توقُّع المصيبة شرٌّ من وقوعها
أدرك أوباس أنهم يريدون محاكمته بتهمة سياسية ضد الملك فاستعظم التهمة، ولكنَّ باله ارتاح لاطِّلاعه على حقيقة الخبر، والإنسان يكون أكثر قلقًا أثناء انتظار الخبر مما هو بعد سماعه، ولذلك قالوا: «توقُّع المصيبة شرٌّ من وقوعها.» فلما وقف أوباس على سر الأمر لم يرَ فائدة من الكلام مع مرتين في هذا الشأن فضلًا عن أنه يشفي غله بذلك الكلام، فوقف بهدوءٍ ورزانةٍ وقال: «صبرًا إلى يوم الاجتماع، وكأن رودريك لا يريد أن يبقى عندي شكٌّ في قرب سقوط دولته فزادني بعمله يقينًا بدنوِّ أجلها …» قال ذلك ومشى ولم يترك للأب مرتين فرصةً للجواب.
أما مرتين فإنه نهض بنهوض أوباس وقال وهو يُظهِر الشفقة عليه: «ألا تزال تقول ذلك؟! يا للعجب! كيف يطيعكم ضميركم على المؤامرة ضد الملك وسلطانه وحياته، وأنتم تعلمون أن الكنيسة هي التي نصَّبته بإجماع أساقفتها؟!»
فأدرك أوباس أنه يريد أن يستدرجه في الحديث ليضاعف التهمة عليه ويشفي غليله منه، فتركه يتكلَّم وتحوَّل عنه وولَّى وجهه إلى نافذة تطل على الحديقة.
فلما رأى مرتين ذلك منه ضحك وهرول مسرعًا نحو الباب وهو ينادي الضابط، فلمَّا حضر بين يديه قال له: «يأمرك الملك أن تحتفظ بهذا السجين لأن أمره ذو شأن، واحذر أن يفلت منك.»
فأشار الضابط برأسه أنْ: «نعم.» وخرج الأب مرتين ظافرًا منتصرًا لولا ما ساءه من رباطة جأش أوباس وتأنِّيه وصبره، وكان يودُّ أن يرى منه حدةً أو غضبًا ليوسعه تأنيبًا ويشفي غليله منه.
أما أوباس فإنه عاد إلى التفكير، وهو لا يزال مشغولًا على فلورندا، فتذكَّر ألفونس وخروجه بالأمس لقيادة الجند فأراد الاستفهام عن مقرِّه، فعاد إلى الباب واستدعى الضابط فوقف بين يديه، فقال له: «هل علمت بخروج الأمير ألفونس من طُلَيْطلة؟»
قال: «علمت أن فرقةً خرجت من طُلَيْطلة بالأمس، ولا أدري إذا كان الأمير معها أم لا.»
فرجَّح أوباس أن ألفونس سافر مع تلك الفرقة، ولكنه ظلَّ مشغول الخاطر بفلورندا لا يدري ما آل إليه أمرها، وخشي أن تكون وقعت في الأسر في جملة أهل منزله، وأنهم إنما قبضوا عليهم من أجلها، وودَّ لو استطاع استطلاع أمرها من أحد، وحدَّثته نفسه أن يسأل الضابط، ولكنه خشي عاقبة ذلك، ولم يخدعه ما بدا من رقَّة الضابط وحسن ظنه، لعلمه أن الذين يطابق ظاهرُهم باطنَهم قليلون، وأقل منهم الذين يثبتون على عزمهم فيما يدعوهم إليه ضميرهم؛ فخشي أوباس إذا كاشف الضابط بحديث فلورندا أو تظاهر أمامه بالاهتمام بها أن يبوح بذلك لدى أحدٍ فيتخذوه حُجَّة عليه مع اعتقاده أن الضابط مخلص له، ولكنه عوَّل على سوء الظن واعتبار الناس كلهم جواسيس عليه.
قضى أوباس في سجنه بضعة أيام وهو ينتظر اجتماع المجمع، وفي ذلك الحين لم يوفَّق إلى سبيل للاستفهام عن فلورندا، ولا اتفق له سماع شيء عنها، فترجَّح لديه أنهم قبضوا عليها وعادوا بها إلى قصر الملك، فلمَّا تصوَّر ذلك اقشعرَّ بدنه ونسي الخطر الذي يهدد حياته.