شريش وكرومها
«شريش» مدينة في جنوبي إسبانيا تابعة لولاية قادس، على الطريق بينها وبين أشبيلية، بينها وبين مدينة قادس ١٧ ميلًا، وهي تقع بالقرب من نهر صغير هو وادي «ليتة»، والنهر المذكور ينبع من جبال ولاية قادس في الشمال ويسير نحو الجنوب والغرب فيترك مدينة شريش إلى يمينه ويجري حتى يصب في البحر الأطلانطي في خليجٍ بالقرب من مدينة قادس. ومدينة شريش تقع في منبسط من الأرض بين جبلين يكتنفانها من الشرق والغرب، وبينها وبين مجرى النهر كثير من المغارس ولا سيما الكروم؛ لأن هذه المدينة مشهورة بكرومها وخمرها المعروفة باسمها «خمر شري» الشائعة في أوروبا وهي ثمينة يُعتِّقونها ويتعاطونها على موائدهم. ومعظم ما يُصدَّر إلى العالم من خمر شري الجيد يُعصَر من كروم ضواحي هذه المدينة.
وكروم شريش تشغل مسافة كبيرة من ضواحيها إلى النهر وما وراءه على أكمات مسطحة أو مائلة، وبين الكروم بيوت المزارعين وبينها أبنية غريبة الشكل، هي عبارة عن غرف كبيرة قائمة على صفوف من الأساطين الدقيقة، والغرف عالية السقوف، في جدرانها منافذ عديدة يتخلَّلها الهواء، وهي مستودعات يختزن الكرَّامون خمورهم فيها لتعتيقها بمرور الأعوام.
وبجوار وادي شريش مما يلي وادي ليتة سهل سمَّاه المقريزي «فحص شريش»، التقى فيه طارق البربري ورودريك القوطي، وفيه كانت الضربة القاضية بفتح الأندلس، وتمتُّع العرب بغنائمها ومحصولاتها، وهان عليهم الفتح بعد ذلك حتى طمعوا في أوروبا كلها، وكانت في غاية الاضطراب والضعف، فلو ظلوا سائرين لما لقوا من يصدُّ سيوفهم أو يقف في سبيل نبالهم، ولكنهم أجَّلُوا المسير فضاعت الفرصة منهم.
ففي صيف سنة ٧١٠ للميلاد؛ أي بعد الحوادث التي ذكرناها في طُلَيْطلة ببضعة أشهر، كانت مغارس الكروم في شريش وضواحيها وعلى جانبي وادي ليتة قد نضجت أعنابها، وأخذ بعض الفلاحين في قطافها، وأخذ البعض الآخر في عمل دعامات تحمل ما ثقُل حمله من الدوالي لكبر العناقيد، واشتغل آخرون في إعداد المعاصر، وغيرهم في نقل بعض ما اختزنوه من خمور العام الماضي لاختزان خمر هذا العام.
ويشتغل في كل ذلك عائلات من أهل البلاد الأصليين، أو ممن قُضِي عليهم بالأسر في بعض الحروب فأصبحوا في مصاف العبيد، وفيهم من كان بين قومه من أهل الوجاهة، وقد صبروا على مضض الذل، وهو غير ثقيل على أهل ذلك الزمان؛ لأنه كان عادة يكابدها الجميع، لكنه لم يكن يمنع تذمُّر أولئك الفلاحين من تلك الحال، وأكثرهم يشكون من صاحب تاج طُلَيْطلة. على أن الرأي العام لم يكن راضيًا عن رودريك لأسبابٍ تقدَّم ذِكْر بعضها.
وكانوا من الناحية الأخرى قد سمعوا بنزول العرب إلى بلادهم عند بحر المجاز (بوغاز جبل طارق) ولم يكترثوا بنزولهم ولا علَّقوا عليه كثير أهمية. وكان في جملة هؤلاء شيخٌ طاعنٌ في السن قضى حياته في الأسفار بإسبانيا وما يقابلها من الناحية الأخرى بأفريقيا حتى وصل إلى مصر والشام، وشاهد بعض أحوال العرب في أوائل ظهور الإسلام، فكانوا إذا ذكروا العرب بين يديه يقول: «لا ينجينا من هذا الملك إلا هؤلاء.» فلما قيل له إنهم عبروا البحر قال: «لقد قرب الفرج.»