حديث مع الرئيس
لم تمضِ برهة حتى أقبل الرئيس وبيده رَقٌّ كان يطالع فيه حين حدَّثه الراهب، فلما رآه شانتيلا تأدَّب في وقفته، وقد توسَّم فيه رجلًا يعرفه أو أنه يشبه رجلًا يعرفه، على أنه لم يكن يستطيع التفكير طويلًا في تلك الفرصة الضيقة. فلما دنا الرئيس من دار الضيافة أشار شانتيلا إلى فلورندا أنه قد أتى، وتقدَّم هو حتى جثا بين يديه وتناول أنامله فقبَّلها، والرئيس يُظهِر عدم ارتياحه إلى ذلك المجد الباطل. ولما دنا من الباب خرجت فلورندا لاستقباله وجثت وقبَّلت يده وكذلك فعلت خالتها. وكان الرئيس عندما استقبل الفتاة لم يمعن نظره فيها على جاري العادة فيمن يتأدب من الرهبان، على أنها حين جلست بين يديه تذكر أنه رآها قبل الآن فقال لها: «هل هذه السيدة والدتك؟»
قالت: «كلا يا مولاي، بل هي خالتي.» قالت ذلك واستعاذت بالله من تلك الأسئلة، وخشيت أن يسألها عن اسمها ونسبها، ولا مندوحة لها عن الجواب الصريح لأنها تكره الكذب كرهًا شديدًا، وودَّت لو يوجه الرئيس أسئلته إلى شانتيلا لأنه أقدر منها على التخلص من الصدق الصريح. على أنها تذكرت ما للناس من الثقة في جماعة الكهنة، فهم يعلنون لهم أسرارهم بالاعتراف ويقصون عليهم كل ما اقترفوه ولو كان عظيمًا، فهان عليها الأمر وعزمت على أن تجعل حديثها مع الرئيس من باب الاعتراف إذا رأت ما يدعو إلى ذلك.
مرت كل هذه الخواطر في ذهنها في لحظة، فلما سألها الرئيس السؤال الثاني كانت قد تهيَّأت للجواب فقال لها: «ومن أين أنتم قادمون؟»
فالتفتت فلورندا إليه وقالت: «إذا أذن لي حضرة السيد، تجاسرت بعبارة أرجو ألَّا تثقل عليه.»
قال: «كلا، قولي.»
قالت: «إذا لم يكن لسيادتكم بُدٌّ من الاستفهام عن كل ما يتعلق بنا، فإني أرجو أن تجعل ذلك على سبيل الاعتراف؛ لأن في قصتنا سرًّا لا يمكن التصريح به لأحد إلا عن هذا السبيل.»
فحنى الرئيس رأسه مطيعًا وقال: «لا يهمني البحث عن أحوالكم إلا لأنني أرجو أن أتمكن من خدمتكم في شيء، فأنتم مخيَّرون في الكلام أو السكوت، وعلى كل حال فإنكم ضيوف مكرمون.»
فقالت فلورندا وقد أُعجِبت بلطف الرئيس: «نشكرك، ولا نقبل مع ذلك إلا إطلاعك على سرنا لما توسَّمناه فيك من اللطف، ومكاشفةُ أمثالك بالأسرار فرج ورحمة، فهل نغلق الباب؟»
وكان شانتيلا قد سمع شيئًا من كلام فلورندا فابتعد عن الباب فخفَّ الرئيس بنفسه إلى الباب كأنه يهم بإغلاقه، ولكنه أشار إلى العجوز ولسان حاله يقول: «وهل تبقى هذه المرأة لسماع الاعتراف؟»
فأدركت فلورندا قصده فقالت: «إن هذه الخالة مستودع أسراري فلا بأس من بقائها.»
فأغلق الرئيس الباب فأظلم المكان فعاد ففتحه وصفَّق، فجاء راهب وبيده مصباح مضيء بالزيت، فوضعه على مسرجة في الحائط وانصرف، فأغلق الرئيس الباب وجلس وأصاخ بسمعه لما تريد فلورندا أن تقصه عليه، ولم تكد تبدأ بالحديث حتى اهتم بالوقوف على بقية الحديث وإن لم تكن قد صرَّحت له بكل شيء، وإنما قالت له: «نحن من طُلَيْطلة وقد خرجنا للتخلص من أناس أرادوا اغتيالنا فلم نجد وسيلة للنجاة غير الفرار.»
