موكب المَلِك
فأراد ألفونس أن يجيبها فسمع صفيرًا فبُهِت وأرهف السمع، فسمع قرع الطبول وقرقعة اللُّجُم، فعلم أن موكب المَلِك راجع من الكنيسة. وقد وصل الموكب إلى القصر وهو لا يزال مستغرقًا في حديثه مع فلورندا، فندم وتحقق أنه أخطأ ولا بد من أن يسيء رودريك الظن فيه. ورأته فلورندا قد بُغِت وسمعت هي مثل ما سمع، فأدركت أنه أبطأ عن الاحتفال، فقالت له: «اذهب الآن بسلام وليكن الله معك …»
فأمسك يدها وودَّعها وهو يقول لها: «ادعي لي فإنك من الملائكة ودعاؤك مستجاب، واذكريني في صلاتك عساي أن أوفق لمرضاتك.» فأجابته بإشارة من أهدابها وحاجبيها، فانطلق نازلًا نحو القارب ليبعد به عن الحديقة، ثم يركب فرسه إلى القصر من طريق آخر. وظلت فلورندا واقفة وهي تُشيِّعه ببصرها حتى توارى، فعادت إلى هواجسها والعجوز بين يديها، فرجعتا نحو القصر وفلورندا لا تتكلم لعِظَم ما قام في نفسها بعد ذلك الحديث، وقد ندمت لتعريضها بأمر المُلْك، وخشيت أن يؤدي ذلك إلى ضررٍ يصيب حبيبها.
أما رودريك فقد سار بموكبه إلى الكنيسة في ذلك الصباح، وفي نفسه شاغل من أمر ألفونس؛ لأنه كان يتوقع أن يراه في الموكب في جملة الحاشية، وكانوا قد زينوا الكنيسة للملك زينة باهرة بالرياحين، وأضاءوا الشموع وأوقدوا البخور حتى انتشرت رائحته على ما جاور الكنيسة، وكانت أصوات المرتلين والمصلين تدوِّي فتُسمع لمسافة بعيدة، والناس يتزاحمون لمشاهدة مركبة الملك حتى كادوا يدوسون بعضهم بعضًا، والمطلُّون من الأسطح والنوافذ أكثر من المارين في الأسواق.
ولما أقبل الملك بموكبه، خرج الأساقفة لاستقباله ووراءهم وبين أيديهم الشمامسة والرهبان يحملون المشاعل من الشمع، وبعضهم يحمل الصليب، وآخر يحمل الكأس، وآخر غير ذلك من شارات النصرانية، فترجَّل الملك عن بُعْد وترجَّل من كان معه، فكان أول من استقبل الملك رئيس الأساقفة فحيَّاه، فانحنى الملك على يده وقبَّلها وقبَّل صليبًا مرصَّعًا كان فيها، ومشَوا جميعًا في فناء الكنيسة الخارجي والأساقفة ورجال الكهنوت أمامهم حتى أقبلوا على واجهة الكنيسة من الغرب فدخلوا من بابها، وهو يتألَّف من ثلاثة أبواب: أوسطها أعظمها، عتبته العليا على شكل قنطرةٍ مثلَّثةٍ عليها نقوش محفورة تمثِّل الملائكة وبعض القديسين والأنبياء، فمشى الملك وعلى رأسه تاج من الذهب يشبه تاج الرومان، وشعره مسترسل على كتفيه وظهره، وشعر لحيته وشاربه مسترسل إلى صدره، وبين يديه كل أشراف المملكة بشعورهم المسترسلة وقبَّعاتهم المتشابهة، وهم مبتهجون بما يحِسُّون به من الزهو في ذلك العيد. وساروا في صحن الكنيسة بين أعمدة فخمة من الرخام النقي أو المرمر، مُقامة في ثلاثة صفوف من الغرب إلى الشرق يزيد عددها جميعًا على ثمانين عمودًا، وارتفاع الكنيسة من صحنها إلى أعلى قبتها ٤٦ مترًا، وطولها يزيد على مائة متر. وقد زادها فخامةً في ذلك اليوم ما علَّقوه فيها من الثريَّات المضيئة بالشموع الملوَّنة والقناديل المُنارة بالزيت أمام الصور، وقد تصاعد البخور وعلت أصوات المرتلين يتخلَّلها غوغاء الناس بالرغم مما كان يبذل الكهنة في سبيل إسكاتهم.
وظل الملك ماشيًا حتى جلس على كرسي خاص به إلى جانب الهيكل، واستقر سائر حاشيته في مجالسهم وهم يرسمون علامة الصليب. أما الملك فكان يفعل مثلما يفعلون، وعيناه شائعتان في حاشيته من الجماهير كأنه يفتِّش عن شيء ضائع. وكان يجلس على كرسي عن يمينه قسٌّ كان يلازمه دائمًا، فيقيم معه في قصره ويصلي له صلاة النوم وصلاة الصبح، وهو الذي يوجهه ويرشده وينصحه. وكان الملك لا يذهب إلى احتفالٍ إلا صَحِبَه، ولم يكن يُبرِم أمرًا إلا بمشورته، واسمه الأب مَرْتين، وكان طاعنًا في السن وقد شاب شعره ودقَّ عظمه وتجعَّد جلد وجهه، واستطالت أسِرَّة جبهته، وغارت عيناه، وزادهما غورًا واختفاءً إرسال شعر حاجبيه فوقهما. وقد تساقطت أسنانه وانخفضت شفتاه حتى أصبح فمه واديًا بين جبلين. وكان في شبابه وكهولته سريع الكلام، فلمَّا سقطت أسنانه خالط كلامَهُ تمتمةٌ تُتعِب السامع في تفهُّم ما يقول، وكان قصير القامة منتصِبَهَا مثل قامة الشُّبَّان، وكان شديد التعلُّق بكرسي رومية لأنه رَبِيَ فيها، فشبَّ روماني المبدأ والغرض. ولم يكن يحب جنس القوط على الإطلاق، فكان لذلك من أكبر المساعدين على تنصيب رودريك.