دير الجبل
فتقدَّم أجيلا وكأنه تذكر أمرًا ذا بال، وقال: «لقد أعاد كلام الخالة إلى ذاكرتي أديرةً للنساء العذارى. إن الإقامة فيها أولى لمولاتي لأنها تكون بين عذارى مثلها.»
فقطعت العجوز كلامه قائلة: «صدقت يا أجيلا، ولم أكن أجهل وجود هذه الأديرة ولكنني لم أتم كلامي بعد. إن أديرة العذارى مناسبة لي ولفلورندا، ولكننا لا نستغني عن أحدكما معنا، فأين يقيم وإقامته معهن محظورة؟» قالت ذلك وصبرت لحظة وفي ملامح وجهها أنها لم تنته بعدُ من الكلام، ثم قالت: «في إسبانيا من الأديرة ما يجتمع فيها الرهبان والراهبات معًا في دير واحد بدون اختلاط، وذلك أن بعض الأرامل من النساء يرغبن بعد موت أزواجهن في الانقطاع عن العالم والتعبد، فيقمن في أديرة خاصة بهن وقد يكون معهن بعض العذارى، ولكن بعضهن يبالغن في التنسك والرغبة عن العالم، فيقمن في أديرة لا يخرجن منها على الإطلاق، ومثل هذه الأديرة كثيرة في هذه البلاد ولا أظنكم تجهلون وجودها، ولكني أعرف ديرًا بين هذه الجبال (جبال طُلَيْطلة) خُصِّص جانب منه للرهبان والجانب الآخر للراهبات، وكل طائفة منهما في قسم من الدير لا علاقة لها بالطائفة الأخرى ولا بسائر العالم إلا نادرًا، ولا يلتقي الراهبات والرهبان معًا إلا في الكنيسة في أوقات الصلاة. وقد علمت من قواعد هذه الرهبنة أن الراهبة لا يمكنها مخاطبة أحد من الناس حتى رئيس الدير أو وكيله إلا بوجود راهبتين أخريين، وهذا التدقيق نافع في منع المحظورات، فأرى — إذا استحسنت فلورندا — أن نذهب إلى ذلك الدير فنقيم أنا وهي في قسم الراهبات، وأنت وأخوك تقيمان في قسم الرجال. نقيم هناك ضيوفًا لنرى ماذا يكون.»
فالتفتت فلورندا وقد أشرق وجهها وقالت: «بورك فيكِ يا خالة، لقد نطقت بالصواب. هلم بنا إلى ذلك الدير، هل هو بعيد عنا؟»
قالت: «لا أظنه يبعد عنا إلا مسيرة يوم وبعض يوم، وطريقنا إليه غير مطروق فلا نخاف عينًا ولا رقيبًا.»
قالت فلورندا: «هل تعرفين الطريق بنفسك؟»
قالت: «أظنني أعرفه، وقد مررت بذلك الدير منذ بضعة أعوام. سيروا بنا على بركة الله.»
قالت فلورندا: «أرى يا خالة — قبل كل شيء — أن يذهب أجيلا بالكتاب إلى أبي، فإذا عاد منه بخبر جاءنا إلى ذلك الدير.»
قالت: «لكِ الأمر فافعلي ما تشائين.»
فالتفتت فلورندا إلى أجيلا وقالت: «سر في حراسة المولى، ومتى رجعت تعالَ إلى دير الجبل الذي سمعت خبره، وإذا استطعت معرفة خبر الأمير ألفونس فإنك أحصف من أن أوصيك بالذي ينبغي أن تفعله.»
فانشرح صدر أجيلا لهذا الإطراء وانحنى بين يديها وودعهم وانطلق، أما هم فخرجوا من القارب وحمل كلٌّ منهم ما يستطيع حمله وأوغلوا بين التلال والجبال، ودليلهم العجوز وهي تسير أمامهم كأنها تلتمس منزلًا تذهب إليه كل يوم.
قضوا عدة ساعات لم يلتقوا في أثنائها بعابر ولا جالس، وأكثر التلال التي قطعوها جرداء إلا ما كان على جوانب الأودية من شجر ملتف مهمل قلَّما امتدت إليه يد الإنسان، وكانت الأمطار قد أغرقتها في الليل الماضي وتخللتها السيول، فلما صحا الجو في ذلك الصباح وأشرقت الشمس ساد الدفء. على أن وعورة الطريق أتعبتهم وخصوصًا فلورندا، وهي لم تتعود هذه المشاق، ناهيك بما في قلبها من لعواعج الحب وما ينتابها من الهواجس والأشواق.
قضوا معظم النهار في المسير وباتوا وشانتيلا حارسهم وعونهم في كل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، ومشوا معظم اليوم التالي ولا حديث لهم إلا تكرار ما فات، حتى إذا مالت الشمس نحو الأصيل وصلوا إلى سفح جبل أطلوا منه على بناء شامخ أشبه بالحصون منه بالأديرة، فلما شاهدته العجوز صاحت «هذا هو، قد وصلنا، ولكن لا بد لنا من الصعود.»