فقال الرئيس: «ولماذا لم تلجئُوا إلى جلالة الملك فإنه المكلَّف بنصرة المظلومين؟»
فلم تدر فلورندا بماذا تجيب، وأدرك الرئيس ارتباكًا فتوسَّم شيئًا أحب أن يقف على حقيقته، فقال: «يظهر أن الملك أيضًا من جملة من تخافون؟»
فتصدت العجوز للجواب وقالت: «نعم، ولماذا الكتمان؟ بل كان خوفنا من الملك نفسه.»
فبُغِتت فلورندا لهذا التصريح، ولكنها اطمأنت لاعتمادها على سر الاعتراف وهو مقدَّس لا يباح به. ولحظ الرئيس بغتتها فقال لها: «ومن هو الرجل الذي جاء معكما؟»
قالت فلورندا: «هو من أتباع بعض أهلنا.»
فابتسم الرئيس وقال: «أليس هو من أتباع الأمير ألفونس؟»
فلما سمعت فلورندا ذكر ألفونس تصاعد الدم إلى وجهها حتى كادت تختنق، وتلعثم لسانها والتفتت إلى خالتها كأنها تتوقع مخرجًا من عندها، فإذا بالعجوز تقول: «بلى يا مولاي، إنه من خدم الأمير ألفونس بن غيطشة ملك الإسبان السابق. وهل تعرفه؟»
فتحوَّل الرئيس من الابتسام إلى الانقباض، ولم يستطع التوقف عن الجواب فقال: «نعم أعرف غيطشة وأعرف أولاده وكل أهله. ومَنْ مِن كهنة إسبانيا لا يعرف أخاه الميتروبوليت أوباس؟! ومَنْ لم يستفد من عظاته أو قدوته أو حكمته أو درايته؟! ذلك الرجل الذي لا أظن الزمان يجود بمثله، ولكن …»
فلما سمعت فلورندا إطراءه أوباس اطمأنَّ بالها إلى أنَّ الرجل ميَّال إلى حزب الملك السابق فلا خوف منه على سرها، ولكنها لاحظت منه أنه يحاذر أن يكاشفها بما في ضميره للسبب الذي تخافه هي في مكاشفته، لولا الاعتراف، فعزمت على استطلاع حقيقة رأي الرجل وهي في مأمن على ما تقوله في ظل سر الاعتراف فقالت: «ألا تدري أين هو أوباس الآن؟»
قال: «كلا، وأين هو؟»
قالت: «إنه في ظلمات السجن منذ يومين.»
قال: «ومن ساقه إلى السجن؟»
قالت: «ساقة الملك رودريك، بعث إلى بيته بكوكبة من الفرسان فأخرجوه من فراشه.»
فوقف الرئيس مذعورًا وظهرت على وجهه أمارات الغضب وقال: «ساقوه إلى السجن، أمِثْلُ أوباس يُسجن؟ قبَّح الله الجهل. كيف تجرَّءُوا على مس يده لغير التقبيل، وكيف خاطبوه بغير الاحترام والتبجيل؟»
فتحققت فلورندا عند ذلك أن الرئيس من مؤيدي أوباس وأهله، فتاقت نفسها إلى الاستنجاد به أو مشورته في أمر ألفونس، ولكنها استحيت فأطرقت، فراحت خالتها تواصل الحديث نيابة عنها قائلة: «وألفونس، هل … تعرفه؟»
قال: «كيف لا وقد عرفته منذ طفولته، وكثيرًا ما كنا نلتقي في طُلَيْطلة أيام المواسم والأعياد على عهد المرحوم أبيه.»
فوقفت العجوز ونظرت إلى الرئيس نظر المتفرِّس وقالت: «أما وقد برح الخفاء فأخبرك أن الفتاة التي تراها بين يديك هي خطيبة ألفونس، وأراد ملك طُلَيْطلة أن يحرمه منها بالقوة فأرسله في مهمة إلى أقصى بلاد الإسبان، فلما رأت عزمه وفهمت مراده خرجت من قصره فرارًا، ثم علمنا أن رودريك ألقى القبض على أوباس لأنه ساعد على إنقاذها من بين مخالبه، هذه واقعة الحال كما هي.»