كتابٌ آخر
وكانت الشمس قد تجاوزت الأصيل فأخذ ألفونس يتأهَّب للخروج مع عمِّه إلى منزله للتشاوُر هناك فيما يفعلونه، ومع شدة ما أصاب ألفونس من البغتة فإنه ظلَّ مستغربًا ما سمعه عن يعقوب من الأسرار الخفية، وكان الطقس قد تبدَّل فغامت السماء واشتدَّ البرد؛ فلبس ألفونس قباءً من الفرو السميك والتفَّ عمُّه بردائه الأكليريكي وكان البرد قلَّما يؤثِّر فيه. وفيما هما يتأهَّبان للخروج وكلٌّ منهما يفكر في أمرٍ على حدة، فُتِح الباب بغتةً ودخل يعقوب وفي يده أسطوانة من جلد بلون القرمز، فعلم أوباس أنَّ فيها كتابًا من رودريك. وكانت كُتُبه إلى عمَّاله وأمرائه تُكتب على الجلد وتُلف وتوضع في أسطوانة من جلد العجول مدبوغ بلون القرمز، فلمَّا وقع نظر ألفونس على تلك الأسطوانة تقدَّم لاستلامها، فاعترضه عمه وتناولها وقال ليعقوب: «من جاء بها؟»
قال يعقوب: «جاء بها شرذمة من فرسان الملك، وقد سألني رئيسهم عن سيدي ألفونس هل هو هنا، فأردت استمهاله لأعود إليه بالجواب، فابتدرني قائلًا: أخبرني حالًا فإني مأمور بتسليم هذا الكتاب إليه على جناح السرعة حيثما كان، فقلت: هو هنا. فدفع إليَّ الكتاب وقال إنه ينتظر.»
من رودريك ملك القوط
إلى الشجاع الباسل عزيزنا ألفونس: سلام. وبعدُ فقد بلغنا أيها العزيز أن بعض العبيد والمَوالي في كونتيَّة … قد تمردوا وتضامنوا على مقاومة حكومتنا هناك، فإذا جاءك كتابي هذا فأسرع إلى مقر جنودنا في طُلَيْطلة، فإن فرقةً من الجند في انتظارك لتذهب تحت قيادتك إلى تلك المدينة لإخماد الثورة، ولا بد من العجلة، ويدلك على استعجالنا أننا كتبنا هذا الأمر في يوم العيد الذي لا يجوز العمل فيه، فإن كنت واقفًا فلا تجلس، وإن كنت ماشيًا فلا تقف قبل إنفاذ أمرنا هذا، والسلام.
وما جاء ألفونس على آخر الكتاب حتى اسودَّت الدنيا في عينيه وصاح لشدة هياجه: «لا أذهب إلى مكان، لا أذهب.»
فالتفت أوباس إليه لفتة الاستصغار، وقال له: «كيف لا تذهب؟ وهل تستطيع ذلك؟ ألا ترى أنه كتب إليك هذا الكتاب وفيه ما فيه من الملاطفة، فإذا عصيت أمره سبَّبت لنفسك البلاء.»
قال ألفونس: «وأيُّ بلاء أسببه لنفسي؟»
فقال أوباس: «إذا تخلَّفت عن المسير اتَّهمك بالعصيان وأمر بالقبض عليك، فهل عندك من الرجال ما تدفع به قوة الحكومة الآن؟ وعندئذٍ تكون النتيجة إيقاع الأذى بك وبنا جميعًا؛ لأن المجمع المقدس يجد مسوِّغًا لذلك بعصيانك. فالحكمة تقضي علينا باللين والمسايرة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا …»
ولم يكن ألفونس يجهل ذلك، ولكنَّ غضبه لفلورندا ولخروجه من طُلَيْطلة وهي في ذلك الضنك أغلق ذهنه، فلمَّا سمع كلام عمه قال له: «ولكن ما العمل؟ كيف أجتمع بفلورندا؟»
فقال: «اترك أمرها إليَّ، فإني أتولَّى إنقاذها الليلة وأخفيها في مكان ثم أكتب إليك حيثما تكون، وسنرى ما تأتي به الأقدار. ولا تجزع، بل أبشر بما ترجوه من وراء سفرك هذا من تمهيد السبيل لمشروعنا، وتوكل على الله، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.»
فالتفت ألفونس إلى يعقوب وقال له: «قل لحامل الرسالة إنني ذاهب بعد قليل …»
فقال: «قلت لك يا مولاي إنهم كوكبة من الفرسان، وقد علمت أنهم مكلفون ألَّا يعودوا إلا بك.»
فقطع أوباس كلام يعقوب وقال لألفونس: «اذهب يا بني، اذهب الآن وسأتولَّى أنا كل شيء في غيابك، ولكن أنصح لك أن تصطحب يعقوب وتعتمد عليه، وسوف يطلعك على أمور تهمك.»
فقال يعقوب: «سمعًا وطاعة.» وأسرع إلى ثيابه فلبس منها ما يصلح للسفر، وكذلك فعل ألفونس، وخرجا وألفونس يتجلَّد وقد ألقى كل حمله على عمِّه.