الثلوج والرسول
وأفاقت فلورندا في صباح يوم من أواخر فبراير على هبوب العواصف وهطول المطر وأكثره من الثلج أو البَرَد، واشتدت الأنواء والرعود والبروق نحو ساعتين، ثم انقطع المطر وسكنت الرياح بغتة — وذلك ما يحدث في هذا الشهر في البلاد المعتدلة، فإن الجو يتقلَّب في اليوم الواحد من أيامه تقلُّبات شتَّى بين صحو ومطر ونَوْء وصفاء — فلمَّا توقفت الأمطار وأطلت فلورندا من باب الغرفة، فإذا بفناء الدير قد غمرته الثلوج حتى باب غرفتها، ومع ذلك فالشمس قد أشرقت على ذلك الثلج، فتكسرت أشعتها عليه وانحل النور في بعض الأخاديد، فبدا الطيف الشمسي بألوان قوس قزح، فوقفت فلورندا وهي تتأمَّل ذلك المنظر الجميل، ثم ما لبثت أن رأت الرهبان يتقاطرون من كل جانب وفي أيديهم المجارف والمعاول، وأخذوا في جرف الثلج وحمله إلى الخارج، فأعجب فلورندا ذلك المنظر وأحست بانبساط نفسٍ لم تشعر بمثله منذ أشهر. والإنسان إذا أمطرت السماء ثم صحت وصفا جوُّها يشعر بانبساط وخاصة إذا سبق المطرَ ضبابٌ متكاثفٌ أو غيومٌ متلبدةٌ، ولكن البرد يشتد في ساعة الصفاء عما كان عليه في ساعة الكدر؛ ولذلك فإن فلورندا لم تطل الوقوف لدى ذلك الباب، فدخلت والتفَّت بقبائها المبطن بالفرو وأحكمت الالتفاف به وعادت وإذا بالراهب الشيخ — حارس الباب — مقبل وقد استبدل العكاز بمجرفة يجرف بها الثلج بنشاط الشباب، وكان إلى ذلك لا يزال عاري الساقين والزندين، واكتفى من وسائل الدفء بلف كوفية من الصوف حول صدغيه وأذنيه.
فلما رأته فلورندا على تلك الحال أعجبت بتأثير العادة على الإنسان، ولبثت واقفة تنظر إلى شيخنا الراهب وغيره من الرهبان وهم يشتغلون وشانتيلا يشتغل معهم. فلم تمضِ برهة حتى نظفت الباحة، وكان بعضهم يجرف الثلج عن السطح أيضًا. فلما فرغ الرهبان من العمل خرجت فلورندا وبربارة، وقد أعجبها صفاء الجو وإشراق الشمس، وصعدتا إلى السطح وأطلَّتا على الجبال على سبيل الفرجة، ولم تقفا على السطح برهة حتى أثَّر الزمهرير في فلورندا ولم يغنِ القباء ولا الكساء شيئًا. ثم تغيَّر وجه السماء بغتة وتكاثفت الغيوم وأوشكت السماء أن تمطر، فهمت فلورندا بالرجوع فرأت الشيخ الراهب لدى باب حجرته على السطح وهو يشير إليها أن تأتي إليه، فتحولت وتبعتها خالتها حتى أقبلتا على الغرفة، فإذا هناك نار موقدة في إناء يشبه الموقد، فلما دخلت أحست بالدفء وشعرت بلذة غريبة، فقال لها الراهب: «اجلسي يا بُنيَّة إلى جانب المدفأة فإن البرد شديد جدًّا اليوم.» فجلست وخالتها إلى جانبها، وكان جلوسهما إلى جانب النافذة، وجلس الراهب أمام النار وأخذ يقصُّ على ضيفتيه أحاديث شبابه وكهولته على سبيل التسلية، والخالة العجوز تشاركه في تحقيق بعض النقط وإن كانت هي أصغر منه سنًّا.
