رشُّوها بالماء
فلما شاهدها رودريك في تلك الحالة تنبَّهت فيه الحاسة البشرية لحظة، وعمد إلى تلطيف ما بها فجثها بجانبها وأمسك يدها وأنهضها يريد إجلاسها لتصحو من غيبوبتها، فإذا هي لا تزال مغمضة العينين مسترخية الأعضاء فخفق قلبه وتحرَّك ضميره، وتوهَّم أنها ماتت أو كادت تموت، فتركها وأسرع إلى الباب لعلَّه يجد ماء فيرشها به، ففتح الباب وتوجَّه إلى حجرة فلورندا، فاستقبلته العجوز وهي خارجة من الحجرة وقد بُغتت منذ سمعت فتح الباب؛ لأنها كانت لا تزال إلى تلك اللحظة جاثية تصلِّي وهي تطلب نجاة فلورندا من هذا الخطر. وكانت وهي مستغرقة في الصلاة لا تسمع شيئًا مما حولها، وقد أقفلت النافذة المطلَّة على النهر لتحجب عنها العواصف، فلم تتنبَّه لقصف الرعد وهبوب الرياح إلا كما يشعر الراقد بصوتٍ يسمعه بين اليقظة والمنام. ولكنها حين سمعت فتح الباب تنبَّهت كأنها استيقظت من نوم، وهرعت نحو الباب فاستقبلها الملك والبغتة بادية على وجهه وقال: «إليَّ بكوب من الماء، أسرعي حالًا.» قال ذلك وعاد إلى الغرفة، فتبعته العجوز بالكوب وركبتاها ترتعدان من الخوف على فلورندا. فدخل رودريك وهو يقول للعجوز: «رشيها بالماء.» فلمَّا رأت العجوز فلورندا صاحت: «فلورندا، ما الذي أصابك؟» وأسرعت فرشَّتها بالماء فأفاقت وجلست للحال وهي تنظر إلى ما حولها، فلمَّا رأت رودريك صاحت: «ويلاه! إني لا أزال حيَّة، ولا يزال هذا الشرير أمام عيني، كنت أحسب أني نجوت منه بالموت.»
أما رودريك فأغضى عن ذلك ووجَّه خطابه إلى العجوز قائلًا: «أرأيت ما الذي فعلته فلورندا بنفسها لطيشها وغرورها؟ أعرض عليها السعادة فترفضها.»
فلم تجد العجوز جوابًا غير البكاء لأنها توهَّمت أن نجاة فلورندا مستحيلة، على أنها لم تجد سبيلًا غير التزلُّف، فجثت أمام رودريك وقالت ودموعها تتساقط: «أتوسل إلى مولاي أن يرفق بهذه الفتاة المسكينة ويتركها وشأنها، فإن في قصره وتحت أمره مئات مثلها.»
فاستاء رودريك من قولها وكان يتوقع مساعدتها، فرفسها بقدمه وهو يقول: «ابعدي عني يا عجوز النحس، وأنت أيضًا؟» فخرجت العجوز وقد تذكرت الموعد الذي حدَّده لهما ألفونس، فقالت في نفسها: «لعل مع ألفونس رجالًا يصعدون إلينا فينقذونها من بين يديه بالقوة.» فهرولت إلى الحجرة وفتحت النافذة قليلًا فعصفت الريح في وجهها وبلَّها المطر، ونظرت إلى جهة النهر فلم تجد نورًا مثلثًا ولا غير مثلث، فأغلقتها وعادت إلى الصلاة.
أما رودريك فأقفل الباب وعاد إلى فلورندا وهي لا تزال جالسة على البساط في الغرفة، وقد استراحت وعادت إليها قوتها، وتصاعد الدم إلى وجهها فعاد إليه الإشراق، ولكنَّ الكآبة ظلت غالبةً على محيَّاها. فدنا رودريك منها وهو يمد يده إلى منطقته ثم أخرجها وهو قابض بها على خنجر يبرق فِرِنْدُهُ كأنه يقطر سُمًّا وبيده الأخرى شيء كالخاتم يلمع، ثم مد يده إليها وهو يقول: «لقد نفد صبري يا فلورندا فها أنا أعرض عليك السعادة لآخر مرة، فإما أن تقبليها وهذا خاتمي عربون على ذلك، وإما أن أغمد هذا الخنجر في صدرك في هذه اللحظة. أجيبي حالًا.»
فنهضت للحال وتصدَّرت له وهي تقول: «أغمده، أغمد خنجرك في صدري وأرحني من هذه الحياة، ويا حبذا الموت الذي ألقى به وجه ربي بريئة طاهرة. اقتل يا رودريك، اقتل.»
فقال لها: «أمعِني الفكر ولا تظني أني أقول ذلك لمجرد التهديد، إني فاعله حالًا، وإن تعقلت وحقَّقت رغبتي أخذتِ هذا الخاتم عربون محبتي لك، وكنتِ أسعد بنات طُلَيْطلة.»
قالت: «وأنت لا تظن أني أقول ما أقوله مزاحًا، فإني لا أرهب الموت فداء عن العفاف والطُّهر. الموت خير لي، إلا إذا رجعت إلى رشدك وندمت قبل فوات الفرصة؛ لأنك نادم على أي حال. فإذا ندمت بعد ارتكاب هذا المنكر لا ينفعك ندمك شيئًا، وإذا قتلتني فإنك تندم على قتل فتاة بريئة طاهرة لا ذنب لها إلا إصرارها على العمل بوصية الله.» ثم حوَّلت وجهها نحو السماء وقالت: «يا أيها المخلِّص المجيد، ربِّي وإلهي، ألا كشفت لهذا الرجل فظاعة ما هو مُقدِم عليه؟ أَقشِع غشاوة الجهل عن عينيه.»
فضحك رودريك وقطع كلامها قائلًا: «أظنك تتوقعين قصف الرعد ووميض البرق جوابًا على كلامك كالمرة الماضية. لسنا في عصر المعجزات.»