القائد كوميس
أما رودريك فقد جاءه كتاب صاحب بوتيكة ينبئه بنزول العرب بلاده، فأطلع الأب مرتين عليه قبل عرضه على رجال دولته، فأوهمه الأب المذكور أن العرب إنما يريدون الغزو لا الفتح، فإذا أصابوا غنيمة عادوا على أعقابهم، وأنهم لا يجسرون على مناوأة ملك القوط، وفي الحقيقة إن العرب كثيرًا ما كانوا يسطون على ما يلي مملكتهم من الثغور فيغزون البلاد ويعودون بما يقع في أيديهم من ماشية أو نحوها؛ فارتاح رودريك لذلك الرأي لقربه من المعقول ولم يُطلِع رجال حكومته على الكتاب. ثم جاء طُلَيْطلة بعض الذين شاهدوا العرب بخيلهم وإبلهم، وقد ملكوا الجبل (جبل طارق) ومعهم يوليان صاحب سبتة يدلهم على عورات البلاد ويسهل عليهم الفتح، وأخبروا قائد الجند العام بذلك.
وكان قائد جند رودريك رجلًا باسلًا دمويَّ المزاج حادَّهُ، اسمه الكونت كوميس، له وجاهة وسطوة عند رودريك. وكان قد لحظ فيه ميلًا إلى فلورندا، فنصحه أن يتركها، فلم يكترث بقوله فتركه وشأنه وفي نفسه شيء عليه، فلما سمع بفرار الفتاة ومحاكمة أوباس نصح له سرًّا أن يعدِلَ عن محاكمة هذا الرجل لئلا يفضحه. وكان من جملة نصائحه له ألَّا يُصغيَ إلى مرتين وغيره من جماعة الأكليروس، فلما جاءه الخبر بنزول العرب إسبانيا ومعهم يوليان، اعتز بفوزه فيما أشار به على رودريك من أمر فلورندا فزاده ذلك جرأةً عليه واستخفافًا به، واستغرب كتمانه نزول العرب عنه، وكان يستبعد ألَّا يكون على علم بنزولهم، فذهب إليه ذات صباح وهو في مجلسٍ حضره كبار الموظفين وكلهم كونتات. وكان أصحاب مناصب الدولة الكبرى عند القوط لا يزيدون على عشرة منهم: (١) ناظر الأرضين الملكية واسمه كونت الوطن. (٢) رئيس الإصطبلات ويسمى كونت الإصطبل. (٣) كاتب سر المملكة واسمه كونت السجلات. (٤) رئيس القضاة وهو كونت النعم. (٥) قائد الجند. (٦) صاحب الخزنة. (٧) قَيِّم القصر الملكي. ومن أصحاب رتبة الكونتية عندهم أيضًا رئيس السقاة ونحوه ممن يخدمون الملك.
كان مجلس الملك حافلًا بهؤلاء والأب مرتين بجانبه، فدخل الكونت كوميس وسلَّم كالعادة، وأمارات الغضب بادية على وجهه، وبعد أن استقرَّ به المجلس سأل الملك إذا كان قد بلغه شيء من أخبار بوتيكة.
فقال الملك: «لا أدري، هل سمعت شيئًا مهمًّا؟»
فقال بصوت خشن: «سألت حضرة الملك: هل جاءه خبر مهم من تلك المقاطعة؟»
فغضب رودريك لهذه المراجعة بما فيها من الجسارة والقِحَة فقال: «ما معنى هذه المراجعة بعد ما سمعته من جوابي؟» واعتدل وتصدَّر وجعل يداعب شعر رأسه المرسل على كتفيه وقد بدا الغضب في عينيه، وأصبح سائر الكونتية ينظرون بعضهم إلى بعض وإلى كوميس ورودريك، ويتساءلون عن سبب هذه الجسارة.
