الفلاحون
وناما تلك الليلة نومًا عميقًا على أثر ما عانياه من التعب بالرغم من البرق والصواعق وشدة هبوب الرياح، وأفاق يعقوب مبكرًا وخرج لإعداد ما يحتاج إليه ألفونس، ولم تشرق الشمس حتى كانوا على أُهْبة الرحيل، فقوَّضوا الخيام وركبوا حسب النظام الموضوع، وألفونس ويعقوب سائران على انفراد وهما صامتان. أما ألفونس فقد كان يمشي ويلتفت إلى طُلَيْطلة وكان بعضها لا يزال ظاهرًا، وبعد هنيهة عبروا الجسر فوق نهر التاج وكان عبورهم آخر عهد ألفونس بمرأى تلك المدينة لأنها توارت وراء التلال.
سارت الحملة بأثقالها وأحمالها نحو الجنوب الغربي، وقد صحا الجو وأشرقت الشمس وأرسلت أشعتها على البساتين والغياض والأودية والتلال، وألفونس يعجب لما يقع بصره عليه من البقاع الخصبة وفيها أصناف الأشجار والمغارس، ولكنه استغرب لخلوِّ المزارع من الناس، ولم يكن يتوقع أن يرى فيها غير العبيد أو من جرى مجراهم من الفلاحين والحرَّاثين، وكان الأشراف وأصحاب الضِّياع يعاملونهم معاملة الأرقاء، وهم يقيمون في المدن ويندر من يقيم منهم في المغارس. وكانت أوروبا في ذلك العصر مؤلَّفةً من المدن والضياع؛ فالمدن مقر الحكام والأشراف، أما الضياع فكانت عبارة عن المغارس يقيم فيها الفلاحون ويعملون في الأرض، وهم والأرض وما عليها من الدواب والماشية ملك للأشراف.
وكان ألفونس قلَّما يخرج من المدن، ولم يكن يهمه التفكير في حال أولئك الفلاحين. ولكنه بعد ما دار بينه وبين أوباس بشأن المُلْك وما عزموا عليه من تحرير أولئك الأرقَّاء والاعتماد عليهم في تحرير المملكة، أصبح همه دراسة حال البلاد وأهلها، فإذا هم يمرُّون في أرض لا يُظهِر أهلها عناية بزراعتها واستثمارها، وقلَّما شاهدوا فيها أحدًا من الناس. فلما تكرر ذلك المنظر حوله التفت إلى يعقوب، وكان راكبًا جوادًا وراء جواده، فلما رأى ألفونس يلتفت إليه ساق جواده حتى حاذاه ونظر إليه نظرة مُستفهِمٍ، فقال ألفونس بصوت منخفض: «كنت أتوقع أن أرى المزارع آهِلةً بالناس وقد قطعنا مسافة طويلة في أرض عامرة ولم أشهد أحدًا …»
فقال: «إن الناس كثيرون ولكنَّهم تعوَّدوا إذا رأَوْا جندًا مارًّا أن يختفوا من وجوههم؛ فرارًا مما قد يكلفونهم به من الأعمال الشاقة وما قد يتطلبونه من المئُونة ونحوها، ولم يخطر لهم أن جنودًا يمكن أن يسيروا مثل سيرهم هذا لا يتعرضون لأحدٍ منهم في شيء. والجند لم يسر بهذا الهدوء إلا بأمر مولاي.»
فتأثر ألفونس من ذلك القول وتمثَّل له الخطأ الذي ترتكبه الحكومات الظالمة في تكليف رعيتها فوق طاقتهم فتعود الخسارة عليها وعليهم.
قضى ألفونس وحملته في الطريق بضعة أيام قطعوا في أثنائها سهولًا خصبة، وجبالًا فيها كثير من مناجم الفضة والذهب، وأوديةً يسيل فيها الماء فيسقي الغياض والبساتين، وأرض الأندلس من أحسن البلاد خصبًا وعمرانًا، وإنما تحتاج إلى من يتعهدها بالغرس ويظلِّلها بالعدل، فضلًا عمَّا كان فيها من المدن العامرة. وكانت أول مدينة كبرى مرُّوا بها هي مريدة، فقطعوا نهر أناس وساروا بضعة أيام أخرى إلى قرطبة فعبروا نهرها وساروا إلى أستجة.