل طُلَيْطلة، فكيف بأهل البلاد المجاورة؟! فاغتنموا فرصة ذلك العيد وهُرِعوا لمشاهدة الرجل الذي اختلس المُلْك من غيطشة مَلِكهم السابق.
ولم تبقَ امرأة لم تخرج من بيتها، إذا لم يكن لسماع الصلاة فلمشاهدة موكب الملك رودريك إلا فتاة من أهل البلاط الملكي اغتنمت فرصة انشغال الملك ورعيته بذلك العيد لتخلو إلى نفسها وتفكر في أمرها. وكانت من جملة بنات الكونتات حكام الولايات، تقيم في القصر الذي يجمعهم جميعًا بجوار قصر الملك، فنقلها الملك منذ بضعة أيام إلى القصر الصغير المتصل بقصره، وهو إكرامٌ حَسَدَها عليه كل رفاقها ورفيقاتها، ولكنه كان سببًا كبيرًا في تعاستها وانشغال بالها.
فلمَّا خرج الملك ورجال دولته وسائر أهل البلاط للاحتفال بالعيد، اعتذرت هي بانحراف صحتها. وكان ذلك اليوم صحوًا زاهيًا يندُر مثلُهُ في فصل الشتاء، وقد أطلَّت الشمس من وراء الآكام، وأرسلت أشعتها على نهر التاج وما على ضفافه من الحدائق، وفي جملتها حديقة قصر الملك، فبخَّرت ما كان على الأوراق والأزهار من الطَّل. ومثل هذا اليوم يحلو للناس الخروج فيه من المنازل إلى البساتين لاستقبال أشعة الشمس والتمتُّع بمناظر الطبيعة.
فانتهزت الفتاة فرصة غياب الملك وحاشيته ونزلت من القصر، وتمشَّت في طُرق تلك الحديقة وقد تدثَّرت فوق ثيابها برداء من الحرير الأحمر مبطَّن بالفرو اتقاءً للبرد. وقد غطَّى الرداء كتفيها ومعظم جسمها إلا ذيل ثوبها الأرجواني المزركش بالقصب، فإنه ظل يتلألأ في أشعة الشمس ويجر من ورائها جرًّا خفيفًا. وأما رأسها فقد كان مكشوفًا وعليه شبكة من الحرير الأبيض تضم شعرها الذهبي ضمَّة واحدة، وترسله إلى ظهرها مستعرضًا كأنها خارجة من الحمَّام، وتلك عادة الرومان في لباس الشَّعر اقتبسها عنهم القوط في تلك العصور. وكان ذلك الشعر الذهبي يتلألأ من خلال تلك الشبكة، وخاصة إذا وقعت عليها أشعة الشمس في أثناء مرور الفتاة بين الأشجار، على أنَّ تسربُلها بذلك الرداء لم يُخفِ جمال قامتها ورشاقة مشيتها. وأما وجهها فقد كان ممتلئًا، ناصع البياض مشربًا بحمرة يكاد يشِفُّ عمَّا تحته، وقد زاده الانحراف والذبول هيبةً وجمالًا، وزاد العينين الزرقاوين حِدَّةً ومَضَاءً. ولم تكن عيناها زرقاوين تمامًا، بل كان فيهما مع الزرقة شيءٌ لا يُعبَّر عنه بغير السحر. ولها فم مع صغره لا يبدو إلا مبتسمًا ابتسام الوقار والحشمة.
سارت الفتاة في الحديقة ومعظم أشجارها عارٍ من الورق، وأكثر رياحينها خالية من الأزهار كأنها تشارك فتاتَنا الذبول والانكسار، إلا الأرض فقد كانت كأنها بساط من العشب الأخضر، مرصَّعة ببعض الأزهار التي تتفتَّح في الشتاء، فمشت الفتاة وهي لا تبالي بما قد يعترض طريقها من الأغصان المدلاة، فربما لطم كتفها غصن ولطم صدرها آخر ورأسها ثالث. وبين يديها امرأة عجوز تحوم حولها وترعى حركاتها وتزيل العقبات من سبيلها. ولم تكن العجوز أقل منها قلقًا، ولكن الزمان حنَّكها ومرور الحدثان علَّمها أن الدنيا لا تدوم على حال.