قالت فلورندا: «فلنصعد.» ولملمت أثوابها مشمرة وهرولت إليه، فعلت ذلك لشدة رغبتها في الوصول والاستراحة وإرسال شانتيلا لاستطلاع الأخبار من طُلَيْطلة عن مصير ألفونس وعن حال أوباس، ورَأْي رودريك في فرارها … كذلك هرولت العجوز وشانتيلا بين يديهما حتى وصلوا إلى الدير، فإذا هو في ساحة في سفح ذلك الجبل، وهو بناء قديم العهد غريب الشكل، حوله سور من الحجارة الضخمة الكبيرة، وربما زادت مساحة ذلك الدير على ثلاث قصبات أو أربع، وشكله مربع طوله نحو خمسمائة قدم، والسور عظيم الارتفاع ليس فيه من النوافذ سوى شقوق مستطيلة في أعلاه، وباب واحد في أحد جوانبه، والباب صغير جدًّا بالنسبة إلى ضخامة ذلك السور، يراه الناظر كالنقطة في الصفحة. وفي أعلى السور فوق ذلك الباب برج حصين كأنه قلعة، وهو مكان للمراقبة يقيم فيه حارس الباب.
وقفت فلورندا وخالتها وشانتيلا وهم يلهثون من التعب ويعجبون من منظر ذلك الدير، فلما استراحوا قال شانتيلا: «هل تأذن مولاتي بأن أقرع الباب وأستأذن في الدخول؟»
قالت: «افعل.»
فتقدم شانتيلا حتى وقف بالباب، فإذا هو مصفَّح بالحديد تصفيحًا متينًا، وقد استدل على سُمْك ذلك الحديد من ضخامة رءوس المسامير التي كانت بارزة فوق سطح الباب، ولا يزيد ارتفاع الباب على قامة الإنسان إلا قليلًا، فتفرَّس في جوانبه لعله يرى حلقة يدق بها فلم يجد شيئًا، ثم وقع بصره على حبل مرسل من ثقب في أعلى الباب نحو الخارج، فأمسكه وشدَّه فسمع جرسًا يدق في الداخل فعلم أنه قد أصاب، ثم انتظر بعد الدق هنيهة فرأى رأسًا أطل من نافذة صغيرة في البرج المذكور، وقد كساه شعر ناصع البياض حتى لم يظهر من وجهه إلا أنف بارز، وعينان تتلألآن في غَوْرين فوقهما حاجبان بارزان، وفوق الحاجبين جبين أصبحت تجاعيده كالميازيب أو الأخاديد. أطلَّ الشيخ برأسه ولبث برهة لا يتكلم، فلم يصبر شانتيلا على سكوته لعلمه بما ألمَّ بفلورندا من التعب فصاح فيه: «أما من مأوًى عندكم للغرباء ولو إلى حين؟»
وما أتمَّ شانتيلا كلامه حتى تراجع الشيخ من النافذة واختفى ولم يُبدِ جوابًا، ولم تمض برهة حتى سمعوا قلقلة مفتاح وراء الباب توسموا منها قرب الفرج. وطال زمن القلقلة ثم سمعوا صريرًا فتدانوا إلى الباب يتوقعون فتحه، فإذا هو لا يزال مغلقًا فلبثوا ينتظرون، فعادت القلقلة ثم سمعوا الصرير ولم ينفتح شيء فملُّوا الانتظار وخشوا أن يكون وراء ذلك ما يوجب الخوف ولا سيما فلورندا، فإنها كانت واقفة وبصرها مثبَّت على ذلك الباب.
وأما العجوز فقد كانت جالسة على حجر وقد ذبلت عيناها من أثر التعب من مسير ذلك اليوم حتى كادت تنام، وإذا بصرير عنيف استرعى انتباهها، فنظرت فرأت الباب ينفتح بتثاقُل كأن فاتحه يجر ثقلًا كبيرًا، فظلَّت فلورندا في مكانها وتقدم شانتيلا نحو الباب، فاستقبله ذلك الشيخ وعليه لباس الرهبان في أبسط أحواله، وهو رداء أشبه شيء بالعباءة يستر بدنه إلى الركبة، وساقاه عاريتان، وقدماه حافيتان، وقد أصبح أخمصاهما كالنعال لطول ما مرَّ بهما من مصادمة الأحجار والاحتكاك بجذوع الأشجار. خرج الشيخ الراهب وبيده عكاز أعقف الطرف قبض على عقفته بأنامل كأنها عظام عارية، وقد تصلَّبت مفاصلها ونتأت من أعلى الكف، حتى أصبح بسط تلك الكف مستحيلًا، وكأنها خُلِقت للقبض على ذلك العكاز، وما زالت قابضة عليه حتى تصلَّبت وهي متقبضة.
وكانت تلك العباءة قصيرة الأكمام، وقد ظهر كوع الراهب وقد خَشُن جلده حتى لتحسبه إذا نظرت إليه كأنه أخمص القدم، وكأن الشيخ قضى عمره يدب على أخمصيه وكوعيه.