ألفونس ويعقوب
فلنتركه وشأنه ولنعُدْ إلى ألفونس وما كان من أمره بعد ذهابه بأمر الملك، فقد خرج من منزله ومعه يعقوب، وسارا إلى مقر المعسكر في بناءٍ كبيرٍ بضواحي طُلَيْطلة وحولهما الفرسان الذين جاءوا بأمر الملك فأوصلوهما إلى المعسكر وعادوا.
فلما دخل ألفونس استقبله الجند بالاحترام فترجَّل ومشى، ويعقوب يسير بين يديه وليس معه من الخدم سواه، وقد استغربوا منظره بما ذكرناه من إهماله لحيته وثيابه، حتى وصلوا إلى غرفة خاصة بالقائد الكبير، فإذا بخادمٍ واقفٍ هناك وبيده كتاب عرف ألفونس من منظره الخارجي أنه من الملك، فخفق قلبه لفرط ما غاظه الكتاب الماضي، فدخل ولم يطلبه حتى جلس في صدر الحجرة، فاستأذن الرسول من يعقوب في الدخول على ألفونس، فلما أبلغ يعقوب ذلك لألفونس قال له: «لا حاجة إلى دخوله، هاتِ الكتاب منه.» فأخذه منه وجاء به إلى ألفونس وهو يقول: «لا تغضب يا مولاي، لعل فيه أمرًا بالرجوع إلى منزلك.»
من رودريك ملك القوط إلى القائد الباسل ألفونس
فلما فرغ ألفونس من قراءة الكتاب أمر يعقوب أن يأتيه من الرسول بالكتاب الآخر، فجاءه به ودخل عليه وأغلق الباب وراءه وقدَّم له الكتاب وهو يتفرَّس في وجهه، فلما رأى ما يبدو عليه من الانقباض واليأس أراد أن يخفِّف عنه فعطس عطسة ارتج لها المكان، فانتبه ألفونس ونظر إلى يعقوب فإذا هو ينظر إليه ويضحك ويهز رأسه ويحك ذقنه بأنامله، فاستغرب ألفونس ذلك منه وكاد ينتهره لو لم يسبق إلى ذهنه ما آنسه من احترام عمه أوباس له واعتماده على أقواله، وتذكَّر السر الذي توسمه في سيرته فابتسم له، وقال: «ما الذي يضحكك يا يعقوب؟ هنيئًا لقلبك.» قال ذلك وتنهَّد.
فتنهَّد يعقوب تنهُّدًا سمع له صفيرًا، وقال له: «بل هنيئًا لك أنت، كيف يخدمك الحظ على أهون سبيل؟»
فهزَّ ألفونس رأسه وقال: «تبًّا لهذا الحظ، دعني وشأني.» قال ذلك ونهض وهو يقول: «لا يليق بنا البقاء هنا ونحن مكلفون بالذهاب الليلة، ولا بد لي قبل كل شيء من استدعاء القواد وإبلاغهم الأمر بالاستعداد، فامضِ إلى قائدَيِ الخمسمائة واستقدمهما إليَّ.»
فخرج يعقوب ثم عاد وأخبر ألفونس أن القائدين قادمان، ثم جاءا وقد لبسا ملابس السفر وشعرهما — مثل شعور سائر القوط — مسترسل على أكتافهما ودلائل الصحة بادية على وجهيهما، وملامح النِّعم في قيافتهما، فلمَّا دخلا سلَّما على ألفونس باحترامٍ وهما يعرفانه منذ كان أبوه حيًّا ويحترمانه من أجل ذلك، وقد سرَّهما تولِّيه قيادة تلك الفرقة لما يعلمانه من حُسن أخلاقه وطيب عنصره. وكانا من أهل الغيرة على عصبية القوط لم يرضيا برودريك إلا مع الجماعة، فإذا خلَوَا تحدَّثا بما كان من تحوُّل النفوذ إلى العنصر الروماني بعد تولي رودريك، ولكنهما لم يكونا يجسران على التصريح بذلك بين يدي أحد حتى ولا ألفونس نفسه؛ لأنه أصبح مثلهم في ذلك.
فلمَّا رآهما ألفونس تذكَّر أنه شاهدهما من قبل، ولكنه استغرب تأهُّبهما للسفر قبل أن يصدر لهما الأمر بذلك فقال: «أراكما بملابس السفر؟»