الاستنجاد
فلمَّا رأى رودريك ما أصابها خاف أن يقضي عليها بغتةً وهو يريد استبقاءها لنفسه ولو ساعة، فقال: «ما هذه البغتة يا فلورندا؟ ماذا فعلتُ بألفونس؟ لا، لم أقتله ولكنه بين يدي وحياته طوع إرادتي إذا شئتُ قتلته بكلمة واحدة وأنا لا أخطو لذلك إلا خطوة واحدة. يظهر أنك لا تزالين تجهلين من هو الذي يخاطبك ومن هو ذاك الذي تقولين إنه نصيبك. نعم، إني لم أقتله، بل اكتفيت بإبعاده، ولكن إذا بقيتِ على إصرارك فإني أقتله، وإذا ظللت على غَيِّك بعد قتله أقتلك أنتِ أيضًا، وأنا الآن لا أسترضيك ولا أستعطفك بعد ما رأيته من وقاحتك، واعلمي أن هذه الساعة هي الحد الفاصل بين تمنُّعك وبين ما أريد.» قال ذلك بصوتٍ عالٍ ومشى مسرعًا إلى باب الغرفة وأغلقه ثم رجع وهو يقول: «فاختاري إذن الباب الذي تريدينه واخرجي منه.» ثم ألقى بنفسه على المقعد وهو يلهث من الغضب كأنَّه ثور يخور، وقد زادت عيناه احمرارًا وأوداجه انتفاخًا.
أما فلورندا فلما سمعت تصريحه بالمنكر، وثبت لديها قرب الخطر، التفتت إلى ما حولها كأنها تفتِّش عن ضائع أو تستنجد برفيق. فعلت ذلك وهي لا تعلم لماذا فعلتْهُ، وهمَّت بالجواب، فقطع رودريك كلامها قائلًا: «عمَّن تبحثين؟ إننا في غرفة ليس معنا ثالث، وليس على وجه الأرض من يستطيع أن يحول بيني وبين ما أريد، فأقبلي طائعةً، فإنه أحفظ لحياتك وأدعى إلى سعادتك.»
وكانت فلورندا حين سمعت قوله: «وليس معنا ثالث» قد تذكرت ما كانت تقرؤه وتسمعه من آيات الكتاب المقدس، وأن من يتوكل على الله لا يفشل، وأن الله موجود في كل مكان. وقد تقدَّم أن فلورندا كانت من أقوى الناس إيمانًا، فأحسَّت للحال باطمئنان وكأنها محاطة بزمرة من الملائكة يحرسونها، وتشجَّعت ونظرت إلى رودريك وهي تتفرَّس فيه، وقالت: «تزعم أننا منفردان وأن الجو خالٍ لك، وقد فاتك أن الله موجود في كل مكان، لا يدع لأحدٍ سلطانًا يغلب سلطانه، ثم إني سمعتك تهددني بالقتل، فاقتل، ثم اقتل. اقتلني فإني لا أبالي بحياتي، ولكن أتوسل إليك ألَّا تمسَّ ألفونس بسوء. آه يا ألفونس!» قالت ذلك وقد خنقتها العبرات، وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فلما سمعها رودريك تبكي لم يزدد إلا حنقًا، وبخاصة بعد أن سمع ذكر ألفونس. على أنه لما رأى توبيخها وثباتها مع شدة تعلُّقها بحبيبها ورغبتها في بقائه، تراءى له أن يعرض عليها استبقاءه فقال: «إذا كانت حياة ألفونس تهمك بهذا المقدار، فإني إكرامًا لعينيك أُبقيه وأرقيِّه وأجعله من أسعد أهل طُلَيْطلة، ولا يكلِّفك ذلك إلا أن تقلعي عن عنادك.»
فابتسمت استخفافًا بذلك الرأي، وقالت: «إن الأمر الذي يرضيك مني أن أبذله إنما هو أثمن ما لديَّ في هذا العالم، أثمن من حياتي، بل أثمن من ألفونس، من ألفونس نفسه؛ لأني بدون ذلك الإكليل المجيد، بدون تلك الجوهرة الثمينة، لا أستحق نظرةً من ألفونس ولا من سواه، بل أنا لا أساوي شيئًا، وهل تظنني — لولا ذلك — أستطيع مخاطبة الملك بهذه الجرأة؟»
فرأى رودريك أنها تطيل الجدال، وهو لا يجد ما يدفع به حجتها، ولا هو يريد الاقتناع بقولها؛ لأن ميوله البهيمية غلبت على عقله وإرادته، وقد يكون — وهو يجادلها ويراودها — مقتنعًا بأنه يلتمس أمرًا منكرًا، وأنها مُحِقَّة في توبيخه، ولكنه لا يملك عنان شهواته. وفي هذا الموقف الحدُّ الفاصلُ بين الفضيلة والرذيلة؛ لأن الناس يتشابهون في ميولهم الجسمانية، وفي تمييزهم بين الفضيلة والرذيلة، ولكنهم يتفاضلون بقوة الإرادة على كبح الشهوات والعمل بما يقتضيه الضمير في مثل ذلك الموقف، وأقربهم إلى الفضيلة أقواهم إرادة؛ فأهل النزاهة والعفة لا يفضُلون سواهم بالتمييز بين الخير والشر، ولا يفهمون من معنى الفضائل والرذائل أكثر مما يفهم سواهم، ولكنهم يفضُلونهم بالقدرة على ضبط عواطفهم برهة قد لا تزيد على بضع دقائق، فإذا استطاعوا ضبطها حفظوا كرامتهم طول العمر وعاشوا في راحة وسعادة، يدل على ذلك أن الذين يعجزون عن كبح شهواتهم فيستسلمون لأهوائهم لا يلبثون أن يندموا حين لا ينفع الندم.