مهمة جديدة
فتفرَّس الرئيس في فلورندا وقال: «أليست هذه بنت يوليان حاكم سبتة خطيبة ألفونس؟ إني أول الشاهدين على خطبتها، وقد كان أهلها يتحدثون بخطبتها إلى ألفونس وهما طفلان، ثم خطبها، وأوباس هو الذي سعى إلى ذلك العقد، فكيف يتجرأ رودريك على حلِّه؟»
فلما سمعت العجوز كلامه تذكرت أنها كانت تراه يتردد على قصر طُلَيْطلة على عهد غيطشة بلباس غير هذا اللباس فقالت: «ألست الأب سرجيوس؟»
قال: «أنا سرجيوس وكنت كاهنًا أتردد على طُلَيْطلة بالنيابة عن هذا الدير، فلما رأيت الدسائس تتعاظم ضد المرحوم غيطشة ولم أجد سبيلًا إلى نصرته، أقمت في هذا الدير حتى توليت رئاسته. ولو أطاعني أوباس لأقمنا هنا معًا في أمن وسلام.» ثم التفت الرئيس إلى فلورندا وقال لها: «كوني مطمئنة يا ابنتي أن سرك محفوظ في بئر عميقة، واعلمي أني نصيرك ونصير أوباس في كل شيء. سامحه الله، كم قلت له: دع طُلَيْطلة وتعالَ إلى هذا الدير نعبد الله فيه ونبتعد عن دسائس العالم وشرور أهل المطامع، وعندنا من المئُونة والأموال ما يكفينا طول العمر، فأبى إلا البقاء هناك، وأظنه بقي لرعاية أبناء أخيه ولا سيما ألفونس، ثم أطرق وهزَّ رأسه وقال: «أفأوباس في السجن الآن؟»
قالت فلورندا: «علمنا أنهم ساقوه إلى السجن ولا ندري أسجنوه أم قتلوه؟ وكان في عزمنا بعد نزولنا في هذا الدير أن نبعث هذا الشاب إلى طُلَيْطلة كي يحاول أن يعرف الحقيقة ثم يعود إلينا بالأنباء الصحيحة.»
فقطع الرئيس كلامها قائلًا: «لا، لا يصلح هذا لذلك؛ لأنهم يعرفونه ويعرفون أنه من أتباع الأمير ألفونس أو الميتروبوليت أوباس، وربما قبضوا عليه وسجنوه أو قتلوه، دعوا ذلك إليَّ فقد أصبح البحث في هذا الأمر من واجباتي. كونوا في راحة حتى تأتيكم الأخبار صاغرة.» قال ذلك ونهض وهو يقول: «وقد آن لكم أن تستريحوا من عناء السفر، واعلموا أن الدير ومن فيه تحت إشارتكم؛ لأننا جميعًا صنيعة الملك غيطشة، ونحن وَقْف على خدمة ابنه وكل من يلوذ به، فهل تقيمون في شطر الدير الخاص بالراهبات ويبقى خادمكم شانتيلا في هذا القسم، أم تفضلون البقاء معًا في هذه الدار ولا يدخل إليها أحد سواكم؟»
فنهضت فلورندا وقد أحست بحمل ثقيل يزاح عنها، وشكرت الله لأنه استجاب لصلواتها، وعلَّقت آمالها بقرب الفرج فأثنت على الرئيس سرجيوس وقبَّلت يده واستشارت خالتها في الإقامة فقالت: «أرى البقاء هنا بعيدين عن الناس وشانتيلا معنا حتى نرى ماذا يكون.»
فقال الرئيس: «ذلك لكم.» ثم خرج وكان الليل قد أسدل نقابه، وأوقد الرهبان نيرانًا في بعض جوانب تلك الباحة للدفء والإنارة. وكان شانتيلا قد اختلط بالرهبان وهم يسألونه عن أحواله ولا يسمعون منه جوابًا مفيدًا. فلما خرج الرئيس من دار الضيافة سكنت الغوغاء وتشاغل الرهبان بإعداد الطعام، وبعث الرئيس إلى قَيِّم الدير وأمره بأن يعد للضيوف ما يحتاجون إليه من الطعام وسائر لوازم الراحة.
صعد الرئيس إلى غرفته وهو يشعر بالضيق مما سمع عن أوباس؛ لأنه كان يحترمه ويحبه ويغار عليه، شأن كل من يعرف أوباس لما فيه من تعقُّل ورزانة وإباء، فأخذ يفكر في سبيل إلى إنقاذه، ثم تذكَّر أنه ليس على يقين من حقيقة حاله، فعوَّل على أن يتولى البحث عن ذلك بنفسه. وكان سرجيوس بعيدًا عن هذه الأحداث لأنه لم يذهب منذ زمن إلى طُلَيْطلة، ولا في عيد الميلاد لحضور القداس الأعظم وتهنئة الملك لشواغل خاصة اقتضت تخلُّفه، ولعله لم يكن يتخلف لو لم يكن هو ميالًا إلى الابتعاد عن الملك وحاشيته لِمَا في نفسه من النقمة لغيطشة، فقد كان حاضرًا في المجمع الذي دبر استبدال رودريك به، ولم يكن هذا الاستبدال من رأيه، ولكنهم غلبوه على أمره بالأكثرية، ثم أصبح يخشى التظاهر بما يعتقده لئلا يناله غضب الملك، ولم يكن يحتمل مشاهدة ما يغاير اعتقاده، فجعل سفره إلى طُلَيْطلة نادرًا. فلما أقبل عيد الميلاد الأخير تعلَّل بما يمنعه عن الذهاب فلم ير شيئًا مما حدث لأوباس، ولو كان هناك لشهد محاكمته وسمع حجته، وإن كان حضوره لا ينفع أوباس شيئًا لأنه لا يستطيع التغلب على حزب الملك وهم الأغلبية.
فخطر لسرجيوس أن يذهب إلى طُلَيْطلة بنفسه فيعتذر للملك عن تخلُّفه في العيد، ولكنه خشي أن يتهمه أو يشك في سبب مجيئه، وأول من يثير شكوكه هو الأب مرتين؛ لأنه لا يغفل عن مثل ذلك، فرأى تأجيل الزيارة إلى يوم رأس السنة فيذهب لتهنئة الملك بالعيدين، ولا يكون ثمة ما يدعو الملك إلى الشك في سبب مجيئه، ولكنه لم يكن ليصبر عن استطلاع حال أوباس طول هذه المدة، فعوَّل على إرسال راهب يستطلع ذلك من حاشية الملك من غير أن يشاهد أوباس أو يسمع كلامه. قضى سرجيوس معظم الليل يضطرب في مثل هذه الهواجس.