أما كوميس فلما رأى الحضور ينتظرون ما يقوله، وقد شخصت أبصارهم نحوه بعد ما أبداه رودريك من الجفاء، عَظُم الأمر عليه. وقواد الجند من أعظم الناس أنفة وشدة، إذا حمي غضبهم لا يبالون بالتيجان ولا بالصوالجة ولا يعبئُون إلا بشدة بطشهم، وخصوصًا في ذلك العصر والكلمة النافذة لصاحب الجند القوي. وكان كوميس فوق كل ذلك قد استصغر شأن الملك مما علمه من تهوره في مسألة فلورندا وأوباس. فلما سمع كلامه بتلك اللهجة الشديدة قال: «أظن حضرة الملك لا يجهل معنى سؤالي ولو تجاهله. معنى سؤالي أيها الملك أنه حدث في المملكة ما يدعو إلى إطلاعنا عليه وقد كتمته، وهو من الأهمية بحيث يجعل المملكة في خطر.»
فضجَّ الحضور ومالوا إلى الاطِّلاع على جلية الخبر، فلم يكن من الأب مرتين إلا أنه وقف بهيئته المعهودة، وتولَّى الجواب عن الملك ووجَّه خطابه إلى كوميس قائلًا، وهو يتكلَّف التأني ويُظهِر الاستخفاف: «أظنك تعني ما جاء من أمر أولئك العرب الذين نزلوا سواحل بوتيكة، فهؤلاء إنما نزلوا للغزو والنهب ولا يلبثون أن يرجعوا إلى بلادهم، ولو كان هذا الخبر مهمًّا لعرضه جلالته على مجلس الأساقفة أولًا.»
وكان كوميس يحتقر الأب مرتين ولا يعبأ بأقواله، فوجَّه جوابه إلى الملك قائلًا: «أما الاستخفاف بأولئك العرب فمن الخطأ الفادح، وخصوصًا إذا عرف جلالته أنهم قادمون ورائدهم الكونت يوليان صاحب سبتة (قال ذلك بنغمة خاصة). وأما إطلاع المجمع المقدس على أمثال هذه الأخبار قبلنا فللملك الرأي فيه، ولكنني أظن أن قائد الجند أولى بالاطِّلاع على ذلك من سواه، وعليه هو حماية المملكة. وأما السادة الأساقفة فما عليهم إلا الصوم والصلاة.» وكان يتكلم والتهكُّم ظاهر في كل عبارة، ولم يشأ أحد من الحضور التدخل في هذا الحديث لدقته، وفيهم من أدرك إشارة كوميس إلى يوليان صاحب سبتة وما وراء ذلك التعريض والتلميح، ولكنهم ظلوا صامتين.
أما الملك فاشتد غضبه وأحسَّ بما رماه كوميس من السهام الحادة، وأدرك خطورة مركزه، كما أدرك أنه في حاجة إلى قائد الجند أكثر من حاجته إلى سائر رجال الدولة، ولكن عَظُمَ عليه الإغضاء بعد مبادأته بالجفاء، فقال له: «لم يكن من حقك يا حضرة الكونت أن تخاطبني بمثل هذا الكلام، بل كان الأجدر بك أن تتفاهم معي بأسلوب آخر.»
فقال القائد: «إن الملك لم يترك لنا سبيلًا للتفاهم معه، وقد جعل هذا القس لسان حاله والمتكلم عنه، والكل يعلمون أن هذا وأمثاله لا يصلحون لغير العبادة، وقد جعلهم الملك شركاءه في مهام المملكة. ولو أخلصوا له النصيحة لما بلغت بنا الحال إلى هذا الحد.»
ولا يخفى أن مثل هذا التصريح في ذلك العصر، وبخاصة في طُلَيْطلة، كان يعد ضربًا من الكفر لِمَا علمناه من سطوة الأكليروس هناك، ولولا تغلُّب الحدة على ذلك القائد ما صرَّح بما صرَّح به، ففتح بهذه الجسارة بابًا يؤاخذه منه رودريك ويتغلَّب عليه بحجته؛ فحوَّل وجهة الكلام إلى الدفاع عن الأساقفة، وقد أراد بذلك أن يُخفي خطأه، فقال: «ألم تكتفِ بالجسارة على مقام الملك حتى تجاسرت على مقام الأساقفة؟ إن ذلك خارج عن حدود منصبك.»
وكان الأب مرتين يرتعد من شدة الغضب، فلما رأى الملك لا يزال على ثباته تدخَّل وخاطب كوميس قائلًا: «ولا أظنك تجهل يا حضرة الكونت أن كلمة من جلالة الملك أو من أحد الأساقفة تكفي لتجريدك من هذا المنصب.»