وكانت فلورندا في أثناء ذلك تنظر من تلك النافذة إلى ضواحي الدير ولا يقع بصرها على غير الثلوج إلا قليلًا، والراهب والخالة مشغولان في الأحاديث، وهما يحسبان أن فلورندا مصغية لما يقولان، ثم وجهت الخالة الكلام إلى فلورندا وتوقعت الجواب، فرأت فلورندا في شغل عنها لأنها تتفرس في شيء وراء النافذة وقد ظهر الاهتمام على وجهها، فالتفتت الخالة فإذا هناك دابة تمشي صاعدة نحو الدير وعليها راكب، فأمعنت النظر فيه كأنها تعرفه، فسمعت فلورندا تقول: «أجيلا، أجيلا.» فلما سمع الراهب قولها نظر إلى القادم، ولم يكن يعرفه فقال: «ومن هذا يا بُنيَّة؟»
قالت: «هو رسولٌ أرسلناه في مهمة وقد عاد إلينا، فهل تسرع في فتح الباب له حتى لا يضر به البرد؟»
فقال: «سمعًا وطاعةً.» وتناول عكازه ونزل، وظلت فلورندا وخالتها مطلتين من النافذة لتتحقَّقا من الأمر، فإذا هو أجيلا بعينه على جواد. ولما دنا من الدير وقف الجواد وأجيلا ينظر إلى الدير ويضحك ضحكًا شديدًا، فلما رأته فلورندا يضحك استبشرت وانبسطت نفسها، ثم نادته قائلة: «أجيلا …» فلم تسمع جوابًا وكأنها لا تخاطب أحدًا، فظنت أن هبوب الريح قد أضاع صوتها قبل وصوله إليه، ثم رأت الراهب الشيخ قد خرج من الدير حتى إذا أقبل عليه شهر عكازه وأخذ يضربه ضربًا عنيفًا وأجيلا لا يتحرك، والراهب يزداد عنفًا في الضرب ويصيح ويستغيث بالرهبان الآخرين، فخرج اثنان منهم وفي يد كل منهما عصا غليظة، فأمسك أحدهما بزمام الفرس وعمل الآخر على ضرب الراكب حيثما اتفق وهو ساكت، فاستغربت فلورندا ذلك وتولتها الدهشة لما رأته من خشونة ذلك الضرب لغير سبب يدعو إليه، فجعلت تصيح بالرهبان تستمهلهم وتستفهم عن سبب تعديهم وهم لا يبالون بكلامها، فغضبت وتحولت من تلك الغرفة تريد غرفة الرئيس لتشكو إليه قسوة رهبانه، وسارت الخالة في أثرها حتى إذا نزلتا إلى باحة الدير قالت فلورندا لخالتها: «اذهبي أنت إلى الرئيس وأنا أخرج لمخاطبة أولئك الرهبان.» ثم نادت شانتيلا فلم تسمع جوابًا، فأسرعت إلى باب الدير حتى خرجت منه، فرأت شانتيلا مع الرهبان يضرب أخاه أيضًا، وقد أنزلوه عن الفرس وأمسك أحدهم برجليه، والآخر بيديه، وأخذ الاثنان الآخران يضربان على القدمين والكتفين ضربًا موجعًا، فازدادت دهشةً واستغرابًا وصاحت: «شانتيلا، ما هذا العمل؟» وهو لا يرد عليها ولا يبالي بقولها. وبعد هنيهة رأتهم قد همُّوا بأجيلا فحملوه وأسرعوا به إلى الدير، فوقفت فلورندا على حافة الطريق فإذا هو بين أيديهم لا يُبدِي حراكًا، فظنَّته قد مات من شدة الضرب فكادت تبكي لغيظها وأسفها، ولكن الاستغراب ظل غالبًا عليها، فلما دخلوا به سارت هي في أثرهم فصعدوا إلى غرفة حارس الباب، فتعقبتهم وهي لا تجسر على الكلام لئلا يصيبها حظ من ذلك الضرب، ولكنها كانت تتلفت يمينًا وشمالًا لعلها تجد الرئيس قادمًا لتستنجد به أو تستفهم منه، فإذا به قد أقبل مسرعًا على السطح من جهة أخرى والعجوز في أثره وهي تشير إلى فلورندا أن تطمئن.
فأسرعت فلورندا إلى الرئيس وسألته عن سبب ذلك فقال: «لا تجزعي، فإنهم إنما يفعلون ذلك لحفظ حياته.»
قالت: «وكيف يحفظون حياته وقد أماتوه من الضرب؟»
فضحك الرئيس وقال: «يظهر أنك لم تسمعي (بالدنق).»
قالت: «وما الدنق، يا مولاي؟»
قال: «هو الموت من البرد الشديد، فالظاهر أن رسولك هذا أوشك على أن يدنق من البرد، فعمدوا إلى ضربه ليتحرك دمه وتعود إليه الحرارة فلا يموت …»
قالت: «لم يكن يشكو بردًا مطلقًا، بل رأيته يضحك سرورًا.»
فضحك الرئيس حتى قهقه وقال: «والضحك في البرد من علامات الدنق.» قال ذلك ودخل الحجرة وهو يقول: «اسقوه قليلًا من الخمر وأدنوه من النار.»
فأسرع الراهب حارس الباب إلى إبريق في أحد أركان الحجرة، صبَّ منه في كأس ودنا من الرجل، وتقدمت فلورندا نحوه أيضًا وتفرَّست في وجهه فرأته قد فتح عينيه، ولكنه لا يزال منحل القوى، فتحققت مما قاله الرئيس وشكرت الله على إسعافه بالوسائل الفعالة.