ومبا
فتكلَّم أحدهما، واسمه «ومبا»، وكان طويل القامة، شديد سواد العينين والشعر، وقال: «لقد وردت إلينا الأوامر بذلك من جلالة الملك تعجيلًا للرحيل، فالجند الآن كله على أُهْبة السفر، ولم يبقَ إلا أن يَصدُر الأمر من مولاي ألفونس.»
فلما سمعه يذكر اسمه استأنس به وشعر براحةٍ إليه وقال: «نغادر هذا المعسكر الآن، فأرجو أن تتوليا تدبير الجند في رحيله وإقامته إلى أن نبلغ مقصدنا.»
فأشارا بإحناء الرأس أنْ: «سنفعل.» ثم تكلم ومبا، وكانت له جرأة وتقدم على رفيقه، قائلًا: «ألا ينبئنا مولاي عن الجهة التي نحن ذاهبون إليها؟»
قال ألفونس: «إننا ذاهبون إلى أستجة على نهر السنجيل في كونتية بتيكة، فهل تعرف الطريق إليها؟»
قال: «أعرفها جيدًا، فإن الطريق إليها نحو الشمال والغرب إلى مريدة على نهر أناس، فنعبره ونسير شمالًا شرقيًّا إلى قرطبة، ثم ننحدر شمالًا شرقيًّا إلى أستجة على نهر السنجيل، وقد عرفت هذه المدينة وصلَّيت في كنيستها، وأقمت في قلعتها، وعبرت على جسرها، وعرفت أديرتها وأسواقها.»
قال ألفونس: «بورك فيك، لقد ألقيتُ الأمر إليكما في تدبير هذه الحملة في أثناء المسير، ولكنني أوصيكما بأمر يهمني كثيرًا، وذلك أنني لا أريد أن يعتدي الجند في أثناء الطريق على أحدٍ من الفلاحين، ولا يأخذوا لأحدٍ مالًا أو زرعًا، ولا يسيئُوا لأحدٍ في معاملة، فإذا فعل أحد ذلك كان جزاؤه عندي الجلد أو القتل، وإذا كان من أرباب الرُّتب جرَّدتُه من رُتَبه وأملاكه وأهنته، فإني أريد أن يسير هذا الجند بكل هدوء وسكينة.»
فلما سمع ومبا ذلك ظهر الإعجاب في عينيه البراقتين وقال: «بورك فيك وفي أصلٍ أنت فرعه، لقد عوَّدنا المرحوم أبوك مثل هذا العدل والرأفة …»
فلما سمع قوله عضَّ على شفته وأطرق، وكأنه يقول له: «ليس هذا وقت التصريح.» ثم أتمَّ كلامه قائلًا: «وأوصي الكهنة المرافقين لهذه الحملة أن يوصوا الجند بهذه الوصايا، ولا يخفى عليكم أن جندنا أكثر ما يحسنون الحرب مشاةً، فلا تتعبوا المشاة بالمسير ولا تحمِّلوهم أحمالًا ثقالًا، ويكفيهم ما يحملونه من الأدرع والأسلحة من السهام والحراب.»
فلما فرغ ألفونس من كلامه، لم يزد ومبا على إشارة الطاعة ثم قال: «ألا يأمر مولاي بحاشية من الأعوان والموالي تسير في خدمته خاصة؟»
فأراد ألفونس أن يصرح له بالتخفيف عن الموالي، فوقعت عيناه على يعقوب، فرآه يشير إليه إشارة خفيَّة ألَّا يفعل، فانتبه وقال: «لا أحتاج الآن إلى أحد فإن معي خادمي هذا، وهو يدبِّر لي ما أحتاج إليه، وإذا احتجت إلى سواه طلبت.»
فخرج القائدان فرحَيْن بمرافقة ألفونس، أما هو فلما خلا بيعقوب قال له: «رأيتك تشير إليَّ في أثناء الكلام …»
قال: «خفت أن يسبق لسانك إلى قولٍ تؤاخذ عليه ونحن بين يدي الأعداء، فاحتفظ بكل ما دار بينك وبين مولانا ونبراسنا أوباس لنرى ماذا يكون، واسمح لي أن أتمِّم ما كنت قد بدأت به من قبل. اعلم يا مولاي أنك موفَّق بإذن الله؛ لأن الأمر الذي كنت لا تستغني في الوصول إليه عن بذل الأموال واستخدام الرجال قد وصلت إليه عفوًا.»
قال ألفونس: «وماذا تعني؟»
قال يعقوب: «أعني أن المشروع الذي فكرت فيه مع مولاي الميتروبوليت لقهر ذلك العدو الحاكم، قد أصبح السبيل للشروع فيه ممهدًا منذ الآن، هذه فرقة من الجند الآن تحت أمرك فقرِّبها منك وحبِّبها إليك ببذل المال، المال.» قال ذلك وتلمَّظ كأنه يتلذذ بطعام شهي.
فقطع ألفونس كلامه قائلًا: «ومن أين لنا بالمال يا يعقوب؟ ما أهون إبداء الرأي فيه وما أصعب العمل به!»
فوضع يعقوب كفه على صدره وأحنى رأسه وأطبق جفنيه، ولسان حاله يقول: «المال عندي وعليَّ إحضاره.»