وكانت الفتاة تمشي وتلتفت نحو القصر، ثم ترسل نظرها من خلال الأشجار إلى ما يطلُّ عليه ذلك البستان من الحدائق البعيدة، وفوقها جبال شامخة يعلو بعضَ قِمَمِها ثلجٌ تنعكس عنه الأشعة كأنها جبال من الفضة. والفتاة تارةً تنزل في وادٍ وطورًا تصعد على تل، والعجوز تقطف لها زهرة من هنا وثمرة من هناك، فتتناول الفتاة الزهور والثمار ولا تتكلم، كأنما قد حُكِم عليها بالصمت وأصبح الكلام عليها ذنبًا.
وبعد أن سارت برهة انتهت إلى أكمة منبسطة تُطِل على النهر يكسوها عشب قصير كأنه بساط من الديباج، وقد تطاير عنه الندى بوقوع الأشعة عليه، فراق لفتاتنا الجلوس عليه والتعرض لأشعة الشمس التماسًا للدفء وللتَّمتُّع بمنظر السماء الأزرق الصافي، فالتفتت إلى العجوز وقالت بصوتٍ مختنقٍ لطول السكوت: «ما قولك يا خالة؟ ألا نجلس على هذه الأكمة نتمتع بهذا الطقس الجميل؟»
فهُرِعت العجوز وهي تُصلِح نقابًا كانت قد لفَّت به رأسها وأُذُنَيْها تجنُّبًا للبرد وقالت: «اجلسي حيثما تشائين يا حبيبتي!» ثم أسرعت إلى كرسي من خشب كان في إحدى طرق الحديقة وجاءتها به، فأَبَتِ الجلوس عليه وقالت: «أُفضِّل هذا العشب؛ فإن الجلوس عليه حَسنٌ في هذا اليوم.» فجلست، وجلست العجوز بين يديها وهي لا تزال ترقُب حركاتها، وقلبها يحوم حولها، وقد سرَّها ارتياحها إلى مناظر الطبيعة، فجعلت تُرغِّبها في إمتاع نظرها بما تشرفان عليه من مجرى النهر وما وراءه من التلال التي تكسوها غابات الصنوبر والزيتون والسنديان، ويتخلل الغابات بيوت متفرقة هنا وهناك. وكأن الناظر إلى تلك البقعة ينظر إلى لوحة فنية مُكبَّرة، فقالت العجوز: «تأمَّلي يا فلورندا في هذه المناظر الجميلة فينشرح صدرك، ودعي عنك الأوهام.»
وكانت تلك التعزية سببًا في إثارة شجون فلورندا، فقالت: «لقد ذكَّرتِني يا خالة بأمرٍ أحاول أن أنساه، كيف ينشرح صدري وأنا أعاني كما تعلمين من الاضطراب والقلق، وقد زادني انشغالًا انتقالي إلى هذا القصر؟!»
فقالت العجوز: «وماذا يخيفك من ذلك الانتقال، وقد أصبحت أقرب إلى قصر الملك وأعز جانبًا؟»
فقالت فلورندا وهي تتطلَّع إلى أبعد ما يقع عليه بصرُها من مجرى النهر وكأنها ترى قاربًا بعيدًا: «إن ذلك الانتقال هو الذي أخافني، ويا ليته نقلني إلى أطراف المدينة! بل يا ليته أرجعني إلى والدي!» قالت ذلك وشرقت بدموعها، فانصرفت عن النظر إلى ذلك القارب بما جال في خاطرها من أمر والدها وبُعْدها عنه ووقوعها في ذلك الخطر.