رودريك وأوباس
كان المسلمون على ما ذكرنا من تيقُّظهم ونهوضهم للفتح، والتوفيق حليفهم، ورودريك في بلاطه على نحو ما تقدم من انصرافه إلى الترف والرخاء، وقد تركناه وهو يكاد يتمزق غيظًا من أوباس لإخراج فلورندا من بين يديه بعد أن كادت تقع فريسة له؛ فطلب محاكمته في مجلس الأساقفة، فلما رأى منه ما كاد يفضح أمره أسرع إلى إنهاء الجلسة بحجة تأجيل النظر في تهمة أوباس إلى جلسة أخرى كما تقدم، وهو لا ينوي العود إلى ذلك وإنما اتخذه ذريعة للتحفُّظ على أوباس في السجن ريثما يبحث عن فلورندا.
فلما انقضت الجلسة عاد رودريك إلى قصره والأب مرتين إلى جانبه يُطنِب فيما كان من تغلُّبهم على أوباس وإرغام أنفه، والملك مع اقتناعه بتغلب أوباس عليه في تلك الجلسة صدَّق ما تزلَّف به مرتين إليه، وحسب نفسه مخطئًا بحكمه على نفسه بالضعف واقتنع بفوزه المبين، وكأنه نسي ما كان من الصواعق التي أنزلها أوباس على رأسه في أثناء المحاكمة، وعمي عما كان من سقوط عرشه لو لم يتدارك الأمر بإنهاء الجلسة، والأساقفة الحاضرون يميلون إلى تبرئته حفاظًا لكرامة مناصبهم، ولكن الإنسان يتفانى في حب الذات؛ لذلك يسهل انقياده إلى الاقتناع بفضله على سائر الناس عقلًا ورأيًا وقوةً، ويقوى فيه هذا الاعتقاد كلَّما ضعُف عقله وأظلمت بصيرته؛ لأن حب الذات يدعونا إلى الاعتقاد بأننا أمضى الناس عزيمة وأصوبهم وأصحَّهم مذهبًا، بل هو يوهمنا بأن كل ما هو لنا خير مما لسوانا، فأصبح كلٌّ منا يعتقد أن ابنه أحسن من أبناء سائر الناس، وزوجته خير من نساء العالمين. وإذا كان مؤلِّفًا كانت كتابته أبلغ ما كتبه الكتاب، ونظمه أحسن ما نظمه الشعراء، والمرء مفتون ببنات أفكاره، إلا إذا كان من أهل الرأي السديد والبصيرة النقَّادة، فإن حكمه يقترب من الحقيقة بقدر ما أوتي من تلك المواهب. ولكن يندر أن نقدِّر أنفسنا حق قدرها تمامًا، ولا سيما إذا مُنينا بمن يتملقنا أو يمدح أعمالنا لمجرد رغبته في إرضائنا لا لاستحقاقٍ فينا. وأكثر الناس تعرضًا لهذه الأخطار هم الملوك وغيرهم من أهل المناصب الرفيعة، فإن الناس يتسابقون إلى استعطافهم بالتملُّق والمدح الكاذب التماسًا لنفعٍ أو تنفيذًا لغرضٍ كما تبيَّن لنا من أمر مرتين ورودريك.
فوصل رودريك إلى القصر وهو مقتنع بفظاعة ذنب أوباس وأنه يستوجب أضعاف تلك النقمة، فعزم على إبقائه في السجن ريثما يدبِّر وسيلة لاستطلاع خبر فلورندا ثم ينتقم منه. ولم يعجل بقتله خشية أن يحتاج إليه في البحث عنها، وأول شيء قام به أنه بثَّ العيون والأرصاد في ضواحي طُلَيْطلة وفي الطرق المتشعبة منها، ووعدهم بمكافأة كبيرة إذا قبضوا عليها وعلى من عساه أن يكون معها.
أما أوباس فإنه ذهب إلى سجنه وهو منشرح الصدر لاعتقاده ببراءة ساحته وسلامة طويته ونبالة مقصده، وخصوصًا بعد أن أُتيح له أن يكشف عن أعمال رودريك للمجمع ولو تلميحًا. وهو مع ذلك لم يكن يرجو أن ينقلب المجمع على رودريك، وإنما كان يهمه الانتصار للحق والإذعان لصوت الضمير الحي، شأن الذين ينتظمون في سلك الرهبنة رغبةً عن ملاذِّ هذا العالم، فهؤلاء إذا أخلصوا النية في تعبُّدهم، لم يكن بين الناس أقدر منهم على نصرة الحق؛ لزهدهم في الشهرة أو الثروة، ولاحتقارهم زينة هذا العالم، وهم إنما عمدوا إلى الرهبنة نفورًا منها، وقد كان أوباس من أمثال هؤلاء، ولم يكن سعيه في رد المُلْك لابن أخيه إلا من قبيل نصرة الحق.
أقام أوباس في سجنه المؤقت بضعة أسابيع وهو لا يبالي لو أقام فيه أعوامًا لولا انشغال خاطره بفلورندا؛ لأنه لا يعلم أين هي ولا أين ذهب بها أجيلا وشانتيلا، ولكنه رجَّح من قرائن مختلفة أنهم لم يقعوا في قبضة رودريك، وكان لثقته ببسالة ذينك الشابين وغيرتهما وصدق نيتهما في خدمته مطمئنَّ البال على فلورندا، على أنه كان شديد الرغبة في معرفة مقرها ومصير أمرها. وكان من ناحية أخرى يفكر في ألفونس وفي المهمة التي أنفذه رودريك إليها، وما قد يتعمده من أذيته إذا علم بسعيه في إنقاذ فلورندا وطلب المُلْك لنفسه، ولكنه لانطباعه على نصرة الحق لم يكن يخشى بأسًا على أهلها، فهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن على الباغي تدور الدوائر؛ ولذلك فإنه كان يتوقع وقوع رودريك في شر أعماله، وقد صرَّح بذلك غير مرة حتى بين يدي رودريك نفسه.
والإنسان العاقل إذا تدبَّر مصير الحياة الدنيا مع ما تحفل به من الأخطار، يرى الرجوع إلى غير الحق ضربًا من الجنون؛ لأن الحق هو الغالب، وهو وحده الذي يبقى.