حقيقة الحال
سافر الراهب على دابة من دواب الدير وعليها الخُرج، كأنه منصرف إلى المدينة على نية شراء ما يحتاج إليه أهل الدير من الأدوات والأمتعة. وكانت عادة ذلك الدير أن يرسل رسولًا لمثل هذا الشأن مرتين أو ثلاث مرات كل سنة، والغالب أن يكون ذلك في الصيف لأنهم يفضلون عدم الخروج في الشتاء كما يفعل سائر أهل الجبال. على أن ذلك لم يكن ليمنع سفرهم إلى المدن في هذا الفصل في بعض الأحايين.
قضى رسول الدير في مهمته خمسة أيام عاد بعدها، وكانت فلورندا قد ملَّت الانتظار وحسبت تلك الأيام أجيالًا. وكانت في أثناء الانتظار تصعد مع خالتها وشانتيلا إلى سطح الدير تشرف منه على الأودية والتلال لعلها تجد الرسول عائدًا. واتفق أن كان الجو صحوًا صافيًا كل تلك المدة، فكانوا إذا جلسوا على السطح أطلُّوا على جبال أكثرها عارٍ من النبات الأخضر، وبعض رءوسها وكهوفها مكسوَّة بالثلج، وكانوا يشاهدون الضباب في كل صباح يغشى الأودية، يحسبه الناظر بحرًا تتلاطم أمواجه، ويحسب ما يبرز في وسطه من قمم الجبال جُزرًا يفصل الماء بينها، فإذا ارتفعت درجة حرارة الجو قبل الظهر عاد الضباب بخارًا وعادت تلك الجُزر جبالًا. فكانت فلورندا تعلِّل نفسها في أثناء انتشار الضباب أن يكون الرسول على مقربة والضباب يحجبه عن بصرها.
وكانت تستأنس بذلك الشيخ الهرم بوَّاب الدير لأنَّ غرفته أو برجه يؤدي إلى السطح، فيخرج في بعض الأحيان فيجالسها ويقص عليها ما مرَّ به من الغرائب في أثناء عمره الطويل، وهي ترتاح إلى سماع حديثه لأنه على شيخوخته لم يكن يكثر من الكلام الذي لا يلذ للسامعين ولو كانوا شبابًا.
ففي أصيل اليوم الخامس رأت وهي على السطح راكبًا أطلَّ من بين أكمتين، وحدَّقت في القادم فإذا هو الراهب، فخفق قلبها ونادت خالتها قائلةً: «ها هو قد أتى، فلنمضِ إلى الرئيس لنسمع حديثه.»
قالت: «هلمَّ بنا إليه.» وتحولتا نحو غرفة الرئيس، وكان جالسًا ببابها يطالع في درج باللغة اللاتينية، فلما رأى فلورندا والعجوز قادمتين نهض لهما ورحَّب بهما، فقرأ على مُحيَّا فلورندا أمارات الدهشة والقلق فأدرك أنها تكتم شيئًا، فقال لها: «خيرًا يا بنية، ما الذي حدث؟»
قالت: «أرى رسولك قد قدم فاستدعِهِ لنسمع حديثه.»
قال: «وهل أتى؟ إني أشد قلقًا منك في انتظاره ولا أقلب هذه الكتب إلا تعلُّلًا وتشاغُلًا.» ونهض لساعته وأوصى خادمه بأن يسرع في استقدام الرسول، فهرول الرجل وعاد بعد قليل والرسول في أثره وهو لا يزال بملابس السفر. فلما وصل سلَّم وبارك وجلس، فقال له الرئيس: «قُصَّ علينا ما رأيته على عَجَل، وابدأ بأوباس.»
قال الراهب: «أما حضرة الميتروبوليت فإنه مسجون في حجرة على حدة.»
قال: «وما سبب سَجْنه؟»
قال الراهب: «اتهموه بالتآمر على خلع الملك وحاكموه في مجمع الأساقفة.»
فقطع الرئيس كلامه قائلًا: «وكيف ذلك ولم نسمع باجتماع ذلك المجمع؟»
قال: «فعلوا ذلك في عجلة، فألَّف الملك مجمعًا من الأساقفة الذين كانوا في طُلَيْطلة يوم العيد.»
قال الرئيس: «وماذا كانت نتيجة المحاكمة؟»
قال: «لا أدري، ولكنني سمعت أن الميتروبوليت أبدى من البسالة والحمية في أثناء المحاكمة ما أفحم به خصومه.»
وكانت فلورندا ترهف السمع لقول الراهب، وتودُّ أن تصل إلى خبر ألفونس.
فقال الرئيس: «وهل تظن أن تلك التهمة صحيحة؟»
قال الرسول: «هل أقول كل ما سمعته؟»
فقال الرئيس: «نعم، قل.»
قال الرسول: «بلغني من أهل القصر الملكي أن لمحاكمة الميتروبوليت أوباس سببًا سريًّا، لم يطَّلع عليه إلا قليلون.»
فقال الرئيس: «وما ذلك؟»
فقال الرسول: «بلغني أن الأمير ألفونس كان خاطبًا فتاةً من أهل القصر الملكي، وأن رودريك زاحمه عليها وأرادها لنفسه فوبَّخه أوباس على ذلك، فغضب عليه وأراد الانتقام منه.»
