بعد فتوح الإسلام
تُوفِّي الخليفة عبد الملك بن مروان سنة ٨٥ﻫ، فخلفه ابنه الوليد بن عبد الملك، وكان عبد الملك قد تولَّى الخلافة عشرين سنة قضى معظمها في محاربة منافسيه عليها، وكثيرًا ما خشي خروجها من يديه، ولكنَّه كان ذا سياسة ودهاء، وقد نصره الحجاج بن يوسف أدهى عمَّال المسلمين وأشدهم وطأة فخلصت الخلافة لعبد الملك، فلما مات خلفه ابنه الوليد وقد نجا من المنافسين؛ فانصرف همُّه إلى توسيع المملكة الإسلامية، فبعث قتيبة بن مسلم نحو الشرق لفتح ما وراء النهر، فأوغل في بلاد الترك حتى أدرك حدود الصين، وبعث أخاه مسلمة بن عبد الملك شمالًا لغزو بلاد الروم ففتح عمورية وهرقلة وقمونية وغيرها، وأنفذ موسى بن نصير إلى أفريقيا فولَّاه إياها وأمره أن يُتِمَّ فتحها.
وكانت أفريقيا قد فُتِحت في صدر الإسلام وأُلحقت بمصر وأُهمِل شأنها لبُعدها ومشقة المسير إليها. وأهل أفريقيا الأصليون قبائل البربر، لهم ألسنة خاصة وعادات خاصة، وهم قبائل عديدة جدًّا وبلادهم كثيرة الماشية والمرعى، وكانوا — حين اشتغل الأمويون عن أفريقيا بأنفسهم أيام عبد الملك — قد اغتنموا الفرصة وحاولوا التخلُّص من حكم المسلمين فتمرَّدوا وشقوا عصا الطاعة؛ فبعث إليهم عبد الملك حسَّانَ بن النعمان فحاربهم وأخضعهم ونشر الإسلام بينهم، ولكنهم كانوا أقوامًا أشدَّاء، فما لبثوا أن عادوا إلى الاضطراب. فلما تولَّى الوليد بلغه أنهم في انقسام فيما بينهم، فرأى أن يغتنم الفرصة لتأييد سلطانه هناك وإتمام فتح تلك البلاد، فبعث موسى بن نصير — وهو عربي لخمي — وكان قائدًا باسلًا، شديد الإيمان؛ فنزل القيروان ثم تتبَّع البربر إلى بلاد السوس الأدنى وهم يفرون من بين يديه، حتى إذا يئسوا من النصر جاءوا إليه مستسلمين، وبذلوا له فروض الطاعة، فولَّى عليهم أناسًا من رجاله ينظمون أحوالهم ويعلِّمونهم القرآن وفرائض الإسلام.
وكان في جملة مواليه رجل من البربر اسمه طارق بن زياد، وكان شجاعًا قد اعتنق الإسلام وأظهر غيرةً عليه ورغبة في تأييده. فلما اتَّسعت فتوح موسى في أفريقيا ولَّى مولاه طارقًا على طنجة وأعمالها وترك عنده ١٩٠٠٠ فارس من البربر ممن أسلموا وحسُن إسلامهم، ورجع موسى إلى أفريقيا ولم يبقَ في تلك البلاد إلا مدينة سبتة لم تخضع لحكم المسلمين، وهي تدخل قليلًا في البحر وتشرف على بحر الزقاق المسمى الآن بوغاز جبل طارق. وكان حاكم سبتة هو الكونت يوليان المتقدم ذكره، ويقول مؤرخو العرب إنه ظل ثابتًا على ولائه لرودريك (لذريق) حتى أساء رودريك إلى ابنته فنقِم عليه وحرَّض العرب على فتح إسبانيا. وينكر مؤرخو الإفرنج ذلك السبب، ويقولون إنه إنما أعان العرب على فتحها لأنه من أقارب غيطشة، وقد فعل ذلك انتقامًا من رودريك لأنه سلب المُلْك منه.
وكان جماعة البربر في المغرب يعبدون الأوثان إلا بعض مَن خالط الروم على شواطئ البحر فإنهم اعتنقوا النصرانية وهم قلة، وكان لكل قبيلة أصنام وعبادات، وكهنة يديرون شئونها ويتولَّون الأحكام بين أهلها، ويحلون المشاكل التي تقع فيها كما كان يفعل الكهان عند العرب في الجاهلية، غير أن الكاهن يسمَّى عند البرابرة «ماربوط» فيأتون إليه للاستشارة في حرب أو سِلم، ويحملون إليه الهدايا من الماشية أو الحنطة أو الرقيق الأسود أو الأبيض.
وكان التجار وغيرهم من الروم والقوط يسطون على قبائل البربر، فيخطفون الأطفال والغلمان ويحملونهم إلى الآفاق يتَّجرون ببيعهم، كما كانوا يتَّجرون بغلمان البيض من أهل إسبانيا وغيرها، والغالب أن يكون هؤلاء من أسرى الحرب. وكان بيع الأسرى شائعًا في تلك العصور، واشتهر برابرة المغرب بركوب الخيل.