تجربة أخرى
وفيما هي تعلِّل نفسها بقُرب الفرج، وقد وجَّهت كل حواسها وعواطفها إلى ما هو خارج تلك النافذة نحو النهر، انتبهت بغتةً فسمعت وَقْع أقدام رودريك في الدهليز، فخارت قواها وتسارعت ضربات قلبها حتى كاد يُغشى عليها، وأحسَّت على الفور بما يحدق بها وكانت في غفلة عنه، فجلست على البساط وجعلت تتضرع إلى الله أن يساعدها وينقذها هذه المرة، ولم تجد إلا خالتها فقالت لها: «أليست هذه هي خطوات الملك؟» ولم تتمَّ كلامها حتى خرجت العجوز ثم عادت وهي تقول: «الملك يدعوك إلى تلك الغرفة.»
فصاحت فلورندا: «ويلاه! ما هذا المصاب؟ يا إلهي.» ولطمت وجهها وأخذت في البكاء.
فتقدمت العجوز إليها وجعلت تخفِّف عنها وهي لا تدري بماذا تعزِّيها هذه المرة، على أنها لم ترَ خيرًا من الرجوع إلى العزاء الأكبر — وهو الدين — فقالت: «توكلي على الله، فهو الذي أنقذك في المرة الماضية وسوف ينقذك الآن، وما ذلك على الله بعسير.»
وكانت فلورندا من أهل الإيمان الوطيد، فتضرعت إلى الله أن يعينها هذه المرة أيضًا، والتفتت إلى خالتها وقالت لها: «أتوسَّل إليك يا خالة أن تصلي من أجلي وتطلبي إلى الله أن ينقذني من هذه التجربة.»
فقالت: «سأظل هنا جاثية أمام هذه الأيقونة إلى حين رجوعك؛ لأني لو صَحِبْتك ما نفعتك، ولا يساعدنا على هذا العدو غير الله وحده.»
فاطمأنَّ بال فلورندا لهذه العبارة، ومشت كالشاة وهي تُساق إلى الذبح. مشت وهي تقدِّم قدمًا وتؤخِّر أخرى حتى دخلت تلك الغرفة، وكان رودريك جالسًا في صدرها جلوس من لا يهمه النهوض، ورأت في وجهه من دلائل الغضب ما لم ترَهُ في المرة الماضية، وقد احمرَّت عيناه واربدَّ وجهه من أثر الخمر، وتتابعت أنفاسه واشتدت حتى أصبح شخيرًا؛ فظنَّت فلورندا لأول وَهْلة أنها ترى هذه الملامح في وجهه بسبب نور المصباح وهو ضئيل، ولكن حين وقعت عيناها عليه أسرع قلبها بالخفقان، ولكنَّها استعانت بالله وتجلَّدت وتقدَّمت حتى وقفت على بضعة أذرع منه وأطرقت. وكانت قد ضفرت شعرها ومشَّطته وغيرت ثوبها تأهُّبًا للسفر؛ فرأى رودريك فيها ما زاد شغفه بها، وتضاعف ذلك الشغف حين نبَّه الخمر غرائزه، فخاطبها وهو لا يزال جالسًا وقد مدَّ ساقيه وبسط ذراعيه على الوسائد في الجانبين، فقال: «هل حدَّثتك نفسك بشيء جديد؟»
فظلت ساكتة، ولكنها بالغت في الإطراق.
فأعاد السؤال وقد توكَّأ على ركبتيه كأنه يتحفز للنهوض فقال: «أجيبي يا فلورندا … يظهر أنك أدركت السعادة التي أدعوكِ إليها، وبخاصة إذا علمت أني أنقذتك من يدي ذلك الغلام الذي كان يغريك على حبِّه وهو لا يحبك ولا يستحق قلبك.»
فلما سمعت ذلك خافت أن يكون قد دبَّر شرًّا لألفونس، فرفعت بصرها إليه وتفرَّست فيه كأنها تستكشف مبلغ ظنِّها، ولكنها ردَّت بصرها عنه لأنها توسَّمت في عينيه معنًى ارتعدت له فرائصها. رأت شيئًا لو سُئلت عنه ما استطاعت أن تسمِّيَه بغير «الشر»، ولكنها عادت إلى الإطراق وفي خاطرها أن تسمع منه ما يُظهر الحقيقة، فإذا هو قد وقف بسرعةٍ وتقدَّم نحوها، وقال وهو يلاعب شاربه بين الإبهام والسبابة ثم يسرِّح لحيته بأصابعه: «لماذا لا تجيبينني كأنك تخجلين من الندم بين يدي الملك. لقد سامحتك على ما مضى.» قال ذلك ويمناه مرفوعة كأنه يهمُّ أن يُلقِيَها على كتفها تحبُّبًا.
أمَّا فلورندا فلمَّا رأته يدنو منها تقهقرت ورفعت ذراعيها تتحاماه، ونفرت منه كأنه ذئب كاسر يهم بافتراسها؛ فتراجع رودريك وأظهر الاستغراب وهو يقول: «ما بالك تنفرين كأنك تخافين الأذى، وأنا إنَّما أتقرَّب إليك وأبغي رضاكِ؟!»
وكانت فلورندا لا تزال في ريب من أمر ألفونس، فأرادت أن تتحقَّق من ظنها. وكانت الأمطار قد اشتد تساقطها، واختلطت أصواتها بأصوات المياه المنحدرة من الميازيب وهبوب العواصف وقصف الرعد، وفلورندا في غفلة عن كل ذلك لشدة ما قام في نفسها من الخوف، على أنها لما أرادت أن تخاطبه تنبَّهت، فوجدت كل ذلك يحول بين صوتها المنخفض وأُذن رودريك، فقالت بصوت عالٍ لكنه مرتعش: «قد قلت لمولاي الملك إن هذا الموقف ليس موقفي، وإن الله قد جعل نصيبي سواه …»
فقال لها: «كأنَّك لم تفهمي كلامي، قلت لكِ إن الغلام الذي تقولين عنه إنه نصيبك قد مضى ولا سبيل إليه …»
فلَّما سمعت قوله توهَّمت أنه قتله، فصاحت في ذُعر وهي ترتعش وقد أحست كأن شخصًا صبَّ ماءً يغلي على جسمها: «ماذا تقول؟ ماذا فعلت بألفونس؟ ماذا؟ ماذا؟ هل قتلته؟»