البلاغ
وانفرجت الأمور في عينَيْ أوباس بطلوع الفجر وتبدُّدِ جيوش الظلام، رغبةً منه في الاطلاع على سر هذه الدعوة. ولكن النهار انقضى جانبٌ منه ولم يطلبه أحد فازداد قلقه، واستدعى رئيس الحراس، وهو الضابط المنوط به هذا العمل، فمثل بين يديه، فقال له أوباس: «وماذا عسى أن يكون آخر هذا الأسر؟»
فقال: «لا أدري يا مولاي، فعسى أن يكون خيرًا، وأنا لو عرفت سر ذلك ما أخفيته عن سيادتكم.»
قال أوباس: «إني في حاجة إلى الذهاب لمنزلي، فإذا لم يكن ثمة ما يدعو للسرعة في المقابلة، فأرى أن يطلقوا سبيلي لأذهب إلى منزلي، ثم إذا أراد الملك مني أمرًا جئت إليه.»
•••
فنظر الضابط إلى أوباس وفي عينيه خبر يتردَّد بين كتمانه وإظهاره، فأدرك أوباس ذلك فيه فقال: «ما الذي تُضمِره؟ قل.»
فقال: «إنك إذا ذهبت إلى منزلك لا تجد فيه أحدًا.»
فبُغِت أوباس وقال: «وكيف ذلك؟»
فقال الضابط: «لأنهم قبضوا على كل من كان في ذلك المنزل من الخدم والعبيد، وهم في السجن الآن وأبواب المنزل مغلقة.»
فلمَّا سمع أوباس قوله تحقَّق من عزم الملك على الفتك به جهارًا، ولولا رزانته لبدت البغتة على وجهه. ومما زاد قلقه خوفه على فلورندا، وقد تبادر إلى ذهنه أنهم لم يقبضوا على أهل منزله إلا لأنهم رأوا فيه فلورندا. على أنه لم يبالِ بالوقوف على التفاصيل، فنظر إلى الضابط وقال بسكينة وتعقُّل: «لا ينفعهم ذلك شيئًا.» ثم تحوَّل إلى الداخل فخرج الضابط إلى مكانه.
وكان ذلك الضابط ممن يعرفون فضل أوباس وعائلته، ولكنه كان — كأكثر رجال الدولة — مندفعًا مع التيار الأكبر يرى الحق ويقوله ولكنه لا يفعله، شأن الدولة في أدوار انحلالها وتقهقُرها، فإنها لا تخلو في أثناء ذلك الانحلال من رجال عقلاء، يشعرون بما أصاب دولتهم من الخلل وينتقدون أعمال حكومتها فيما بينهم وهم خارج المناصب، ويزعمون أنه لو أُتيح لهم الوصول إلى تلك المناصب لأدخلوا في الحكومة إصلاحًا كبيرًا، فإذا تولى أحدهم الحكم رأى نفسه مندفعًا — برغمه — مع تيار الأحوال العامة كما فعل أسلافه، وإذا حاول مقاومة ذلك التيار عرَّض نفسه للخطر، ويندُر أن يطول بقاؤه على عزمه القديم وهو في منصبه لعجزه وهو فرد عن مقاومة مجرى الأحوال. والدولة إنما بلغت تلك الدرجة من الانحطاط بتوالي الأجيال، والبدن إذا ابتُلِيَ بالضعف من الهَرَم لا يرجى عوده إلى الشباب، إلا أن يكون المصلح في أكبر المناصب، فقد يأتي بإصلاحٍ ذي بال ولكنه يذهب بذهابه.
وقد كان في طُلَيْطلة كثيرون ممن يرون الخلل المتسرب إلى الدولة، ولكنه لم يكن لهم سبيل إلى مناصبها الكبرى. وأما صغار المستخدَمِين فليس لهم إلا التذمُّر والكظم كما كان شأن ذلك الضابط.
رجع أوباس إلى مقعدٍ في تلك الغرفة، جلس عليه واستغرق في الهواجس حتى مضى بعض النهار. فلما رأى الخادمَ آتيًا إليه بالطعام تحقق أن بقاءه سيطول هناك، وزاد قلقه فرفض أن يأكل ورد الطعام، واستقدم الضابط وقال له: «إني لا أستطيع أن أتناول طعامًا قبل أن أعرف سبب هذه المعاملة، فهل لك أن تستطلع ذلك من أحد؟»
فقال: «أرى — يا مولاي — أن تكتب كتابًا أحمله إلى مجلس الملك لعلي آتيك بالجواب الشافي.»
