سرجيوس وأوباس
واتفق وصول الرئيس سرجيوس ثاني يوم الخصام، فنزل في الكنيسة الكبرى على جاري عادة الأساقفة ورؤساء الأديرة إذا جاءوا طُلَيْطلة، فلقي هناك الأب مرتين وعهده به في قصر الملك، فسلَّما وتخاطبا مليًّا في شئون مختلفة، والرئيس يستطلع ما في نفس مرتين. وكان الأب مرتين على كبر سنه حاد المزاج سريع التأثر متسرعًا فيما يخطر له كما تبين لك من وصف أخلاقه، فلم يخفِ عن سرجيوس شيئًا مما وقع بالأمس له وللكونت كوميس. وحملَتْه حدة مزاجه وتسرُّعه على الإيقاع برودريك والتنديد بفساد رأيه كأنه من ألد أعدائه، وهو انقلاب غريب لا يحدث إلا عند أصحاب المزاج العصبي أو الدموي الحاد.
أما سرجيوس فقد جاء طُلَيْطلة وهو لا يتوقع سبيلًا إلى مقابلة أوباس أو إنقاذه، فلما لقي مرتين هان عليه ذلك، فذكر أوباس بين يديه وزعم أنه سمع بسَجْنه. فلما سمع مرتين اسم أوباس تذكر ما كان من اعتدائهم عليه وأنه سُجِن ظلمًا، أو على الأقل أُسيء إليه بتهمةٍ لم تثبت عليه. ونظرًا لغضبه على رودريك رأى في انتصاره لأوباس ما يشفي بعض غليله انتقامًا من ذلك الملك، فقال لسرجيوس: «إن أخانا أوباس سُجِن لتهمةٍ اتهمه بها رودريك، وقد حوكم فلم تثبت عليه التهمة فأُجِّلت المحاكمة وسُجِن إلى أجل غير مسمًّى ريثما تعاد محاكمته، ولكن يظهر أن الملك لن يطلب العود إليها.»
فقال سرجيوس: «وهل تظن أنه يظفر بالبراءة إذا استأنفوا محاكمته؟»
فقال مرتين: «لا ريب عندي في ذلك.»
قال: «ولماذا لم يطلب الاستئناف؟»
فابتسم مرتين وهزَّ رأسه وهو يقول: «وكيف يطلب ذلك وهو محجور عليه في غرفة لا يرى فيها أحدًا؛ لأن رودريك منع الناس من الدخول إليه.»
فقال سرجيوس: «وهل من سبيل إلى رؤيته بغير إذن الملك؟»
فقال مرتين وهو يبتسم: «إن ذلك هين عليَّ. فهل ترى أن نحرِّض أخانا المذكور على طلب الرجوع إلى المحاكمة؟» لم يقل ذلك رغبةً في نصرة أوباس ولكنه توهم أن رودريك يضطر لاسترضائه كجاري عادته كلما أغضبه؛ ولذلك فإنه لما خرج من حضرته بالأمس كان يتوقع ألَّا تغيب الشمس قبل أن يبعث إليه ليسترضيه، فلما أصبح الصباح ولم يأتِهِ من قِبَله أحد اشتد حنقه، فلما خاطبه سرجيوس بشأن أوباس أراد أن يستنهضه لاستئناف المحاكمة، لاعتقاده أن رودريك يخاف ذلك الطلب ولا سيما بعد ما ظهر من غضب يوليان وكوميس، وعندئذٍ لا يرى له مندوحة عن استرضاء مرتين لتدارك الأمر. وليس في ذلك من مصلحة لأوباس لأنهم لو رضوا بإعادة المحاكمة لاقتضى أن يجمعوا الأساقفة من أقطار المملكة كلها، ولا يتأتى اجتماعهم إلا بعد أسابيع.
أما سرجيوس فاستبشر بما سمعه وقال: «إذا أدخلتني إليه نبهت ذهنه إلى ذلك.»
فنهض مرتين للحال وأتى بدواة وقلم وكتب رقعة إلى الضابط الموكل بحراسة أوباس أن يأذن للرئيس سرجيوس بمقابلته، فأخذ سرجيوس الرقعة وهو لا يصدق أنه فاز بها وسار مسرعًا إلى أوباس.
أما أوباس فكان لا يزال في سجنه وقد قطعوا كل علاقة بينه وبين سائر العالم، وقد تلقى ذلك بصدر رحب، فهو يغالب المصائب بالصبر، ولم يكن يشعر بوحشة الانفراد لما في ذهنه من المسائل التي لا يُستطاع التأمل فيها إلا بالاعتزال عن الناس. ولم يكن يعد نفسه مسجونًا لاعتقاده ببراءة ساحته، ولكنه كان يأسف لضعف الطبيعة البشرية؛ لأنها علة متاعب بني الإنسان، وبخاصة إذا كانت في الرؤساء وأولي الأمر؛ لأن غلطة أحدهم تجر الويل إلى المئات والألوف من الأبرياء. وكان إذا فكر فيما سُجِن من أجله أشفق على رودريك وأمثاله لِمَا هم فيه من الغرور وما يرتكبونه من الجرائم والمعاصي التماسًا لِلَذَّة وقتية أو سعيًا في وهم زائل. فكانت هذه التأملات وأمثالها من غرائب ما يجري في الطبيعة تستغرق منه الساعات والأيام، وهو سابح في عالم الفلسفة، يحسب نفسه في نعيمٍ وسائر الناس في شقاء، لولا ما كان يعترض تأمُّلاته من أمر فلورندا وألفونس. على أنه وكَّل أمرهما إلى الله؛ إذ لا حيلة له في مساعدتهما أو في معرفة السبيل إليهما.
