عود إلى القصر
فَلْندعْ ألفونس يتأهَّب للسفر وَلْنعُدْ إلى قصر رودريك، إلى حيث تركنا فلورندا في غرفتها تفكِّر في أمرها بعد أن فرغت من الصلاة وألقت حملها على الله، وكان رودريك قد خرج من عندها وهو يضمر لها الشرَّ العاجل. وكان أول ما عمل أنه لَقِي الأب مرتين في غرفته يتلو بعض الصلوات، وكان مرتين قد شعر بذهاب الملك إلى قصر فلورندا، وتحقَّق أنه لن يعود من هناك إلا وهو على نيَّة التخلُّص من ألفونس أو إبعاده. فلما لقيه عائدًا آنسَ الغضبَ والانفعالَ في عينيه وجبينه، حتى لقد يعجب من يراه لصبره عن قتل تلك الفتاة، وهو إذا غضب لا يبالي أن يقتل المئات، ولكن الحب، الحب يخفِّف الغضب ويُلجِم القلب والعقل، الحب يُذلُّ الأسُود ويأسر الجبابرة، وهو الذي يبعث على الشفقة والعطف، فإذا رأيت رجلًا في خُلُقه جفاء وخشونة فاعلم أن الحب لم يستولِ على قلبه بعد. نعم، إن حبَّ رودريك لم يكن خالصًا من شوائب المنكر، ولكن ذلك لا يمنع تأثيره على القلب؛ لأن سبب الحب واحد، ولكنه يظهر في الناس مختلفًا باختلاف أخلاقهم وأحوالهم. ولا يبعد أن يكون رودريك قد همَّ بقتل فلورندا وهي تعنِّفه وتقاومه، ولكنَّه أمسك طمعًا في استرضائها واستبقائها؛ فتحمَّل من آثار الكظم ما ظهرت علاماته في وجهه حتى خُيِّل لمرتين — حينما رآه — أنه في أشد حالات الغضب، فاستقبله ضاحكًا، فتجلَّد رودريك وحيَّاه وهو يحاول عبثًا إخفاء انفعاله، فلم يرَ خيرًا من أن يشاغل الأب بالحديث، فقال له وهو يُظهِر الاستخفاف: «يظهر أن لذلك الغلام مأربًا في بعض أهل القصر.»
فأجاب الشيخ وهو يتلجلج: «كأني بالملك لم يفهم إشارتي إلى ذلك في هذا الصباح.»
فقال رودريك: «بلى فهمت، ولكني …» وسكت.
فأدرك القس أنه يضمر شيئًا فظل ساكتًا وهو ينقر بسبَّابته على شفته الغائرة، وعيناه تنظران إلى الملك كأنه يتوقع تتمة حديثه. أما رودريك فلم يرَ بأسًا من إطلاع مرتين على قصده، ولا عجب فهو مستودع أسراره، إلا سر حبه فلورندا فإنه كان يكتمه حياءً من الناس وخوفًا من زوجته. ثم هو يعلم مقدار سيطرة القسس على النساء، فخاف أن يقع حبه لدى القس موقع الاستهجان فيُطْلع الملكة على ذلك فتقف في سبيله. على أنه أراد إطلاع مرتين على ما بقي من عزمه فقال: «أرى أن أسعى في إبعاد هذا الشاب عن هذه المدينة بالحسنى فنشغله عن القصر وأهله.»
فطأطأ الشيخ رأسه استصوابًا كأنه رأى الجواب في تلك الإشارة أهونَ عليه من الكلام، ثم قال: «وإذا أبعدته فقد ننتفع بخدمته ونتخلَّص منه. ولكن الحيَّة لا تموت إذا ظلَّ رأسها سالمًا.»
فعلم رودريك أنه يشير إلى أوباس ويود إبعاده، فقال: «إن إبقاء رأس الحيَّة بين أيدينا أسلم عاقبة لنا، ولا سيما إذا كان الذَّنَب بعيدًا» ففهم مرتين إشارته وسكت.
فنهض الملك للحال وكتب ذلك الكتاب، وبعث به إلى ألفونس كما تقدَّم وصبر حتى أنبئُوه بنفاذ أمره، وأنَّ ألفونس جاء إلى المعسكر وتهيَّأ للسفر. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وأقبل الظلام وكأن إقباله زاد الملك تعاميًا عن فظاعة ما نواه ولم يعُد يستطيع صبرًا إلى اليوم التالي، فتناول طعام المساء مع زوجته وأكثر من تعاطي الخمر على تلك المائدة ليداري ما ثار في نفسه من النيران الشيطانية.
نهض رودريك عن المائدة وقد امتلأ جوفه، ودارت الخمر في رأسه، وتحوَّل توًّا إلى غرفته، والقس لا يزال على المائدة مع زوجته. وعندما دخل رودريك الغرفة أغلق الباب وراءه، وفتح الباب الآخر وسار في الدهليز نحو غرفة فلورندا.
أما فلورندا فكانت بعد إعمال الفكرة قد كتبت ذلك الكتاب إلى ألفونس ودفعته إلى العجوز، فأرسلته مع خادم تعتقد في إخلاصه، وعادت ولبثت تنتظر الجواب، فشغلها الانتظار عن كل تفكير، فقضت في الانتظار ساعة ظنَّتها شهرًا أو سنة، فكانت تارةً تطلُّ من الباب، وأخرى من النافذة المشرفة على النهر، وآونة تدعو خالتها وتستفتيها في سبب التأخير، وهي تُهوِّن عليها، حتى عاد الرسول بذلك الجواب فخفق قلبها سرورًا، وأوَّل شيء فعلته أنها قبَّلت الأيقونة وشكرتها على إجابة صلواتها، وأخذت تجمع ما خفَّ حمله من الحُليِّ ونحوها والعجوز تساعدها حتى غابت الشمس. وعند ذلك تركت فلورندا كل شيء وتحوَّلت إلى النافذة وجلست إليها، وأرسلت بصرها إلى مجرى النهر تنتظر ظهور النور المثلث مع علمها أن الموعد المحدد لا يزال بعيدًا، ولكنَّ القلق أوهمها أنه قريب. وكان الطقس قد برد وتلبَّدت الغيوم فأغبرت السماء وعصفت الرياح وأومض البرق وقصف الرعد، ولم يمضِ قليل حتى تساقطت الأمطار، ولكنَّ ذلك كله لم يشغلها عن التفرُّس في النهر وركبتاها ترتعدان أملًا وفرحًا. وكانت كلما لاح برق ظنَّته مشعال حبيبها، وقد تنفرج الغيوم فيقع بعض ظل الكواكب في مجرى النهر فتحسبها نورًا مثلثًا، وربما كانت عشرين كوكبًا فتظن تعدُّدَها ناتجًا عن تكسُّر سطح النهر بالأمواج، أو تتوهم أن السبب في ذلك هو اعتراض بعض أغصان الحديقة بينها وبين النهر، وبخاصة الأغصان الضخمة القائمة تجاه النافذة.