فترة انتظار
أطلَّ الشيخ عليهما وظل واقفًا بالباب، فأسرع الجميع إليه وأولهم شانتيلا فإنه نزع قبعته عن رأسه وهمَّ بيد ذلك الشيخ فقبَّلها وفعلت ذلك فلورندا وخالتها.
فقال الراهب الشيخ، وفي نغمات صوته خشونة البرية: «ما الذي جاء بكم إلى هذا المكان؟»
فقال شانتيلا: «جئنا نلتمس البركة من صاحب هذا الدير، فهل هناك ما يمنع؟»
قال: «كلا، ولكن هذا الدير قسمان: قسم للرهبان، وقسم للراهبات، فأيهما تريدون؟»
قال شانتيلا: «كما تشاءون …»
قال: «وعلى كل حال فإن ذلك يرجع إلى رأي الرئيس العام.»
ثم اتجه إلى الداخل وأشار إليهم أن يتبعوه، فدخلوا في أثره، فإذا بالباب يؤدي إلى دهليز قصير فيه بابان آخران مصفَّحان بالحديد مثله، وانتهيا من الدهليز إلى فناء واسع سقفه القبة الزرقاء. ولم يطئُوا الفناء حتى سمعوا الأبواب تُغلَق، ونظروا إلى ما حولهم فرأَوْا جدران ذلك الدير هائلة الارتفاع، وهم في باحة مرصوفة بالحجارة الصلبة أو لعلها من صخر الجبل نفسه، وأحست فلورندا كأنها في سجن حصين.
فمشى بهم الراهب بضع خطوات نحو اليسار، فانتهى إلى باب يلي الجدار الذي دخلوا منه ففتحه وأدخلهم فيه، فإذا هي غرفة تؤدي إلى عدة غرف، فأشار الراهب إلى الغرفة وقال: «هذه دار الضيافة فأقيموا فيها ريثما أقابل حضرة الرئيس وأخبره بأمركم، وما يأمر به يكون.» قال ذلك وتحوَّل يريد الخروج، فسمعوا جرسًا يدق ورأوا الراهب حين سمع دقات الجرس يلقي العكاز من يده ويرسم إشارة الصليب ويقف باحترام، ففعل الجميع مثل ما فعل دون أن يدركوا السر في ذلك.
على أن الراهب ما لبث أن التفت إليهم وهو يقول: «لا سبيل لنا إلى مخاطبة الرئيس الآن؛ لأن الصلاة قد آن أوانها، وقد نزل الجميع إلى الكنيسة، وأنا أيضًا سأذهب، وبعد الصلاة نرى ماذا يكون.»
فلمَّا سمعت فلورندا ذكر الصلاة انشرح صدرها وتذكرت ما كان من صلاتها الحارة منذ بضعة أيام، وكيف أنقذها الله بها، فتقدمت إلى الراهب وهي تخاطبه بلسانها العذب وصوتها الرخيم: «ألا يسوغ لنا حضور القداس واستماع الصلاة يا سيدي؟»
قال: «الصلاة لا تُحجَب عن مسيحي، والكنيسة لا تغلق أبوابها في وجه أحد.»
فمشى الراهب أمامهم وهم يتبعونه في وسط تلك الباحة، حتى انتهوا في صدرها إلى باب كبير، وقبل الوصول إليه اشتموا رائحة البخور، فعلموا أنه باب الكنيسة، فدخلوا منه في أثر الراهب فأطلوا على مذبح في صدره، وقد قسم صحن الكنيسة إلى شطرين: شطر للراهبات، وشطر للرهبان، فهداهم الراهب إلى مكانٍ وقفوا فيه لاستماع القداس، وكان أكثرهم تخشُّعًا فلورندا، فكم قرعت صدرها، وكم توسلت إلى الله، وإلى السيد المسيح أن ينجي خطيبها من المهالك ويعيده إليها سالمًا.
فلما انقضت الصلاة تفرَّق الجمع، فخرجت الراهبات من باب، وخرج الرهبان من باب آخر، وعاد الراهب العجوز بفلورندا وصاحبيها نحو دار الضيافة. ولاحظ، وهم خارجون، أن فلورندا أخرجت من جيبها نقودًا وضعتها أسفل الأيقونة التي كانت تصلي أمامها، ورأى النقود صفراء لامعة، فاستدلَّ من ذلك على أن الضيوف من أهل الثراء، وربما تبرعوا بمال كثير لصندوق الدير، فرافقهم إلى دار الضيافة، وهرول راجعًا وهو يتوكأ على عصاه حتى وصل إلى الرئيس، وقصَّ عليه ما كان من مَقْدِم هؤلاء الغرباء إلى أن قال: «ويبدو من مظهرهم ولهجتهم أنهم من أهل طُلَيْطلة، ويؤيد ذلك ما رأيته من كرمهم، فهل تأذن لهم بالمثول بين يديك؟»
فقال الرئيس: «بل أرى أن أذهب أنا إليهم.»
قال ذلك ونهض وعليه رداء بسيط أيضًا، ولكنه أرقى حالًا من رداء الراهب البواب، وهو عبارة عن عباءة أطول قليلًا من تلك، وقد تمنطق عليها بحبل واحتذى نعلًا من خشب وعلى رأسه شبه قبعة سوداء. وكان الرئيس كهلًا بدينًا ربع القامة، حسن الطلعة، صحيح الجسم، نَيِّر البصيرة، وكان كثير المطالعة والبحث، فصيح اللسان؛ ذلك ما رفعه إلى درجة الرئاسة وهو كهل، وتحت سيطرته عشرات من الرهبان معظمهم شيوخ مثل راهبنا العجوز. والرقي في رُتَب الكهنوت يغلب أن يكون عن أهلية، إذ لا تأثير هناك لدالة القرابة أو نفوذ العصبية، والكل سواء في الاغتراب والاعتزال لا يتفاضلون بميراث ولا بصنيعة، ولكلٍّ منهم نصيبه من اجتهاده وسعيه وكفايته، فإذا ارتقى راهب إلى الرئاسة أو نحوها في سن مبكرة، كان ذلك دليلًا على تفوُّقه على رفاقه فيما يؤهله إلى تلك الرتبة. ويغلب في هذه الأحوال أن يكون السابق محسودًا أو مكروهًا، أما رئيس دير الجبل فقد كان على العكس من ذلك لما فُطِر عليه من اللطف والدعة وكرم الخلق، بدليل أنه لما سئل عن مجيء أولئك الضيوف إليه فضَّل أن يذهب هو إليهم بنفسه تلطُّفًا منه وتواضعًا.
وكانت فلورندا حين عادت من الكنيسة جالسةً على مقعد في إحدى غرف الضيافة، وقد هاجت أشجانها وتنبَّه ذهنها للتفكير في ألفونس، فاستغرقت في الهواجس، والعجوز إلى جانبها صامتة لا تتكلم وقد غلب عليها النعاس لفرط التعب، وشانتيلا واقف بجوار الباب ينتظر عودة الراهب، وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب. ولمغيب الشمس في الجبال هيبة ورهبة، ولا سيما حيث يقلُّ الناس.