لغة الحب
أما فلورندا فقد اندهشت حين رأت ألفونس قادمًا، وظهرت البغتة في عينيها، وأسرعت دقَّات قلبها، وارتعدت رُكبتاها وأرادت أن تقف لتلقاه فلم تستطع من شدة التأثُّر، وامتُقِع لونها، وشخصت ببصرها إليه وهي لا تصدق أنها تراه. أما هو فلمَّا دنا منها ولم تقف له ولا رحَّبت به، ثبت لديه ما كان يظنه من زهدها فيه. وبعد أن كان مُسرعًا بلهفة المشتاق، تباطأ وندم على مجيئه وتطفُّله. ثم ما لبث أن رأى العجوز تهرول إليه وهي تتعثر بطرف ثوبها حتى كادت تقع وهي تقول: «أهلًا وسهلًا بحبيب القلب ألفونس.»
فاطمأن قلبه ولكنه ظل خائفًا، فمشى حتى اقترب من فلورندا فإذا هي لا تزال جالسة، وقد التفَّت بالرداء ويداها مختبئتان فيه، حتى إذا وقف بين يديها رفعت بصرها إليه ونظرت إليه نظرةً خرقت أحشاءه، وقرأ في عينيها من تلك النظرة ما لو كُتِب على الورق لملأ عدة صفحات؛ قرأ فيهما العتاب والتعنيف، قرأ الشوق والوجد، قرأ فيهما الحب والغرام والاستعطاف والاستفهام … فلم يستطع جوابًا على تلك المعاني إلا بأن يخر راكعًا على ذلك البساط الأخضر وهو يقول بنغمة المحب الولهان: «السلام يا فلورندا، السلام!» ومد يده وأحنى رأسه كأنه يسألها إحسانًا، فظلَّت هي شاخصة فيه ويداها لا تزالان مختبئتين في ذلك الرداء، ولبث الاثنان شاخصين برهة وعيونهما تتخاطب وتتفاهم حتى غلب الدمع على فلورندا فغشَّى عينيها، فحجب عنهما وجه ألفونس؛ فأخرجت يدها من الرداء لتمسح عينيها، فسبقها ألفونس إلى إخراج منديله هو ومسحهما به، ثم مسح به وجهه وتنشَّق رائحته وتنهَّد تنهُّدًا شديدًا، وأعاد يده فمدَّها إلى فلورندا فلم تمدَّ يدها إليه؛ ففَهِم أنها تتعمَّد ذلك دلالًا وعتبًا، فلم ينتظرها فمد يده وقبض على يدها قبضة ارتعدت لها فرائص الاثنين كأنهما أمسكا بتيار كهربائي قوي.
ومضت فترة وهما يتخاطبان بالنظرات، ولهما من قراءة الأفكار ما يغنيهما عن الألفاظ. وكانت العجوز تتشاغل عنهما بقطف بعض الأزهار والتواري بين الأغصان، رفقًا بعواطفهما وإغضاءً عما قد يبدو منهما في مثل هذه الحال. وظل ألفونس ساكتًا وقد عوَّل على الصبر حتى تكون فلورندا البادئة بالكلام، فقضيا برهة واليد باليد، والعين على العين، والقلبان يتسارعان كأنهما يتفاهمان بالخفقان، وقد غشَّى الأعين ماءٌ لامعٌ هو من أسمى علامات الهُيام.
ثم بدأت فلورندا الحديث بنغمة الدلال والعتاب: «ما الذي جاء بك يا ألفونس؟»
قال: «لا أدري ما الذي جاء بي يا حبيبتي، فهل تعلمين أنت؟ أما الذي أعلمه فهو أني أسير هواك، وأني حيٌّ برضاك ميت بجفاك. حبيبتي فلورندا، هل عندك مثل ما عندي؟ نعم أعلم أنكِ كنتِ تحبينني، ولكن هل أنت باقية على ذلك أو على بعضه، أم غيَّركِ ما غيَّر من أحوالنا وأضاع من آمالنا؟»
فأدركت أنه يشير إلى ضياع المُلْك من يده، فسحبت أناملها من بين أنامله بلطف، وأظهرت أنها تحوِّل وجهها عنه، ونظرها لا يزال ثابتًا على نظره كأنها تقول له: «أهذا هو مبلغ علمك بالحب وعواطف المحبين؟» ففهم ألفونس مغزى تلك الإشارة فقال لها: «لم أكن أشك في صدق مودتك وقد امتزج قلبانا، ولكنني حسبت أن سوء حظي غيَّرك، وظننت أيضًا أنني بعد أن خسرت أبي ومُلْكي قد جرَّني سوء الطالع إلى خسارة ما هو أثمن من مُلْك العالم كله.» قال ذلك وقد أبرقت عيناه وانبسطت أساريره، وهو لا يزال ينظر إليها ويتوقع أن يسمع قولها، فعادت إلى الصمت والتفَّت بردائها وحوَّلت نظرها إلى مجرى النهر وأصغت إلى صوت هديره، فاستولى على تلك الحديقة سكون لم يكن يتخلَّله إلا خرير الماء وزقزقة العصافير.
فلما طال سكوتها بحث ألفونس عن العجوز، فإذا هي قادمة وفي يدها بعض الأزهار، فناداها وهو يقول: «تعالي يا خالة، كلمي فلورندا عساها أن تتعطَّف عليَّ بكلمة أُبرِّد بها لظى وجدي.»