فأخرج أوباس من جيبه لوحًا مشمعًا كتب عليه بالمسمار ما معناه: «حملني جندك إلى هذا المكان بلا ذنب اقترفته، والملك يعلم أن رجال الكهنوت لا تجوز معاملتهم على هذه الصورة، وإنما هم تحت سيطرة الكنيسة، فلا أدري سبب هذا السجن، إلا أن يكون ذلك من جملة ما نخر في حياة هذه الدولة.»
فحمل الضابط الكتاب وسار به إلى القصر، ولم تمضِ برهة حتى عاد وهو يقول: «إن الأب مرتين قادم لمقابلة قداستكم.»
فلم يُسَرَّ أوباس لذلك الخبر إلا على رجاء أن يعلم منه سبب ذلك الأَسْر، وقد علم أنه آتٍ بأمر الملك، فظلَّ أوباس جالسًا فدخل مرتين مهرولًا وهو يتمتم كأنه يتلو بعض الأدعية حتى وقف بين يدي أوباس فحيَّاه، وهمَّ كأنه يريد تقبيل يده لارتفاع رتبته الكهنوتية، فلم يبال أوباس بكل ذلك بل ظل ساكتًا.
فجلس مرتين على كرسي تجاه مقعد أوباس وهو يبتسم ووجهه يتهلَّل فرحًا، ولا يفرح الإنسان بشيء أكثر من فرحه بفوزه على عدوِّه.
وتنحنح الأب مرتين مرارًا ومسح وجهه ولحيته غير مرة استعدادًا للكلام كأنه يهم بالتلفُّظ، ولكن عقدة لسانه كانت تحول دون الإفصاح إلى أن فتح الله عليه، فقال وهو يقطِّع الكلام: «قد بعثني جلالة الملك لأُبلِّغ قداستكم أنه يعلم امتيازات الكهنة، وأنه لا يجوز سَجْنهم أو محاكمتهم إلا في مجالس كهنوتية، ولكنه إنما أمر بالقبض عليك مؤقتًا ريثما يجتمع مجلس الأساقفة وهم ينظرون في أمرك …»
فلم سمع أوباس قوله زاد استغرابًا ولم يفهم المراد تمامًا؛ لأن مجمع الأساقفة إنما يجتمع مرة في السنة أو مرَّتين، ولا يجتمع غير اجتماعاته المعينة إلا للنظر في أمور في غاية الأهمية، كانتخاب الملك أو البحث في خطرٍ يتهدَّد المملكة أو غير ذلك. واجتماع هذا المجمع يقتضي مكاتبة أساقفة الأقاليم والمطارنة؛ مما يستغرق أيامًا عديدة. فأطرق أوباس وأعمل فكره في هذا الأمر ولم يُجِب.
وكان الأب مرتين قد ثبَّت بصره في أوباس ليستطلع ما يبدو منه، وكان يتوقع استياءه وغضبه ليشفي ما في نفسه؛ لأن من يتعمَّد إهانتك إذا لم يرَ قوله قد أغضبك شعر بالإهانة ترجع إليه ويشق ذلك عليه. فلما رأى مرتين أن أوباس لا يزال كما كان ولم تظهر عليه علامات الاضطراب، ولا احتدَّ ولا أجاب باعتراض ولا استفهام توهَّم أن ذلك ناتج من عدم إدراكه لخطر الأمر الذي يترتب على ذلك الاجتماع فقال: «ولا يخفى على قداستكم أن جمع الأساقفة يقتضي زمنًا طويلًا، وأما الآن فلأن أكثرهم جاء إلى طُلَيْطلة لتهنئة جلالة الملك بعيد الميلاد فإن الانتظار لا يطول في جمع المجمع، فلا تضجر.»
•••
فظلَّ أوباس هادئًا ولم يقل شيئًا لأنه كان قد أدرك ذلك من تلقاء نفسه.
فلمَّا رآه مرتين لا يزال ساكنًا رابط الجأش، جاشت أحقاد صدره واشتد غيظه، فأراد أن يلمح له بالتهمة الموجَّهة نحوه فقال: «ويسوءُني يا حضرة الميتروبوليت أن تصدر منكم أقوالٌ تدعو إلى إساءة ظن الملك بكم كما فعلتم في مساء الأمس، فهل يليق بمثلكم أن يهدِّد جلالة الملك بالخلع؟ ولولا وجودي وسماعي ذلك القول بأذني ما صدقت، ثم إنكم لَمَّحتم بمثل ذلك أيضًا في كتابكم إليه الآن.»