فلما كان اليوم الذي جاءه فيه سرجيوس، دخل عليه حارسه وقال له: «إن رئيس دير الجبل يريد مقابلتك.» فلما سمع اسم ذلك الرجل عرفه وخفق قلبه خفقان المفاجأة لطول عهده بالاعتزال، وأذن له وهو يستغرب مجيئه وحصوله على الإذن في الدخول عليه.
وكان سرجيوس يتوقع أن يرى تغييرًا في ملامح أوباس بعد ما سمعه من طول حبسه. فلما دخل عليه رآه مقبلًا لاستقباله بثوبه الكهنوتي؛ لأنه لم يبدِّله منذ أقام هناك، إلا قلنسوته فلم يكن يلبسها. فمشى إلى سرجيوس وشعره مرسل على ظهره وكتفيه، وقد زادته إقامته في تلك الخلوة هيبةً وجلالًا.
فلما تلاقت الأبصار أسرع سرجيوس وأكبَّ على يد أوباس كأنه يريد تقبيلها فمنعه من ذلك، وعانقه وضمه إليه ثم تصافحا وسرجيوس لا يستطيع إمساك دموعه، وأوباس ينظر إليه ويده على كتفيه لطول قامته بالنسبة إليه. ثم دعاه للجلوس، فجلسا على مقعد متحاذيين وسرجيوس يتأهب للكلام فسبقه أوباس قائلًا: «أهلًا بصديقي وأخي سرجيوس، من أين أتيت الآن ولماذا؟»
قال: «أتيت من دير الجبل ولا غرض لي إلا رؤية الميتروبوليت أوباس فأحمد الله على سلامته. ولا بأس عليه مما قاساه من البلاء، فإن الله يجرب عباده الصالحين.»
فقال أوباس: «أنت من أهل العلم والحكمة وتحسب حبسي في هذه الغرفة بلاء، أليس الناس جميعًا محبوسين على هذه الأرض، وآجالهم قصيرة، وقواهم محدودة، وأعمالهم لا ترضي ضمائرهم؟ وهل من فرجٍ إلا في العالم الباقي لِمَن أحسن عملًا وكان من الصالحين؟ وأما أهل الظلم منهم فإنهم يشقون في الدنيا والآخرة، فلا حاجة للإشفاق على سجين بريء نقي السريرة، فإن سجنه وإن طال قصير، ولكن ابكِ أناسًا منحهم الله السلطة على إخوانهم من بني الإنسان ليحكموا بينهم بالعدل ويكونوا عونًا لهم على دنياهم، فظلموهم وأساءوا إليهم وأهرقوا دماء الألوف منهم في سبيل لقمةٍ يأكلونها أو جيفة ينغمسون فيها، ولكنهم إنما يظلمون أنفسهم ولا يعلمون.» قال ذلك بصوتٍ هادئ لا يتخلله اضطراب ولا حدَّة ولا شيء من عواقب الانفعال النفسي.
فلا تسل عن إعجاب سرجيوس بما سمعه من الحكمة والموعظة، على أنه أراد أن يؤدي المهمة التي جاء من أجلها فقال: «لقد صدق مولاي. ولكنَّ الله كثيرًا ما يعاقب الظالمين ويثيب المحسنين، وهم في هذه الدنيا عبرة لسواهم. وقد أتيتك الآن بأخبار جديدة لا ريب أنك مشتاق للاطلاع عليها؛ ألا تريد الاطلاع على ما كان من أمر فلورندا بعد فرارها من بين يدي رودريك؟»
فلما سمع اسمها تحرَّكت فيه عاطفة الحنان وبدأ الاهتمام في وجهه ونسي ما كان من فلسفته واستخفافه بحوادث الطبيعة. والإنسان مهما يكن من تعقُّله وزهده لا يلبث إذا تحركت فيه عاطفة الحب أن يهتم بالحياة وأهلها. ولولا الحب لانحلَّت عُرى المجتمع البشري كما ينحل نظام الكون وتتبعثر الأجرام السماوية إذا فقدت الجاذبية العامة. وأوباس أحب فلورندا من أجل ألفونس وزاد حبه لها وعطفه عليها بعد ما أصابها من الضنك وكان إنقاذها على يده، والمرء يزداد تعلُّقًا بالصغير كلما زاد ضعفه. فلما سمع أوباس اسم فلورندا هبَّت عواطفه من رقادها وإن لم يبدُ ذلك على محيَّاه إلا قليلًا وقال: «وهل تعلم شيئًا عنها؟ وأين هي الآن؟»
قال سرجيوس: «هي في دير الجبل.»
فقال أوباس: «وكيف وصلت إلى هناك؟»
فقصَّ عليه ما علمه من خبرها منذ خروجها من قصر رودريك في طُلَيْطلة حتى جاءت إلى الدير، إلى أن قال: «وهي مقيمة عندنا في أمان وسكينة، ولكنها في قلق شديد عليك وعلى ألفونس لأنها لا تعرف مقرَّه، وهي — لو عرفته — لا تستطيع الذهاب إليه لِمَا أقامه رودريك من العيون والأرصاد في سبيلها.»
فاطمأن بال أوباس على فلورندا، ولكن ساءه تضييق رودريك عليها فقال: «ألا يزال هذا الرجل يتعقب هذه الفتاة ويضيِّق عليها؟»
فابتسم سرجيوس وقال: «ولكنه لا يلبث أن يقع هو في الضيق ويفرج عن الناس ولا سيما حضرة الميتروبوليت.» ورأى أوباس في عيني سرجيوس ما يدل على أمور مهمة يريد التصريح بها فأبدى الاهتمام وقال: «وكيف ذلك؟»