فقال الرئيس: «وماذا تم بألفونس وخطيبته؟»
قال: «أما ألفونس فقد أرسله الملك في مهمة حربية إلى بلد بعيد ليخلوَ له الجو بعده، فكان ذلك سببًا لتدخل أوباس. أما الخطيبة فقد بلغني أنها فرَّت من طُلَيْطلة والناس يستغربون فرارها من القصر الذي كانت فيه والحراس من حوله. وأما الملك فقد اشتد غضبه على تلك الفتاة وعوَّل على الانتقام منها حين يظفر بها.»
فقالت العجوز: «وكيف يظفر بها، وأين هي؟»
ولا نظن أن الراهب لم يلحظ من قرائن الأحوال أن تلك الفتاة هي الخطيبة التي فرَّت، ولكنَّه تجاهل الأمر مجاراة لما أراده الرئيس فقال: «أكَّد لي بعض العارفين أن الملك سدَّ عليها الطُّرق وأقام الأرصاد وبث العيون في كل أنحاء المملكة، ولا يكاد يمر يوم من غير أن يحملوا إلى قصره فتاة أو فتيات ممن يعثرون عليهن في أثناء التفتيش، فإذا وقع بصره عليهن أطلق سراحهن لأنهن غير تلك الفتاة.»
فلما سمعت فلورندا ذلك اضطرب قلبها لأول وهلة، ثم شكرت الله لدخولها هذا الدير في كنف ذلك الرئيس المحب، وعوَّلت على البقاء هناك حتى يعود أجيلا من عند والدها.
ولكنها أحبَّت السؤال عن مقر ألفونس فأومأت إلى خالتها أن تسأل عنه فقالت: «وهل عرفتَ المكان الذي ذهب إليه الأمير ألفونس؟»
قال: «لم أستطع الوقوف عليه صريحًا، ولكنني سمعت أن الملك أنفذه مع فرقة من الجند إلى أستجة، ولم أتحقق تمامًا لأني لم أدقِّق في البحث عنه.»
فأومأ الرئيس إلى فلورندا أن تكتفي بما تقدَّم ريثما يتاح له الذهاب إلى طُلَيْطلة والبحث عن كل ذلك، فسكتت ثم وقف الرئيس وصلى صلاة وجيزة، فلما فرغ انصرفت فلورندا وهي غارقة في لُجَج التأمل لِمَا سمعته عن أوباس وسَجْنه وعن اندفاع رودريك في البحث عنها، فلم ترَ لها مندوحة عن البقاء مستترة في ذلك الدير لترى ما يأتي به القدر، على أنها علَّلت نفسها بالاطلاع على تفاصيل أخرى بعد رجوع الرئيس من طُلَيْطلة.
ولكن الطبيعة أبت إلا معاكستها فتغير الطقس وتوالت الأمطار وتكاثرت الثلوج حتى سدت طرق الجبال، وانقطعت السابلة فمنعت الرئيس من السفر أيامًا عديدة، وهو على مثل الجمر، فكيف بفلورندا والجمر يتَّقد في قلبها وفي رأسها، وخصوصًا بعد أن مضى شهر وبعض الشهر ولم يرجع أجيلا من مهمته إلى والدها فزاد اضطرابها وتضاعف قلقها، وانقبضت نفسها حتى تصوَّرت أن الدنيا قد سُدَّت في وجهها، فقد فقدت خطيبها وابتعدت عن والدها، وسُجِن نصيرها وأصبحت طريدة شريدة ثم سيقت إلى ذلك الدير، فأقامت فيه قيام المجرمين في السجون. وما كادت تفرح بعطف ذلك الرئيس حتى حالت الطبيعة دون خروجه، وأقامت بينه وبين طُلَيْطلة سدودًا من الثلج. ولكنها كانت إذا تراكمت عليها الهموم وغشت بصيرتها السويداء لجأت إلى الصلاة، فإذا صلَّت انفرجت كربتها وعادت إليها آمالها، فإذا فرغت من الصلاة وكان الطقس صحوًا، صعدت إلى السطح مع خالتها تتطلع إلى الطرق البعيدة لعلها ترى شبحًا قادمًا تتوسم في مقدمه فرجًا، ولكنها لم تكن ترى سوى جبال من الثلج تنتهي لدى باب الدير، ولولا انشغال الرهبان بجرفه في كل صباح لغاب كله فيه.
وكان الرئيس يتردد إليها فيطمئنها ويعدها خيرًا ويريها أبواب الفرج، ومرجع كلامه إلى ثقته الكبرى بتعقُّل أوباس وحسن درايته وعظم سطوته على العقول والقلوب. ولم تكن هي أقل منه إعجابًا به لأنها شبَّت وهي لا تسمع حديثًا عن أوباس إلا مشفوعًا بعبارات الإطراء والتبجيل حتى خُيِّل لها أنه قادر على كل شيء، ولم تصدِّق أن أحدًا يستطيع أن يصيبه بأذى أو أن يتغلب على رأيه. وكان سرجيوس يفكر في طريقة لإخراج أوباس من السجن، فإذا خرج جاء به إلى الدير ليقيم بسلام وسكينة، ولكنه لم يهتدِ إلى سبيل أمين بعد أن بلغه من تشديد الملك في الاحتفاظ به والسهر على حراسته.