ولم يكن كوميس يتوقع هذا الاستخفاف من الملك نفسه، فكيف به من ذلك القس؟ فوقف ويده على قبضة سيفه وقال: «لقد خسرتم بهذا الكلام سيف كوميس وأنتم في أشد الحاجة إليه.» وخرج وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا.
أما رودريك فقد كان يجادل هذا القائد مدافعة، ولم يكن يريد أن يغضبه في هذا المقام؛ ولذلك فإن عبارة مرتين ساءت الملك أكثر مما أساءت إلى كوميس. ولم يجسر أحد من الحضور على التوسط في الأمر لئلا يشتد الخصام وقد وقع ما كانوا يخشونه ثم وقف الملك فعلموا أنه يريد فض الجلسة فخرجوا إلا مرتين. فلما انفردا التفت الملك إليه وقال: «أهكذا أغضبت قائدنا وصاحب جندنا ونحن في أشد الحاجة إليه؟»
قال: «أتلومني أيها الملك لأنني نهرته بعد أن أهانك وأهان السادة الأساقفة جميعًا؟ إن الصبر على ذلك ذلٌّ لا يُطاق.»
فقال الملك: «أنت تعلم أن كوميس أعظم قوادنا، ولم نكن في وقت من الأوقات أشد حاجةً إليه مما نحن الآن، والعدو ببابنا وولاتنا يدلُّونه على نواحي الضعف عندنا، سامحك الله على هذا الخطأ. ألا يكفي ارتكابنا الخطأ الأول بإخفاء تلك الأخبار عنه وعن سائر رجال الدولة حتى نرتكب خطأً آخر شرًّا منه؟»
فاستاء الأب مرتين من هذا التعريض وقال: «كأنك تقول إني أنا سبب ذلك الخطأ، فإذا كنت قد أشرتُ عليك بمشورة فاسدة، فقد كان الأجدر بك ألَّا تقبلها.» قال ذلك ومشى في وسط القاعة ويده اليسرى وراء ظهره، والأخرى يمسح بها ما تناثر من اللعاب على شفتيه ولحيته.
فشقَّ ذلك على الملك وعدَّها إهانة أخرى وقال: «أتكون مخطئًا وتضيع منا أحسن قوادنا ثم تنقم علينا وتستخف بأقوالنا ويكون الذنب مع ذلك ذنبنا؟»
فأجابه مرتين وهو يهز رأسه ويمشي دون أن يلتفت إليه: «صدقت أيها الملك، إن الذنب ذنبي، والخطأ كله خطئي، وكل هذه الشرور من نتائج أعمالي؛ لأني لو لم أُسِئْ إلى بنت صاحب سبتة ما حاول والدها أن يكون عونًا للعرب على فتح بلادي.» ثم وقف بغتة وحوَّل وجهه إليه، وقد اشتد غيظه وارتعدت أطرافه وزاد لسانه تلعثمًا وتمتمة وقال: «أتخطئ يا رودريك ثم تلصق الخطأ بشيبتي، ثم إذا أهين الأساقفة كان الدفاع عنهم لا يعنيك وهم الذين ولَّوك هذا المنصب ونصروك وعضَّدوك؟ ألم يكونوا هم الذين دافعوا عنك بالأمس وسط المجمع واتهموا رجلًا بريئًا بتهمة لا أساس لها؟ ثم تقول إني كنت سببًا في خسارة ذلك القائد، وأنت إنما خسرته بسوء تدبيرك وانهماكك فيما لا ينفعك. وبسوء تدبيرك أيضًا خسرت الأب مرتين الذي لم يكن ينبغي أن تنسى تعبه في مصلحتك ودفاعه عنك.» قال ذلك والتفَّ بردائه وخرج من القصر.
فلما خرج مرتين ظل رودريك وحده وقد خلا بنفسه وتصور عظم الخطر المحدق به، فجلس على كرسيه وألقى رأسه على كفيه وراجع ما مرَّ به من الأحداث في الأشهر الأخيرة، وتذكر فلورندا ووالدها، فتحقق لديه أن يوليان إنما انحاز إلى العرب غضبًا لها، فاشتد حنقه وتراكمت عليه الهواجس وعَظُم عليه الأمر، ولا سيما بعد أن فقد قائده وأساء إلى قسه فتشاءم من هذين الحادثين.