كشف السر
ونظر ألفونس في ذلك المكان فإذا هو حجرة صغيرة جدرانها سوداء، وسقفها أسود، وفي أرضها صندوق كالتابوت الكبير فوقه درج صغير، وحول التابوت بساط جلسوا عليه، والتابوت في وسطهم. فتأثر ألفونس من ذلك المنظر الرهيب وخفق قلبه لهول ما شاهده من الغرائب في تلك الليلة، وقد نفد صبره لمشاهدة أشباح سوداء لا يرى لها وجوهًا ولا يدري من يكونون.
فلما جلسوا تكلم يعقوب بالقوطية قائلًا: «هل يظن الرئيس أن الطعام قد نضج؟»
قال الرئيس: «أنت أدرى منا بنضجه لأنك مُوقِد ناره.»
فقال يعقوب: «أرجو أن يكون قد نضج ولكنه يحتاج إلى أُدْمٍ كثير لأن الطعام بلا أُدْمٍ لا يُؤكل …»
فقال الرئيس: «الأُدْم كثير، ومنه في هذا الصندوق ما يُطبخ به طعام العالم بأسره، فضلًا عن أمثاله مما يُحمل إلى المطبخ عند الحاجة.»
فلم يفهم ألفونس مغزى تلك الرموز ولم يصبر عن الكلام فقال: «أما وقد خلونا في هذا المكان ونحن بضعة رجال فأرجو أن يكون الكلام صريحًا …»
فتنهَّد الرئيس ولم يُجِبْ، أما يعقوب فإنه جثا منتصبًا على ركبتيه والتفت إلى ألفونس وقال: «الصريح أن المادة التي تنقصك لإتمام مشروعك إنما هي في عشراتٍ من أمثال هذا الصندوق، جُمعت فيها منذ أعوام ولكنها لا تُبذل إلا عند الحاجة.» قال ذلك وأومأ إلى الرئيس، فأخرج من جيبه مفتاحًا فتح به التابوت، وحين رفع الغطاء أبرق ما تحته أصفر زاهيًا، فنظر إليه ألفونس فإذا هو نقود ذهبية خالصة، ثم أغلقه الرئيس وأعاد المفتاح إلى جيبه.
فاندهش ألفونس لمنظر ذلك الذهب، وأدرك أنه بين جماعة من ذوي المقدرة، وأحبَّ أن يستطلع حقيقتهم فقال: «أراكم تبالغون في التستر ونحن إنما اجتمعنا لنتداول في هذا الأمر المهم فمن أنتم؟»
فالتفت إليه الرئيس وقال: «لا تطمع في الكشف عن شيء غير الذي تراه، واعلم أنك عرفت شيئًا لم يعرفه أحدٌ من الذين رأيتهم في الحجرة الأخرى، وهم يجتمعون معنا منذ أعوام، وفيهم من يبذل ماله وروحه في سبيل ذلك الغرض.»
فتكلم عند ذلك يعقوب وقال: «يكفي مولاي ما قد شاهده، وليعلم أن في إسبانيا ألوفًا من أمثال هؤلاء المظلومين وعندهم الأموال المختزنة في الصناديق، وهم على استعدادٍ لأن يبذلوا أنفسهم في خدمتك فضلًا عن أموالهم.»
فلما سمع ألفونس قوله: «المظلومين» أدرك أنه بين يدي جمعية سرية تتواطأ على قلب الحكومة، وتذكر ما كان يسمعه من كلامهم الغامض، فخطر له أن يكونوا يهودًا، ولكنه يعلم أن اليهود قد انقرضوا من تلك المملكة، إما بالنفي أو بالقتل أو باعتناق النصرانية، فقال ليعقوب: «قد فهمت السر فالأولى أن تفصح وأنت أعلم الناس بعزيمتي وقصدي وقصد والدي من قبلي.»
فعند ذلك التفت يعقوب إلى الرئيس وقال: «ينبغي لي أن أكاشف كلًّا منكما بسر الآخر، اعلم يا حضرة الرئيس أن الرجل الذي جئتكم به الليلة هو نصيرنا الوحيد في هذه الديار، وإذا قلت لكم من هو هان عليكم مكاشفته بأمرنا، إنه ألفونس ابن المرحوم غيطشة ملك إسبانيا، وهذا يكفي.»
