الإغراء
فلا تسل عن ألفونس واضطرابه وخفقان قلبه، ولولا ذلك اللثام لافتضح أمره لاستغرابه قولها: «إنها هائمة على وجهها» وقد كان يظنها في مأمن عند عمه فعَظُم عليه الأمر، ولكنه كتم عواطفه وصبر ليسمع بقية الحديث، وكان يعقوب يشعر معه بالبغتة لأنه كان مطلعًا على علاقته بفلورندا.
أما الرجل فإنه أتمَّ حديثه قائلًا: «فلما فرغتُ من قراءة الكتاب أظهرت الغيظ وقلت له: إلى متى البقاء على ولاء رجلٍ لا يرعى ذمامًا ولا يحفظ حرمةً ولا يستبقي عِرضًا؟ أأنت تعرِّض نفسك للخطر وتصبر صبر الأبطال في الدفاع عن سلطانه، وهو يفعل مثل هذا الفعل مع ابنتك؟» وكان يوليان قد استولت عليه السويداء منذ أعوام على أثر مصيبة انتابته وثقُل عليه حملها فجعلتُ أستحثه وأثير عواطفه حتى قال: «لا بد لي أن أنتقم من هذا الخائن وأسلِّم هذه البلاد لهؤلاء العرب، فإنهم أحفظ منه للجميل. ولا يكفي ذلك، بل سأحرضهم على فتح إسبانيا حتى يتمكنوا من قتل رودريك فأُشفِي غليلي.» فسرَّني عزمه على ذلك وهو الغرض الذي طالما تمنيته وسعيت إليه، فجعلت أقوِّي من عزيمته وأهوِّن عليه الأمر حتى قلت: «وإذا أحببتَ فإني أسعى عنك في مخابرة العرب وأجعل تسليمك على سبيل الخدمة لك ولهم، وليس عن ضعف أو جبن.» فرضي مني بذلك وخرجت فخابرت موسى بن نصير أمير العرب فسُرَّ ورحب بيوليان، فعرض عليه يوليان عبور بحر الزقاق إلى العدوة الأخرى وفتح الأندلس، على أن يكون هو معهم يُطْلعهم على عورات القوط فرضي موسى. وعند سماعي ذلك لم أستطع صبرًا فتقدَّمت إليكم بهذا الخبر، فما قولكم؟»
فلما بلغ الرجل إلى هذا القول استولت الدهشة على الجميع وبخاصة ألفونس فإنه وقع بين عاملين: عامل الغرام بفلورندا وقد انشغل خاطره بشأنها بعد أن علم أنها ليست في بيت عمه، وعامل اليأس من المُلْك إذا فتح العرب هذه البلاد؛ لأنها تخرج من سلطان القوط جميعًا. وأدرك يعقوب ما يخطر ببال ألفونس وخشي أن يكون لذلك تأثير على رأيه في مقاومة رودريك، ثم تذكَّر مسألة فلورندا، وما بذرت في نفس ألفونس من الحقد على رودريك، فعلم أنه لا يمكن أن يصفو له قلبه، ولا سيما بعد أن سمع شكاية فلورندا لأبيها، على أنه أحب أن يثبِّت ألفونس على عزمه، فقال وقد وجَّه خطابه إلى الرئيس: «إن الخبر الذي جاءنا به أخونا هذا من الأهمية بمكان عظيم، ولا نظن العرب إلا فاتحين هذه البلاد، وبخاصة لأن يوليان معهم يدلهم على الطريق، وطبعًا سنكون نحن عونًا لهم أيضًا لأننا نخدم مصلحتنا، ولا يغيِّر ذلك شيئًا من غرضنا الأول في جعل الحكم بيد مولانا الملك (وأشار إلى ألفونس)؛ لأننا قد سمعنا الآن أن العرب يستبقون البلاد على ما هي عليه، ولا نظنهم إذا علموا نصرة ملكنا هذا لهم إلا أن يسلموا إليه مقاليد الحكم ويكتفوا بالخراج والجزية والسيطرة الخارجية.»
