بدر ويوليان
دخل الشيخ وأخذ يجيل بصره في أطراف الخيمة للبحث عن ابنته، فرآها جالسة في أحد جوانبها على الأرض، ولما وقع بصرها على أبيها، مع ضعف نور المصباح هناك، وثبت نحوه وهي تصيح: «أبي، أبي.» فاستقبلها الشيخ بين ذراعيه وقد دمعت عيناها من البغتة والفرح، ونظر إلى صدر الخيمة فإذا هناك رجل كبير الهامة عليه العمامة والجبة، فعرف أنه من البربر، وبجانبه رجل بملابس القوط لم يحدق فيه إلا قليلًا حتى عرف أنه يوليان صاحب سبتة، فلم يستغرب ذلك لأنه كان قد سمع عن اتفاقه مع المسلمين على القوط، وكان يحسب ذلك إشاعة كاذبة، فلما رآه تحقق من الأمر وأيقن أن العرب غالبون لا محالة.
مرت كل هذه الخيالات في ذهن الشيخ في لحظة وهو معانق ابنته يخفف عنها، وسمع صاحب سبتة يقول له بلغة الإسبان: «لعل هذه الفتاة ابنتك؟»
قال الشيخ: «نعم يا مولاي.»
قال يوليان: «لا خوف عليها فإنها في أمان، ولا تظن أن مجيئك غيَّر شيئًا من عزمنا في شأنها، فقد كان الأمير عازمًا على إرجاعها إليك آمنة سالمة، وأما بكاؤها الذي تراه فإنما هو من خوفها. وقد ظنت هؤلاء العرب يرتكبون مثل ما يرتكبه حاكمكم رودريك، فإنه بمثل هذا الفعل الشنيع سيخرج سلطانه من يديه إن شاء الله.» قال ذلك وانقبضت أسارير وجهه للحال فلم يدرك أحدٌ سبب ذلك الانقباض. على أنه استطرد في الكلام قائلًا: «وأما سبب مجيئها إلينا، فإن أحد رجال الأمير خرج في أصيل هذا اليوم لحاجة فرآها في الطريق فجاء بها وهو يحسبها من السبايا، فلما علم الأمير بذلك أنكره عليه، وقد كانا في جدال عنيف في هذا الشأن إلى ساعة دخولك.»
ولم يتم يوليان كلامه حتى وثب إلى وسط الخيمة شاب بملابس العرب وعلى رأسه عمامة صغيرة، ولكن سحنته غير سحنة العرب ولا البرابرة، وهو في مقتبل العمر تتدفق الصحة من عينيه وجبينه ونظر إلى يوليان وهو يقول: «أراك حرمتني من غنيمتي رغبة في مرضاة أبناء عشيرتك.»
فأجابه طارق، وهو يبتسم، قائلًا: «لا تتعجل يا بدر، فإنك ستصيب كثيرًا من الغنائم، فنحن في أول الطريق، وغدًا تلتقي بجند طُلَيْطلة فما تظفر به من غنائم أو سبايا فهو لك، أما الآن فإننا لسنا في حرب، ولا يمكننا أن نعد هذه الفتاة سبية، وهذا أبوها شيخ قد طعن في السن، وقد رأيت ما كان من لهفته عليها، فهل يليق بنا أن ننغِّص عيشهما بلا حق؟ والإسلام إنما يدعو إلى الرفق والعدل، وأما السبايا التي تؤخذ بالحرب فهي حلال لأصحابها، ومَنْ كان في مثل بسالتك وجهادك يظفر بأحسن الغنائم وأجمل السبايا.»
ثم التفت طارق إلى الشيخ وقال: «انصرف أيها الشيخ إلى منزلك وأنت في أمان حتى تصل إليه، واعلم أننا لم ندخل هذه البلاد إلا رحمة بأهلها، وإن ديننا يأمرنا بالرفق والإحسان، فكن أنت وكل أهل الأندلس على يقين من أن مَنْ يكف يده عن حربنا فهو في ذمتنا ولا خوف عليه. وأما الذين يجسرون على مناوأتنا فما دواؤهم إلا السيف.» ثم نادى: «يا غلام.» فدخل رجل بربري من أعوان طارق فقال له: «اصحب الشيخ وابنته حتى يصلا إلى مسكنهما.»
فهمَّ الشيخ بتقبيل يد طارق، فمنعه وطيَّب خاطره وصرفه. فخرج وهو يثني على ما لاقاه من طارق وقال في نفسه: «بمثل ذلك يملك الأمير الرعية ولا يملكهم بالعنف أو الظلم.»
أما بدر فإنه سكت احترامًا لطارق وفي نفسه حزازة على يوليان لاعتقاده أنه هو الذي منعه من غنيمته، ولكنه كظم ما في نفسه وخرج من الخيمة إخفاءً لعواطفه.