ولم يتم كلامه حتى ابتدره الرئيس قائلًا: «لعله على عهد والده تمامًا؟»
قال: «نعم هو نصير المظلومين، وقد عوَّل على السعي في إنقاذنا من هذا الطاغية اللعين الذي يُسمِّي نفسه ملكًا، وإنما يعوزه المال وهو عندنا، فاسمح لي بعد هذا التصريح أن أُنبئه بحقيقة الأمر.» قال ذلك وحوَّل خطابه إلى ألفونس قائلًا: «اعلم أيها الملك — وأنا أدعوك ملكًا لأننا لا نعرف ملكًا على إسبانيا سواك — اعلم أنك في جمعية إسرائيلية، وكل الذين رأيتهم في هذه الجلسة يهود لا يزالون على دين آبائهم وأجدادهم، ينوبون عن ألوف من أهل هذا الدين، منتشرين في أنحاء المملكة الإسبانية، يتظاهرون بالنصرانية فيحضرون القداس في الكنائس، ويتناولون القربان، ويقومون بسائر الفروض المسيحية، رياءً منهم، وهم في الحقيقة يهود يصلون في خلواتهم سرًّا، وكان منهم في الكنيسة في صباح هذا اليوم مئات، وقد رأيناهم يسجدون أمام الأيقونات، ويتلون الصلوات تظاهرًا محضًا، وربما سمعناهم يدعون بنصر رودريك وهم يودُّون قتله، وقد صبروا على هذا الظلم وكظموا الغيظ أعوامًا، وهم يجمعون المال ويختزنونه لاغتنام مثل هذه الفرصة لرفع هذا النِّير عن كواهلهم، حتى إذا كادوا يبلغون بغيتهم على يد والدك المرحوم استبدله أهل المطامع بهذا الطاغية، وهو لا يستحق هذا المنصب، بل أنت هو صاحبه الشرعي، فنرجو أن تكون النجاة على يدك.»
فلما سمع ألفونس قوله انجلت له الأسرار التي ما برح يود الاطلاع عليها منذ خاطب عمه أوباس بهذا الشأن، فاكتفى بما رآه وسمعه، وأجَّل استطلاع ما بقي من الغوامض إلى فرصة أخرى، ولبث صامتًا يراجع ما مرَّ به من الألغاز، فرأى أنه ينقصه أن يعرف وجوه أولئك الناس ولا سيما بعد أن عرفوه باسمه، وكان يعقوب قد أدرك غرضه فقال له: «ولا يطمع مولاي الآن في الاطلاع على ما وراء ذلك.»
فقطع ألفونس كلامه قائلًا: «لا أطلب الاطلاع على شيء سوى معرفة هؤلاء الأفاضل الذين أنا في حضرتهم ولا سيما بعد أن عرفوني.»
فقال يعقوب: «كلا يا مولاي، إن ذلك ممنوع عندهم حتى فيما بينهم، وقد لجئُوا إلى هذا التستر خوفًا من أن يبوح أحد بأمرهم حتى من إخوانهم، فأنت الآن بعد أن اطَّلعت على هذه الأسرار المهمة تمسي — إذا خرجت من هذا المكان — كأنك لم تدخله؛ لأنك لم ترَ وجوه الأشخاص، فلا يمكنك أن تتَّهم أحدًا من الناس، وربما كان بعض هؤلاء من رجال الجند أو الكهنة أو العمال أو المزارعين، وكلهم في عداد المسيحيين، ويكفيك أن تعرف واحدًا منهم وهو أنا.»
فأُعجِب ألفونس بهذا اللون من الاحتياط، وعلم أن يعقوب يهودي، وتذكَّر ما كان يطلبه من التساهل في أداء الفروض الدينية من الصلوات ونحوها، وأن عمه أوباس كان يساعده على ذلك، وخطرت له خواطر كثيرة تدور كلها حول علاقة يعقوب بوالده، واعتزم أن يستطلع سرَّ هذا الأمر فيما بعد. ثم قطع تيارَ أفكاره دبيبٌ توالت أصواته فوق رءوسهم فانذهل ألفونس، والتفت نحو السقف فابتدره يعقوب قائلًا: «لا تستغرب يا مولاي ما تسمعه؛ لأن فوقنا شارع من شوارع المدينة، والناس يمرون عليه ليل نهار، وليس في أهل أستجة من يعلم بوجود هذا البناء تحت الشارع إلا أعضاء هذه الجمعية.» فازداد ألفونس استغرابًا لما شاهده تلك الليلة من طُرق التحفُّظ ومظاهر الدهاء، وقال في نفسه: «إن قومًا هذا مبلغ دهائهم وتعلُّقهم وصبرهم لجديرون أن ينالوا بُغيتهم.»