وكان ألفونس يسمع ذلك وقد همَّه الخبران، ولكن خبر فلورندا غلب على خاطره وأصبح شديد الرغبة في الخروج من ذلك المكان للبحث عنها، على أنه أراد قبل الانصراف أن يثق من الأمر الذي جاء من أجله فقال: «ظنَّ صاحبي يعقوب أن غرضي من النقمة على رودريك هو مجرد رغبتي في السلطة، والحقيقة أن الهدف الأول هو إنقاذ هذه البلاد من استبداده وإطلاق سراح اليهود الذين أُجبروا على النصرانية ظلمًا. ثم إني أريد أن يعلم هذا الطاغية أن على الباغي تدور الدوائر، فإذا حدث ذلك لا يهمني بعده من يتولى الملك.»
فقال الرجل: «أؤكد لمولاي الملك أن المسلمين إذا فتحوا هذه البلاد فعلوا كما ذكرت، ولا أظنهم يستغنون عن مولاي الملك في حكومة هذه البلاد بعد فتحها، فقد ولَّوْا على طنجة رجلًا بربريًّا اسمه طارق مع أن البرابرة لم يذعنوا لسلطانهم إذعانًا تامًّا حتى الآن — يفعل العرب ذلك لقلة عددهم بالنسبة إلى سعة البلاد التي فتحوها، فيضطرون إلى الاستعانة بغير العرب في إدارة شئون الحكم — فهل يُعينهم على تصريف شئون إسبانيا خيرٌ من ملكها؟ وعلى كل حالٍ فإننا لا نألو جهدًا في إقناعهم بذلك.»
فلما سمع ألفونس قوله اطمأنَّ خاطره من ناحية المُلْك وتركزت هواجسه على فلورندا، وودَّ أن تنتهي الجلسة بسرعة، فالتفت إلى الرئيس وقال: «هل من كلام يُلقى علينا، أم تأذنون في انصرافنا؟»
فوقف الرئيس ووقف الجميع، فقال الرئيس: «إذا شئت الانصراف فالأمر أمرك، ولكننا نأمل أن تؤمن بصدق إخلاصنا في خدمتك، وأن اليهود في كل هذه البلاد يضحون بأموالهم وبأنفسهم في مصلحتك، وعهد الله في ذلك بيننا وبينك.»
فشكره ألفونس وقال: «قد ذكرت لكم غرضي من التعاون معكم، والله ولي التوفيق.»
ثم سار يعقوب نحو الباب، وأشار إلى ألفونس فتبعه، وخرجا من تلك الحجرة إلى الغرفة الكبرى، وفيها المقاعد حول المنضدة كما تقدَّم، فمشيا مشية خاصة وخرجا من باب إلى باب حتى انتهيا إلى السرداب ومنه إلى الكهف. فلما أطلَّا على الخلاء رأَيَا الفجر قد لاح، فعلم ألفونس أنهم قضوا طول الليل هناك وأحسَّ ببرد الخلاء. ثم نزعا الثوبين الأسودين، وخرجا من الكهف يلتمسان المدينة، وكان بابها قد انفتح فدخلاها وسارا يقطعانها نحو الجسر، وألفونس لا يتكلم لِمَا تزاحم في مخيلته من الصور التي شاهدها في ذلك الليل، وأصبح لا يدري كيف يعامل يعقوب بعد أن عرف أنه من أعيان اليهود، لكنه ظلَّ على شوقه في كشف بقية سرِّه. على أنه كان قد استولى عليه الصداع بعد خروجه من السرداب إذ استقبله النسيم البارد على أثر سهره الطويل، فأصبح لا يستطيع البحث في شيء، ولكن صورة فلورندا لم تبرح مخيلته. أما ما سمعه من أقوالها إلى والدها فلم تَغِبْ عن سمعه.
وصلا إلى القلعة وألفونس لا يزال ساكتًا ويعقوب يراقب حركاته وسكناته، وكان قد أدرك شيئًا مما يجول في خاطره، ولكنه لم يشأ أن يحادثه في شيء غير الاستفهام عما يريده من طعام أو نحوه، وصَعِدا إلى غرفة ألفونس فأعدَّ له يعقوب كل ما يحتاج إليه وهيَّأ له الفراش فنام، ونام يعقوب أيضًا.
فلنتركهما نائمين بجوار أستجة ولنذهبْ بالقارئ إلى أفريقيا (وهي بلاد البربر، وهي اليوم شمالي أفريقيا وفيها: برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش) ونبحث عن أحوال العرب هناك حتى فتح الأندلس.