خطوات غريبة
وفيما هو يريد إتمام كلامه، وقد أشهر الخنجر بيمينه كأنه يهم بأن يطعنها به، سمع وَقْع أقدام غريبة في دهليز القصر، فأنصت فسمع تلك الخطوات تقترب من الغرفة وهي تسرع، فخفق قلبه واقشعرَّ بدنه، وعاد إليه الإحساس الديني الذي رُبِّي فيه؛ فخُيِّل له أن الله استجاب لدعاء فلورندا، فأرسل بعض ملائكته لإنقاذها، لأنه يعتقد أن البشر لا يستطيعون الدخول إلى قصره في تلك الساعة. وإذا دخلوه فلا يجرؤ أحد على الوصول إلى هذه الغرفة والأبواب موصدة والأوامر صارمة.
قضى رودريك وفلورندا لحظاتٍ قليلةً في حيرة، وهما واقفان وأبصارهما شاخصة نحو الباب ينتظران ما يكون، وفلورندا ترتعش تخشُّعًا وبغتة. وأما رودريك فإنه رد الخنجر إلى مكانه، ومشى إلى الباب وهو لا يزال يسمع خطوات القادم تقترب. وقبل الوصول إلى الباب سمع قارعًا يقرعه قرعًا عنيفًا ارتجَّت له جوانب القصر وارتعدت فرائص رودريك، ثم أسرع إلى فتحه. ولا تسل عن دهشته واضطرابه لمَّا رأى أوباس داخلًا وهو على ما يعرفه فيه من الهيبة والرزانة ورباطة الجأش. دخل والماء يقطر من أردانه.
أما فلورندا فتوهمت لمَّا رأته أنه ملاك يلبس ثوب أوباس وظلَّت واقفة وقد ملكت البغتة كل جوارحها حتى جف ريقها في حلقها وأمسكت أنفاسها.
أما رودريك فلم يسعْهُ عند رؤية أوباس إلا إظهار الدهشة من جرأته إلى هذا الحد، فقال له: «ما الذي جاء بك إلى هنا في هذه الساعة؟ وكيف دخلت هذا القصر بغير استئذان؟»
فأجابه أوباس وهو لا يبالي، كأنه يخاطب غلامًا: «أمَّا الذي جاء بي فهو أمر يهم المملكة سأعرضه عليكم، وأما دخولي بلا استئذان فجلالة الملك يعلم أن أمثالنا لا يستأذنون في الدخول على الملوك أو مخاطبتهم، وهم يخاطبون الله بلا استئذان.»
ففهم رودريك أنه يعرِّض بسلطة الأكليروس وبخاصة الأساقفة فإنهم هم الذين أجلسوه على الكرسي. ولكنَّ أوباس لم يكن منهم للأسباب التي قدمناها. فساءه ذلك التعريض، ولكنه كان يشعر أنه ارتكب ذنبًا عظيمًا، والمذنب يغلب عليه الضعف والارتباك ولو كان ملكًا ولا سيما بين يدي رجل مهيب مثل أوباس، فعمد رودريك إلى تغطية ذنبه بالمغالطة وقد عوَّل على أن يصرف أوباس ثم يعود إلى فلورندا فقال له: «انتظرني في الدار العامة ريثما آتيك.»
قال أوباس: «لو كان الأمر الذي جئتُ من أجله يحتمل الانتظار ما جئتك في هذا الليل تحت سيول الأمطار.» قال ذلك ومد يده نحو فلورندا وهو يُظهِر أنه يخاطب الملك وقال: «وإذا فتحت النافذة المطلة على النهر تحقَّقت الأمر الذي قلته لك، ورأيت الأمطار بل الثلوج تتساقط، فلو لم يكن مجيئي لأمر ذي بال ما عكَّرت على الملك راحته. إني لا أخرج من هذا المكان إلا معك.»
وكانت فلورندا كلها آذان وعيون لما يقوله أوباس أو يشير إليه، فلما سمعت ما ذكره عن النافذة أدركت أنه يشير إلى الموعد المضروب لإنقاذها ففرحت.
أما رودريك فالتفت إلى فلورندا وأشار إليها أن: «اذهبي إلى غرفتك ريثما أعود.» وخرج مهرولًا وأوباس لا يغيِّر مشيته ولا يكترث بانهماك الملك واستعجاله. فلمَّا وصل رودريك إلى آخر الدهليز تأمل الباب فرآه مفتوحًا فتذكر أنه نسيه بدون أن يغلقه، فلما خرج أوباس عاد الملك وأغلق الباب وراءه كأنه يحاذر أن يختطفوا فلورندا من بين يديه، ومشى أوباس لا يكترث بتلك الحركات حتى وصلوا إلى الدار العامة حيث ينعقد المجلس عادةً فجلس ودعا أوباس إلى الجلوس، فقال: «إن الأمر الذي جئت من أجله لا يصح ذكره في هذه القاعة.»
فاستغرب رودريك جوابه وقال: «وأين إذن؟»
فقال أوباس: «في غرفة منفردة على حدة.»
فنهض رودريك وقد ساءه هذا التعنُّت ومشى معه إلى غرفة منفردة فيها مصباح نوره ضئيل، فجلس وجلس أوباس بين يديه ورودريك لا يستطيع صبرًا عن سماع كلامه فقال: «قل يا حضرة الميتروبوليت.»
فقال أوباس: «جئتك بأمر دعاني الله أن أبلغك إياه.»
فأنصت رودريك وأرهف السمع إلى ما يقوله، فقال أوباس بصوت هادئ على جاري عادته: «إن الله خوَّلك سلطانًا على الناس تحكم فيهم وتُنصف مظلومهم وتضرب على أيدي الظالمين، فلا تتخذ ذلك السلطان وسيلة إلى ما يغضبه.»
فبغت رودريك لما في خطاب أوباس من التوبيخ وقطب حاجبيه إشارة إلى استهجانه تلك الجسارة وقال: «هل عندك كلام في غير هذه الشئون؟»
فأدرك أوباس انفعاله وأنه إنما يريد تحقيره ورد التوبيخ إليه فلم يقبل منه ذلك فقال: «لعلك تظن ما أقوله وهمًا أو ليس هو بالأمر الهام.»
فقال رودريك وقد ظهر الغضب على وجهه: «لا أرى ما يسوغ لك الاعتراض على أعمالي في داخل قصري، فإذا كنت تعلم أمرًا يتعلق بالحكم بين الناس أو بالأمن العام أو بسياسة البلاد فتكلَّم به.»
فابتسم أوباس باستخفاف وقال: «ألا تعلم أيها الملك أنك مسئول عن كل حركة تتحركها في منزلك أو في الخارج؟ وأن الصعاليك أقرب إلى الحرية في تصرفاتهم من الملوك؟ إنك مؤتمن على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وقد أعطاك الله هذا السلطان لصيانتها والدفاع عنها. أفتتخذه وسيلة لسلبها ثم تتولى سلبها بنفسك، وإذا جاءك ناصح انتهرته واحتقرته؟ هذه أشياء لا تتفق وأخلاق الملوك المؤمنين.»
فأعظم رودريك تلك الجسارة وازداد حنقًا لرزانة أوباس ورباطة جأشه وقال: «هل كان أخوك المرحوم أقرب إلى تلك الأخلاق مني؟»